الرئيسية » أخبار الثقافة والفنون
المصريون القدماء

القاهرة - المغرب اليوم

لم تكن حضارة مصر القديمة مجرد حضارة بناء اقترن ذكرها بما خلفته من صروح معمارية شيدتها قبل آلاف السنين أو مقابر ملوك ونبلاء احتوت على فنون نحت ورسوم وإبداعات أدبية أو نصوص جنائزية، بل هي حياة صاغ تفاصيلها صانعوها، دون إغفال كل ما ساعدهم في تكوين هذا الكيان، حتى عادات الطعام والشراب التي احتلت مكانة بارزة في عقديتهم وفكرهم. وساعدت التربة الخصبة ووفرة المياه النهرية في أرض مصر سكانها على زراعة العديد من المحاصيل الغذائية، كما أسهما في توفير بيئة حياة لأسماك وطيور جاءت من كل حدب وصوب إلى هذه الأرض فخلقت تنوعا في مصادر الطعام استفاد منه المصري قديما.

واحتل الطعام أهمية في حياة المصريين كما يتضح من إحدى وظائف الملك نفسه والاعتقاد بأن "كلماته هي التي تخلق الطعام". وعرف المصريون زراعة العديد من الخضراوات كالبازلاء والثوم والبصل والخس، كما توجد نقوش تشير إلى معرفتهم منذ عصور مبكرة زراعة أنواع من الفواكه كالتمر، الذي يعد فاكهة شعبية لعموم السكان، إلى جانب فواكه التين والعنب والرمان والبطيخ، وهو ما ظهر في نقوش أبنية تعود إلى فترة عصور الدولة الحديثة، بحسب تقسيم عصور تاريخ مصر القديم.

وأوضحت "بي بي سي" ضمن تقريرها، حرص المصري القديم على عدم الإفراط أو اشتهاء الطعام حفاظًا على الصحة، كما تعمّد إظهار رشاقة قوام الجنسين في نقوشه ومنحوتاته الفنية وتعاليمه الأدبية، كما يتضح من نص مدون في تعاليم شخص يدعى "كاجمني" ترجمتها إلى الفرنسية كلير لالويت، أستاذة الأدب المصري القديم بجامعة باريس-سوربون، في دراسة خاصة ضمن سلسلة نماذج الفكر العالمي لمنظمة اليونسكو تحت عنوان "نصوص مقدسة ونصوص دنيوية" للنص المصري القديم:

"إذا جلست مع أناس كثيرين لتناول الطعام، فانظر إلى الطعام بلامبالاة، وإن كنت تشتهيه، فإن ضبط النفس لا يكلف الإنسان أكثر من لحظة، وعار أن يكون الإنسان شرها، فقدح من الماء يروي الغلة". وأكد المصري على ثقافة الاعتدال في وصية شخص آخر، يعرف باسم "خيتي بن دواوف"، لابنه "بيبي"، حيث يقول: "كن قنوعا بطعامك لو كان يكفيك ثلاثة أرغفة وقدحان من الجعة، فإن لم يكف بطنك فحاربها". ولا تساعد ندرة المصادر التاريخية في تقديم وصف تفصيلي لطرق طهي المصري لطعامه منزليا، إلا أنه يمكن تقسيم الطعام إلى قسمين اعتمادا على بيئة استهلاكهما وهما: طعام الدنيا وطعام الآخرة.

"طعام الدنيا"

لم يكن طعام المصري القديم في حياته اليومية مجرد إشباع لحالة من الجوع، بل كان يستعين ببعض هذه الأطعمة في صياغة وصفات طبية تساعده في التغلب على وعكات صحية وأمراض، وهو ما يتضح من توافر عدد من البرديات الطبية التي كُتبت لهذا الغرض تحديدا، أشهرها بردية "إيبرس"، نسبة إلى مكتشفها العالم الألماني إيبرس عام 1862 في مقابر طيبة، والتي تعود إلى عام 1550 قبل الميلاد في عهد الملك أمنحوتب الأول، الأسرة 18، وهي تضم مئات الوصفات الطبية الشعبية، من بينها وصفات استعانت بأعشاب طبية ونباتات عطرية وخضراوات كالبصل ونباتات أخرى كالصبار.

كما توجد برديتان على قدر كبير من الأهمية في هذا المجال، هما بردية "هيرست"، التي تعود إلى عهد الملك أمنحوتب الأول، وتحتوي على 260 وصفة طبية، وبردية "برلين" التي تعود إلى عصر الملك رمسيس الثاني، الأسرة 19، وتحتوي على 204 وصفات طبية، فضلا عن برديات أخرى مثل "إدوين سميث"، و"شستر بيتي".

استعان المصري قديما بخيرات جادت بها أرضه الزراعية، إلى جانب الغذاء، لتقديمها خلال الاحتفال بأعياد مختلفة قسمها علماء دراسات تاريخ مصر القديم إلى "أعياد رسمية"، مثل عيد الفيضان وبداية المواسم وعيد بداية السنة الجديدة، و"أعياد محلية"، وهي أعياد تقام في أقاليم مصرية محددة، و"أعياد دينية"، مثل عيد "أوبت" الكبير لموكب الإله آمون، و"أعياد زراعية"، مثل أعياد وفاء النيل وشم النسيم، الذي اشتهر منذ آلاف السنين حتى الآن بتناول أطعمة مثل البيض والسمك المملح والبصل، وعيد حرث الأرض وعيد الإلهة "رننوتت" ربة الحصاد، فضلا عن المناسبات الجنائزية.

اهتم المصري بعيد "أوبت" الديني الشعبي الكبير، على سبيل المثال، الذي كان ينتقل فيه الإله آمون، الإله الرسمي للدولة بحسب المعتقدات الدينية المصرية في عصور الدولة الحديثة وفقا لتقسيم تاريخ مصر القديم، من معبده في الكرنك إلى معبد الأقصر، وكان الملك يقدم خلال هذه المناسبة الشعبية القرابين المكونة من اللحوم والطيور والفاكهة واللبن والخبز والجعة. وقد تساعد محاولة تقسيم طبقات المجتمع في مصر القديمة في تسليط الضوء على العادات الغذائية التي تميزت بها كل طبقة من طبقات المجتمع.

كان طعام طبقة البسطاء من الشعب، كالفلاحين، وهم الطبقة الكادحة في أرض البلاد والأكثر فقرا، يعتمد على وجود الخبز والجعة وبعض الأطعمة البسيطة من الخضر، أما عن تناول لحوم الحيوانات فكان هؤلاء الفلاحون يؤثْرون الحقل ورعاية تلك الحيوانات، التي تساعدهم في أعمالهم الزراعية، على الاستمتاع بتناول لحومها، لذا عمدوا إلى ما يعرف بترشيد الاستهلاك لصالح مصدر رزقهم.

أما الطبقة الوسطى، التي تمثل عمال البناء وجماعة الحرفيين، فكانت أوفر حظا مقارنة بالفلاحين إلى حد ما، إذ اعتمدت أعمالهم على ما يعرف بنظام توزيع المؤن اليومية، التي تنوعت فيها الأطعمة بين لحوم وأسماك إلى جانب الخضر، ويشير إلى ذلك ما كشفت عنه أعمال التنقيب في مقابر عمال بناء الأهرام، في منطقة الجيزة، حيث عثرت على بقايا أطعمة، من بينها هياكل أسماك كانت توزع على العمال أثناء أداء مهام عملهم.

وعن الطبقة العليا وطبقة النبلاء، وهي الطبقة المترفة في المجتمع، تنوعت صنوف الطعام بين اللحوم والأسماك والطيور والخضراوات والفاكهة من أجود الأنواع، وكذا الخبز والفطائر والمشروبات وعلى رأسها النبيذ، كما يتضح من نقوش مقابر نبلاء الدولة على مر العصور، وأبرزها نقش في مقبرة الوزير بتاح حتب، في عهد الملك جد-كا-رع في الأسرة الخامسة، جالسا أمام مائدة قرابين عامرة بكل ما لذ وطاب، يشرب قدحا من "الماء الطاهر" وأمامه الخدم والكهنة يذبحون الماشية ويحملون الأطعمة الطازجة، بينما يوجد نقش علوي لخادمات يحملن الأطعمة.

"طعام الآخرة"

ربط المصري قديما بين عاداته الغذائية والدين، الذي اهتم به منذ أقدم عصوره، كظاهرة اجتماعية يحتاج إليها كل تجمع بشري بما يخدم ضبط سلوكه وقواعد تعامله مع الآخرين في بيئته اليومية، فكان إحساسه بوجود قوى خارقة وراء ظواهر اعتمدت عليها حياته وأثرت فيها سببا وراء تنوع الآلهة، لامتلاك كل إله قوة خفية تفوق قدرة الإنسان، فحرص على تقديم أطعمة خاصة لهذه الآلهة في شكل قرابين بغية استرضائها وطمعا في حمايتها له من شرور الحياة.

وتعددت مهام هذه الآلهة في النظام اللاهوتي المصري، كما ارتبط بعضها بأنواع مختلفة من الطعام، مثل الإله "نبري"، الذي اتخذه المصريون ربا للقمح، المحصول الرئيسي في البلاد، والإلهة "رننوتت" ربة الحصاد وسيدة الحقول، والإله "شسمو" رب النبيذ، والإلهة "حات-ام- حت" ربة الثروة السمكية، إلى جانب الإله "حعبي"، إله النيل والفيضان، رمز كل عطاء للخيرات في هذا البلد.

اعتاد المصريون تقديم قرابين الغذاء للآلهة في المعابد، وكانت بمثابة عبادة دورية شبه يومية، تتألف من الخبز والفواكه واللحوم، وهي أطعمة أساسية كان يعتمد عليها الكهنة والعاملون في المعبد، وكان يشترط التطهْر أثناء تقديم هذه القرابين من الأطعمة كما يشير نص يعود إلى عصر الدولة القديمة: كل من يدخل هنا يجب أن يكون نقيا، ويتطهر كما يتطهر عند دخوله معبد الإله الكبير".

آمن المصريون قديما بأن الآلهة مثل البشر تحتاج إلى طعام وشراب، لذا كان من بين شعائرهم الدينية تقديم قرابين في مواعيد شبه ثابتة أمام رمز هذا الإله، أو إقامة ولائم جنائزية لإرضائه خلال مراسم دفن متوفي وانتقاله إلى العالم الآخر، فهي ولائم تقام وقت الوفاة وأمام قبره، عامرة بالأطعمة وقدور الشراب وأنواع الأزهار.

وتشير تفاصيل سجلتها بعض النقوش التي تعود إلى عصر الدولة الحديثة، بحسب تقسيم تاريخ مصر القديم، إلى تفاصيل هذا اليوم الذي كان يرتدي فيه أهل المتوفي أحسن الثياب ويحملون أوعية النبيذ أثناء مراسم دفن الميت من الطبقة الغنية، أما الطبقة الفقيرة فكانت تلجأ إلى تبسيط تلك المراسم قدر الإمكان بما يتناسب ومستواها الاجتماعي.

ويجسد نص من مقدمة الفصل 99 من فصول كتاب "الخروج إلى النهار"، المعروف مجازا بكتاب الموتى عند المصريين القدماء، صورة من الحياة في العالم الآخر ونعيمها الغذائي، اطلعت عليها بي بي سي في الترجمة الفرنسية التي قدمها العالم بول بارجيه، أستاذ الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة ليون، للنص المصري القديم:

"إذا وعي المتوفى هذا الفصل (التعويذة) سيستطيع الخروج إلى حقول الغاب، وسوف يقدمون له الحلوى وجرة جعة وخبزا من على مذبح الإله العظيم، والحقول والضياع المليئة بالقمح والشعير، وسوف يحصدها له أتباع حورس، وسوف يأكل من هذا الشعير والقمح وسوف تتغذى أعضاؤه، وسوف تكون هذه الأعضاء مثل أعضاء الآلهة".

اعتقد المصري القديم أن الميت يُبعث في قبره بعد وفاته ويمارس نشاطه من جديد بنفس احتياجاته عندما كان حيا على وجه الأرض، وكان الطعام والشراب جزءا هاما من المتعلقات الجنائزية التي توضع إلى جانب الميت، لأنه بدونها لا يستعيد حياته بعد الموت في العالم الآخر، بحسب الفكر العقائدي المصري.

عاشت الحضارة المصرية القديمة، على امتداد زماني لأكثر من ثلاثة آلاف عام، ورغم كل ما اعتراها من تقلبات دينية وسياسية واجتماعية، فضلا عن التغيرات التي طرأت عليها تاريخيا، إلا أن هذه الحضارة عاشت في إطار هويتها الأساسية، وبنفس النزوع العام، بعد أن نجح المصري القديم في التعبير عن حياته اليومية والفكرية سعيا إلى الأبدية وقهر الموت، مستعينا بأرقى وسائل التعبير الفنية وأكثرها فاعلية.

ويقول العالم الفرنسي الكبير فرانسوا دوما عن حضارة مصر القديمة إن "الهدف الأسمى من كتابة تاريخ حضارة مصر هو العمل على تقريب روح من خلقوها، والوصول إلى البؤرة التي انطلقت منها إبداعات اجتماعية وأدبية وفنية، لعالم مازال يبهر بنجاحاته وروعته، وإن كان قد اختفى منذ أكثر من ألفي عام".

View on Almaghribtoday.net

أخبار ذات صلة

المغرب يقيد 11 مسجدا في لوائح الآثار
عبد الباري يستحضر ملامح الهوية الثقافية من خلال الأناشيد…
"ياسيد الأشواق"يجمع مابين سارة السهيل وكريم الحربي
توقيع اتفاق بين فرنسا والمغرب حول الإنتاج المٌشترك والتبادل…
المغرب يستعيد من الشيلي 117 قطعة أحفورية مهرّبة يعود…

اخر الاخبار

ثلاثة مشاريع مراسيم مهمة على طاولة مجلس الحكومة المغربية…
انطلاق أشغال الاجتماع الوزاري ال11 للتحالف الدولي ضد تنظيم…
الأمير مولاي رشيد يترأس افتتاح الدورة ال 15 لمعرض…
غوتيريش يرفض أي اجتياح برّي للبنان ويؤكد أن قوات…

فن وموسيقى

شيرين عبدالوهاب تساند بيروت على طريقتها وتعيد نشر أغنيتها…
يحيى الفخراني يُعيد تقديم مسرحية "الملك لير" للمرة الثالثة…
منال بنشليخة تحتل الترند المغربي بثلاث أغاني من ألبوم "قلب…
إيمان العاصي تتألق في أولى بطولاتها المطلقة "برغم القانون"…

أخبار النجوم

الفنانة دنيا سمير غانم تُقرر العودة بقوة للدراما والسينما…
ياسمين عبد العزيز تتضامن مع اللبنانيين برسالة مؤثرة
ظافر العابدين ينافس على جوائز "مهرجان الفيلم العربي"
أمير كرارة يعيش حالة نشاط فني في السينما والدراما

رياضة

الفيفا يكشف عن الملاعب المستضيفة لكأس العالم للأندية 2025
المغربي ياسين بونو ضمن قائمة أغلى 10 حراس مرمى…
حكيم زياش يحذف تدوينته المنتقدة للحكومة المغربية
حكيم زياش ينتقد المغرب والدول التي تدعم الإبادة الجماعية…

صحة وتغذية

الكشف عن نظام "مايند" الغذائي لحل مشاكل التركيز والذاكرة…
ممارسة الرياضة في عطلات نهاية الأسبوع بُقلل خطر الإصابة…
علاقة مفاجئة بين شرب القهوة وبناء العضلات
دواء مضاد للاكتئاب قد يساعد في علاج أورام المخ

الأخبار الأكثر قراءة

الشاعرة المغربية ليلى بارع تصدر ديوان "همس الفراشة"
المهرجانات المغربية تخدم العروض الصيفية وتقوي الصناعات الثقافية
احتفاء دبلوماسي بالفاتيكان بمناسبة الذكرى الـ 25 لعيد العرش