واشنطن ـ جورج كرم
تركز شركة "غوغل" منذ خمسة أعوام على بناء فريق مثالي؛ ففي العقد الماضي أنفقت عملاق التكنولوجيا ملايين لا تُحصى من الدولارات على مباردة "أرسطو" لدراسة المئات من فريق العمل ومعرفة لماذا تعثر البعض بينما يرتفع البعض الآخر ولبحث كل جانب من جوانب حياة موظفيها، فأحصت الدراسات مثلًا عدد المرات التي يتناول فيها الفريق مع بعضهم البعض، وخلصت إلى أن الموظفين الأكثر إنتاجية يميلون إلى بناء شبكة علاقات اجتماعية أكثر قوة.
ويؤمِن كبار المدراء التنفيذيون في الشركة بأن بناء فريق أقوى يعني الجمع بين أفضل الناس، وأشارت مدير قسم الأشخاص في غوغل، إبير دوبي بقولها: هل من الأفضل جمع الأشخاص الانطوائيين مع بعض، أو أن الفريق أكثر فاعلية عندما يكونوا أصدقاء خارج العمل، ولكن لم يجد أحد الوقت ليدرس أي من هذه النظريات كانت صحيحة، وجمعت أفضل إحصاءات الشركة وعلماء نفس وعلماء اجتماع ومهندسين واحتاجت أيضًا لباحثين.
وهنا كانت الفرصة المثالية لجوليا روزفكسي أن تقدم لتصبح بعد التخرج من جامعة يال، موظفة في شركة "غوغل" وسرعان ما أعطي لها مشروع أرسطو، وبدأ الباحثون بمشروع أرسطو من خلال مراجعة نصف قرن من الدراسات الأكاديمية التي تنظر في عمل الفريق بشأن قضايا مثل هل أفضل فريق يتكون من الأشخاص الذين لديهم نفس الاهتمامات؟ أو أن الأمر يتعلق أكثر بالدافع الشخصي وراء كل فرد من نوع المكافأة على العمل؟ واستنادًا إلى هذه الدراسات، فحص الباحثون تكوين جماعات داخل غوغل: كم مرة قام أعضاء الفريق بمبادرة اجتماعية خارج المكتب؟ هل لديهم نفس الهوايات؟ هل كانت خلفياتهم التعليمية متماثلة؟ هل الأفضل لكل الفريق أن يكون اجتماعيًّا أم خجولًا؟
ورسموا صورًا بيانية تظهر تفاعلات الفرق ودرسوا الوقت الذي قضته الفرق مع بعضعها، وإذا كان التوازن بين الجنسين انعكس على نجاح الفريق، وكم حاول فريق البحث أن ينظم البيانات، لم يستطع الباحثون العثور على نموذج ثابت، أو أي دليل على أن تشكيل الفريق يحدث أي اختلاف، وأوضحت دوبي بقولها: نظرنا إلى 180 فريقًا في جميع أنحاء الشركة، وكان لدينا الكثير من البيانات، ولكننا لم نستطع أن نرى أي تأثير يعكسه أنواع الشخصيات أو المهارات أو الخلفيات.
ولاحظوا على سبيل المثال أن الجماعات التي قيّمت بأنها الأكثر فعالية في غوغل كانت تتكون من أصدقاء خارج المكتب، وبعضها كانت تتكون من أشخاص غرباء عن بضعهم خارج الشركة، وسعت بعض الفرق إلى مدراء أقوياء بينما البعض الآخر فضَّل هياكل أقلّ هرمية.
وبدأ باحثو مشروع أرسطو البحث من خلال البيانات التي جمعوها لإيجاد هذه القواعد، فبحثوا عن الحالات التي جعلت أعضاء الفريق يعلقوا عليها "قاعدة غير مكتوبة" أو "جزء من ثقافة الفريق"، فكان بعض الأعضاء في الفرق يقاطعون بعضهم البعض باستمرار، مما جعل قادة الفرق مثالاً لمقاطعة الاخرين، فيما في فرق أخرى كان الجميع يطلب من الشخص الذي يقاطع زميله أن ينتظر حتى يأتِ دوره، وبدأت بعض الفرق بالاحتفال بأعياد ميلاد بعضها، فيما حظي الأفراد بمحادثات غير رسمية بشأن خطط عطلة نهاية الأسبوع، وفرق أخرى اهتمت فقط بأداء عملها ولم يتجاذب أعضاؤها أطراف الحديث حول أمور أخرى.
وخلص الباحثون، بعد دراسة البيانات لأكثر من عام في مشروع أرسطو، إلى أن التفاهم ومجموعة التأثير على المعايير كانت مفاتيح لتحسين فريق غوغل، وأرادت قائدة البحث، جوليا روزفسكي، أن تعرف أي من هذه المعايير كانت الأكثر أهمية، وكان الفريق قد عرف عشرات السلوكيات التي تبدو مهمة، بالرغم من أن معايير نجاح بعض الفرق كانت تتعارض بشدة مع معايير نجاح فرق أخرى، فهل كان من الأفضل إعطاء الفرصة للجميع للتكلم بقدر ما يريدون؟ أو يتوجب أن توجِّه النقاشات إلى قادة الفريق؟ وهل كان من الأفضل أن يختلف الجميع مع بعضهم علانية؟ أم كان يتوجب إخماد الاختلافات؟
وتوصلت جوليا بالتعاون مع فريق علماء النفس وعلماء الاجتماع العاملين على المشروع إلى ما يعرف باسم "قواعد المجموعة"، وهي المعايير السلوكية والتقاليد والقواعد غير المكتوبة التي تنظم الأشخاص داخل المجموعات، ففريق يمكن أن يضع قاعدة بأن تجنب الخلاف هو أكثر قيمة من المناقشة، بينما فريق آخر يزدري التفكير الجماعي، وهذه القواعد لا يعلن عنها على العلن ولا يعترف بها، ولكن يظهر تأثيرها في كثير من الأحيان بعمق، فقد يتصرف أعضاء الفريق كأفراد يفضلون العمل بشكل مستقل، ولكن في النهاية عندما يجتمعون فإن القواعد الجماعية عادة ما تتجاوز الميول الفردية وتشجع على احترام الفريق.
واتضح لجواليا أن البيانات لا تقدم أحكامًا واضحة، وفي الواقع أشارت هذه البيانات في بعض الأوقات إلى الأمر وعكسه، وكان الأسوأ من عدم الوصول إلى نتيجة هو تعدد النتائج، فتساءلت جوليا وفريقها: أيّة نقطة تشاركت فيها كل الفرق الناجحة؟ وتكون الفريق أ على سبيل المثال من مجموعة الأشخاص الأذكياء الناجحين فلا يتكلم الشخص فيهم إلا إذا أصبح الموضوع يتعلق باختصاصه فيبدأ بالتكلم باستهاب، موضحين ماذا يتوجب على المجموعة أن تفعل، وعندما يتكلم شخص بأحاديث جانبية فإن المتحدث يسكت ويذكر الجميع بجدول الأعمال ويعيد الاجتماع إلى مساره الصحيح، وكان فريقًا فعالاً فلا وجود للنقاشات الطويلة فيه، وتنتهي اجتماعاته في وقته وباتخاذ القرار اللازم.
بينما كان الفريق ب منقسم بالتساوي بين مدراء تنفيذيين ناجحين ومدراء متوسطين مع القليل من الإنجازات المهنية، وكانت النقاشات تتخذ مسارات مختلفة في الاجتماع، وكان البعض يكمل أفكار البعض الآخر، وعندما يغير أحد أعضاء الفريق الموضوع فإن كل الفريق يتبعه فيما يفعل حتى ولو كان خارج جدول الأعمال، وفي نهاية الاجتماع والذي لا ينتهى في الغالبية يجلس الجميع لتبادل الأخبار عن حياتهم، فأي المجموعتين يفضل الموظف الانضمام إليها؟
واكتشفت جوليا أن مجموعة الدراسة الخاصة بها في الجامعة استنزفت بنسبب الصراع على القيادة والميل إلى النقد، فيما فريق المنافسات شجع وحمس بعضه الآخر وحظوا بالكثير من وقت المرح والاسترخاء، وأشارت البحوث إلى أن السلامة النفسية في مشروع أرسطو تؤدي إلى معايير معينة حيوية في تحقيق النجاح، وكانت هناك بعض السلوكيات المهمة أيضًا مثل أن يحظى الفريق بأهداف واضحة وأن يستطيعوا الاعتماد على بعضهم، ولكن أظهرت نتائج غوغل أن السلامة النفسية هي أكثر العوامل حسمًا في عمل الفريق.
وتابعت جوليا: كان لدينا أشخاص يستطيعون بناء بيئات أمنة نفسيًا، ولكن لم يكن واضحًا كيف يفعلوا ذلك، فالناس هنا مشغولون جدًا، ويعتبر بناء بيئة من السلامة النفسية أمرًا يأتي بالفطرة وبطريقة طبيعية، وهو شيء يصعب تحقيقه بناءً على نية مسبقة، فيستطيع أي شخص أن يطلب من الآخرين الاستماع إلى بعضهم، أو أن يكونوا حسّاسين تجاه مشاعر زملائهم، وملاحظة الأشخاص المساءين ولكن الأشخاص الذين يعملون في غوغل هم من البشر الذين أصبحوا مهندسي برمجيات لأنهم أرادوا تجنب الحديث عن المشاعر في المقام الأول.
وبعد أن استطاعت جوليا وفريقها وضع أيديهم على المعايير الأكثر أهمية جاء دور إيجاد وسيلة لجعل التواصل والتعاطف من اللبنات الأساسية في علاقة الموظفين في غوغل، وفي نهاية العام 2014 كانت مشروع أرسطو وصل إلى عامه الثالث حيث شارك فريق البحث النتائج مع مجموعة مختارة من موظفي الشركة تصل إلى 51 ألف شخص، وبحلول ذلك الوقت جمعوا المسوحات وأجروا المقابلات وتحليل الإحصاءات، ولكنها لم ترد بعد على كيفية جعل السلامة النفسية أمرًا سهلاً، ولكنها تأمل بأن أبحاثهم في غوغل ستدفع الموظفين إلى الخروج ببعض الأفكار من تلقاء نفسها.
واقترب شخص رياضي اسمه "مات ساكاجوتشي" بعد أن عرضت جوليا فكرتها، وكان هذا الرجل يملك خلفية غير معتادة بالنسبة لموظفي غوغل فقبل 20 عامًا كان عضوًا في فريق سوات في ولاية كاليفورنيا، ولكنه غادره ليصبح مندوب مبيعات إلكترونية ووصل في نهاية المطاف إلى غوغل كمدير متوسط، وقاد فريق من المهندسين الذي يستجيبون لمواقع الشركة أو الخوادم.
وأضاف "أنا قد أكون أكثر الأشخاص حظاً على وجه الأرض، فأنا لست مهندسًا ولم أدرس الكمبيوتر في الجامعة، ولكن كل الأشخاص الذين يعملون تحت إمرتي هم أذكى مني"، ويعتبر هذا الرجل عبقريًا في تنظيم العمل والفنيين ونتيجة لذلك تمكن من الارتقاء في غوغل، ويمتلك هو وزوجته التي تعمل معلمة منزل عطلة في سوناما فالي.
وأبدى مات اهتمامًا خاصًا بمشروع أرسطو؛ لأن الفريق الذي كان يشرف عليه في السابق لم ينجح، وأضاف "كان هناك مهندس في الفريق يتحدث ولا يسمع وكان الجميع خائفًا من الاختلاف معه، وكان الجزء الأصعب على الجميع أنهم أحبوه خارج المكتب، ولكن عندما يكونون جميعًا في الفريق فإنهم لا يتفاهمون"، وعندما أصبح مات مدير فريق جديد أراد أن يضمن سير الأمور بطريقة أفضل هذه المرة، فطلب من باحثي مشروع أرسطو أن يساعدوه، فزودوه بالدراسة حول معايير الجماعة، وعندما طلب من أعضاء الفريق الجديد المشاركة قوبل بالشك، وبدا الأمر وكأنه مضيعة للوقت، ولكن مات كان مديرًا جيدًا وبالتالي وافق الجميع على تعبئة الاستبيان كرمى له.
وأكمل الفريق الاستبيان وبعد عدة أسابيع تلقى مات النتائج وأعرب عن دهشته منها، فقد كان يعتقد أن الفريق وحدة قوية، ولكن أظهرت النتائج وجود نقاط الضعف، فأعضاء الفريق سجلوا نقاط متدنية على سؤال إذا كان دور فريقهم مفهوم بشكل واضح وإذا كان لعملهم أثر، فمات أراد للجميع أن يكون راضيًا عن عمله، فطلب من الفريق الاجتماع خارج الموقع لمناقشة النتائج، فطلب من الجميع أن يشاركوا لحظات خاصة عن نفسهم، وكان هو أولهم.
ولم يأتِ في مشروع أرسطو أن مشاركة المشاكل الشخصية يمكن أن تزيد من انفتاح الناس في عملهم مع بضعهم، ولكن في حالة مات تبين أن السلامة النفسية والأحاديث العاطفية خلقت بيئة من التواصل، وهي جزء من القواعد غير المكتوبة، واستطاع مشروع أرسطو في النهاية أن يعلم الناس في غوغل أن لا أحد يريد منهم أن يرتدوا قناع العمل عندما يصلوا إلى المكتب، لا أحد يريدهم أن يتركوا جزءًا من شخصياتهم في المنزل، بل على العكس أن يحضروا إلى المكتب بكامل شخصياتهم، وأن يعرفوا أنهم أحرار بما فيه الكفاية ليتبادلوا الهموم والمخاوف والاتهامات وأن يكونوا قادرين على الحديث عن الحزن، وإجراء محادثات صعبة مع زملائهم، وأنهم لا يستطيعون التركيز فقط على الكفاءة، كي يضمن الجميع أن الآخرين يستمعون إليه، ويريدون حقًا إنجاز العمل، وأن يعرفوا أن العمل ليس مجرد عمل.
وهذا لا يعني أن الفريق يحتاج مديرًا مريضًا كي يستطع العمل مع بعض، فأي فريق يستطيع أن يكون مثل الفريق ب، واستطاع مشروع أرسطو استخدام تجربة مات كدرس أساسي للعمل الجماعي، لتشجيع الناس على إجراء أحاديث عاطفية ومناقشة المعايير والقواعد فيما بينهم وأن يشعروا بالراحة كي يتحدثوا عنها، وأصبحت الكثير من الشركات تميل إلى إنشاء خرائط وتقارير بيانات حول التعاطف والحساسية مما يجعلها أسهل عند الحديث عنها، فالحديث عن المشاعر يكون أسهل عندما يشار إليها بالأرقام، واقترحت زوجة مات عليه ترك العمل عندما أصيب بالسرطان، وكان سيقبل في مرحلة ما ولكن ليس بعد الآن فهو يعتبر أن نجاح فريقه من أكثر الأعمال ذات القيمة التي عملها في حياته.
وشجع فريقه على التفكير في طريقة للعمل وبناء شبكة للحياة، وكما يقول إن هذا الأمر يعود فضله إلى مشروع أرسطو الذي أظهر معني العمل في الفريق، ولا تقتصر صناعة التكنولوجيا على دول دون الأخرى ولكنها أصبحت ثقافة تجارية سائدة في معظم أرجاء العالم، وبالتي سيكون من الأفضل بناء فرق متفاهمة في هذه الشركات، وأظهرت جميع بيانات غوغل المكثفة أن أكثر المديرين كفاءة هم الذين يظهرون حساسية تجاه مشاعر واحتياجات الآخرين، واستخدمت الشركة هذه البيانات لتشجيع موظفيها على التحدث عن مخاوفهم وتطلعاتهم بإيجابية أكبر وأعطتهم دروسًا سريعة حول المدير الجيد، وبعبارة أخرى تحاول غوفل بناء فريق مثالي، لمعرفة طريقة لوضع أسُس سريعة للسلامة النفسية تؤدي إلى نتائج إيجابية.
ويشير علماء النفس إلى موضوع الحساسية الاجتماعية ومشاركة الأشخاص بعضهم البعض مفهوم السلامة النفسية، وعندما رجعت جوليا وزملاؤها إلى هذا المفهوم في الدراسات الأكاديمية، كانوا وكأنهم عثروا على السبب، فعلى سبيل المثال كان أحد المهندسين أخبرهم أن قائد الفريق لديهم مباشر وصريح مما يخلق مساحة آمنة لتحمل المخاطر، وكان فريق هذا المهندس من بين الجماعات الأكثر إنجازًا في غوغل، وعلى النقيض ذكر مهندس آخر أن قائد فريقه يعاني من ضعف السيطرة على مشاعره، وأنه يشعر بالذعر بأصغر القضايا ويحاول دائمًا انتزاع السيطرة، وكان هذا الفريق من الأقل إنجازًا في الشركة، وتحدث معظم الموظفين عن شعروهم تجاه الفريق، وأشارت جوليا: هذا ما أدى بي إلى الفهم بسبب تجربتي في جامعة يال، فقد انضممت إلى بعض الفرق التي أشعرتني بالتعب والارهاق، فيما البعض الآخر أشعرني بالطاقة.
ويذكر مشروع أرسطو أنه عندما تحاول الشركات تحسين شيء ما فإنه من الأسهل نسيان أن النجاح بالعادة مبنى على التجارب مثل التفاعلات العاطفية والمحادثات المعقدة والمناقشات حول الفريق الأمثل، وأضافت جوليا "كنا في اجتماع حيث ارتكبت خطأ ما، فأرسلت رسالة أشرح فيها كيف ستصلح المشكلة إلى شخص ما، فقام هذا الشخص بارسال كلمة وحداة "واو"، فشعرت وكأنها لكمة في الأمعاء، وكنت بالأصل أشعر بعدم الأمان تجاه الحل الذي قدمته"، ولو أن هذا الأمر حدث معها في شركتها القديمة فلم تكن لتستطيع أن تتكامل مع هذه المشاعر، ولم يكن الإيميل بالإهانة الكبيرة ولكنه ضايقها وشعرت بأنه يجب أن ترد عليها.
وبفضل مشروع أرسطو توسعت لديها مفردات الشرح عن نفسها من خلال الجداول والرسول البيانية، فسارعت للرد برسالة كتتب فيها "لا شيء جيد بقدر "واو" لتدمير السلامة النفسية في الصباح"، فرد عليها "كنت اختبر مرونتك" وقد كان يعرف أن هذه الكلمات هي أفضل ما يقوله لها في ذلك الموقف، وأوضحت "في غضون 30 ثانية من التفاعل استطعنا نزع فتيل التوتر"، ويريد الجميع أن يكونوا مسموعين بشكل كافٍ، ويريدون من فريق عملهم أن يكون حساسًا تجاه مشاعرهم، وختمت جوليا "قرأت احد الأبحاث الذي يحثّ الناس على التعبير عن حدسهم واتباعه، وهذا ما فعلته، وساعدتني البيانات كي أشعر بالأمان بطريقة كافية لفعل المناسب".
ولم تكن جوليا روزفسكي (25 عامًا) تعرف ماذا ستفعل كحال معظم من في عمرها، فعملت في شركة استشارية لكنها لم تكن مكانًا جيدًا فأصبحت بعد ذلك باحثة لاثنين من الأساتذة في جامعة هارفارد، وكان عملاً جيدًا بالنسبة إليها ولكنها كانت وحيدة، فاعتقدت أن شركة كبيرة ستكون أفضل بالنسبة إليها وكل ما كانت تعرفه أنها أرادت عملاً تكون فيه اجتماعية أكثر.
وأشارت إلى أنها أرادت أن تكون جزءًا من مجتمع، جزءًا من أناس يعملون معًا ويبنون شيئًا معًا، وفكرت في عدد من الفرص مثل شركات الإنترنت أو برامج الدكتوراة، لكنها لم تعثر على شيء، حتى العام 2009 اتخذت قرارًا غيَّر مسار حياتها فتقدمت بطلب لكلية إدارة الأعمال في جامعة يال، وكان يتوجب عليها الدراسة مع مجموعة من طلاب الهندسة لتعزيز الروابط الوثيقة، وأصبحت جماعات الدراسة جزءًا من طقوس العبور في برامج ماجسيتر إدارة الأعمال، ووسيلة للطلاب لممارسة العمل في الفريق لتعزيز قدرتهم على الانتقال ببراعة بين الجماعات، فالموظف اليوم قد يبدأ في الصباح بالتعاون مع فريق المهندسين ثم ينتهي في المساء بالعمل مع فريق التسويق، ثم يبدأ في اليوم الثاني في التخطيط لمنتج مختلف، ولتحضير الطالب لعالم العمل المقعد هذا بدأت كليات الإدارة في أميركا بتعديل مناهجها للتركيز على العمل ضمن الفريق.
وكانت جوليا تلتقي كل يوم بين المحاضرات أو على العشاء مع زملائها لمناقشة الواجبات المنزلية ومقارنة الجداول ووضع استراتجية للامتحانات، وكانت المجموعة تشترك في الكثير من العناصر والقواسم المشتركة فهم أذكياء، ودرسوا نفس التخصصات وعملوا في نفس الشركات، وكانت تأمل جوليا بأن تقدم لهم هذه القواسم المشتركة فرصة للانسجام في العمل، ولكن لم تسر الأمور كما أرادت، كما كانت تجربة مجموعة الدراسة لجوليا مصدر للتوتر، وأوضحت "لقد شعرت دائمًا وكأنني بحاجة لإثبات نفسي، فالكل كان ينتقد بعضه البعض ويحاول أن يكون قائدًا على الآخرين، وكانت هناك نزاعات حول من كان مسؤولًا ومن سيمثل المجموعة، وكانوا دائمًا يحاولون إظهار السلطة بالتحدث بصوت عالٍ أو التحدث مع بضعهم البعض، وشعرت دائمًا وكأنني أحرص على عدم ارتكاب الأخطاء أمامهم.
وبدأت البحث عن حلقة دراسية جديدة تستطيع الانضمام إليها، وذكر لها أحد زملائها أن مجموعة من الطلاب يحاولون وضع فرق "لمسابقات الحالات" والتي يتوجب على المشاركون وضع حلول لمشاكل العمل في العالم الحقيقي وتقديمها للشركة التي تعلن عن المسابقة للتحكيم والفوز بجوائز نقدية، وكانت المشاركة في المسابقات طوعية ولكن العمل الذي تتطلبه لم يكن يختلف عما كانت جوليا تقوم به في مجموعتها الدراسية، وهو إجراء الكثير من الأبحاث والتحليلات المالية وكتابة التقارير وعروض العطاءات.
وكان الفريق المشارك يمتلك مجموعة متنوعة من الخبرات المهنية، تتكون من ضابط في الجيش وباحث في مركز للأبحاث ومدير منظمة غير ربحية للصحة والتعليم ومستشار لبرنامج اللاجئين، وعلى الرغم من خلفياتهم المختلفة، كان الجميع معنيًا بالأمر ومنسجمين، وكانوا في الغالب ما يرسلون لبعضهم نكات غبية ويقضون أول 10 دقائق من جلسة الدراسة في الدردشة، وكانوا يعرضون الكثير من الأفكار المجنونة في مرحلة العصف الذهني.
وأتت واحدة من المسابقات المفضّلة لجوليا بسؤال للفريق من أجل التوصل إلى مشروع تجاري ليحل محل مقصف للوجبات الخفيفة يديره الطلاب في الحرم الجامعى في يال، واقترحت جوليا غرفة للقيلولة أو محل لبيع الأدوات الصحية وظلال العيون لكسب المال، فيما اقترح آخر محل لألعاب الفيديو القديمة، وكانت معظم الأفكار غير عملية ولكن لم يكن أحد يخشى من حكم باقي الفريق عليه وفي النهاية استقر الجميع على إنشاء نادي رياضة صغير يحتوي على عدد قليل من آلات الوزن وبعض الأدوات الرياضية وفاز المشروع بالمسابقة.
وتقارن جوليا كثيرًا بين المجموعتين فكلتاهما كانتا تتألفان من أشخاص بمستقبل مهني مشرق، وعندما كانت تتحدث معهم كل على حدا فكانت العلاقة بينهم جيدة ومريحة، ولكن عندما اجتمعت المجموعة الأولى كفريق فشلت فيما نجحت المجموعة الثانية التي لم يحظى أعضاؤها بصداقات شخصية مع بضعهم بل اقتصر انسجامهم على العمل في فريق واحد، ولم تكن تعرف هي السبب وراء هذا الاختلاف.
ويتيح هذا العصر المليء بالبيانات دراسة عادات العمل لدى الناس، فالكثير من علماء النفس والاجتماع والإحصاء يكرسون أنفسهم لدراسة كل شيء من تشكيلة الفريق وحتى نمط الرسائل التي يتواصلون بها من أجل معرفة طرق لجعل الموظفين أسرع وأفضل، وأوضح عالم الأبحاث النفسية مارشال الستاين "نحن نعيش في عصر ذهبي في فهم الإنتاجية الشخصية، فنحن نجمع الخيارات الصغيرة التي يقوم بها الناس والقرارات التي لا يلاحظها معظمهم لمعرفة لماذا يكون بعض الأشخاص فعالين أكثر من الآخرين".
وأدركت الكثير من الشركات القيمة لتحليل هذه البيانات لتحسين كفاءة الفرد، وطورت ما يعرف باسم تحسين أداء الموظف، ففي الوقت الذي تتجه في التجارة لان تكون عالمية ومعقدة أكثر، فإن الجزء الأكبر من العمل الحديث أصبح قائمًا على العمل ضمن فريق، ووجدت دراسة نشرت في مجلة "هارفارد بيزنس ريفيو" الشهر الماضي، أن الوقت الذي يقضيه المديرون والعاملون في الأنشطة التعاونية زادت بنسبة 50% أو أكثر على مدى العقدين الماضيين، وأنه في الكثير من الشركات يقضي الموظف ثلاثة أرباع وقت العمل في التواصل مع زملائه.
وتشجع شركة سيلون فالي مهندسي البرمجيات على العمل معًا ويرجع ذلك جزئيًّا إلى الدراسات التي تظهر أن العمل ضمن جماعة يحقق ابتكارات أسرع، واستكشاف الأخطاء بسهولة وسرعة وبالتالي إيجاد أفضل الحلول للمشاكل، وتظهر الدراسات أيضًا أن الأشخاص الذين يعملون ضمن فريق يميلون إلى تحقيق نتائج أفضل ويحظون برضا وظيفي أعلى.
وأكد مسؤولون تنفيذيون في دراسة أجريت العام 2015 أن الزيادات الربحية تزيد عندما يعمل الموظفون في فريق واحد، وأصبحت الشركات ترى أن قدرتها على التفوق على منافسيها يكمن في العمل في روح الفريق، وبدأ في العام 2008 مجموعة من علماء النفس في جامعة كارنيغي ميلون محاولة إيجابية بسؤال مماثل، فعلى مدى القرن الماضي حقق علماء النفس تقدمًا كبيرًا في تحديد منهجية قياس الذكاء لدى الأفراد، واستخدموا في ذلك المنهج الإحصائي لقياس الذكاء الفردي، وبكلمات أخرى أراد العلماء أن يعرفوا إذا ما كان هناك عامل ذكاء جمعي يظهر ضمن الفريق والذي لا يميز الذكي من الآخرين.
ولتحقيق الهدف، جمع الباحثون 699 شخصًا قسموهم إلى مجموعات صغيرة وقدموا لكل مجموعة سلسلة من المهام التي تتطلب أنواع مختلفة من التعاون، فجاءت بعض المهام بأن يتبادل المشاركون أفكارًا لاستخدامات أخرى، وجاءت بعض الفرق بالعشرات من الاستخدامات الذكية، فيما البعض الآخر كرر نفس الأفكار بكلمات مختلفة، واقتضت مهمة أخرى أن يقوم الفريق بالتنظيم لرحلة تسوق شرط أن يأخذ كل عضو منهم مهمة مختلفة من محلات البقالة، وكان السبيل الوحيد لتحقيق أقصى قدر من النقاط أن يضحى الفرد بعنصر يريده واستبداله بعنصر آخر يحتاجه كل الفريق، واستطاعت بعض الجماعات أن تقسم العمل بسهولة بينها، فيما آخرون لم يستطيعوا ملئ عربات التسوق الخاصة بهم؛ لأن أي منهم كان على استعداد لتقديم تنازلات.
ولفت نظر الباحثون إلى أن الفرق التي تمكنت من إنجاز مهمة واحدة بنجاح استطاعت أن تنجز كل المهام الأخرى أيضًا، بينما الفرق التي فشلت في أداء مهمه لم تستطيع أن تنجح في أداء أي مهمة أخرى أيضًا، واستنتج الباحثون أن الفرق بين الفرق الجيدة وغير الجيدة هي الطريقة التي يعامل بها زملاء الفريق بعضهم البعض، وبالتالي تمكنت القواعد الصحيحة من رفع الذكاء الجمعي للمجموعة في حين أعاقت المعايير الخاطئة عمل الفريق حتى وإن كان كل عضو فيه يتمتع بالذكاء المطلوب.
وما أثار انتباههم أيضًا أن كل الفرق الجيدة لم تتصرف بنفس الطرق، وذكرت مؤلفة الدراسة، أنيتا وولي "كانت بعض الفرق تشمل أشخاصًا أذكياء استطاعوا تقسيم العمل بالتساوي، فيما فرق أخرى متوسطة الذكاء استطاعت الاستفادة من كل نقاط القوة النسبية للجميع، فيما كان لبعض الفرق قائد واحد، وأخرى كانت أكثر مرونة واتخذ الجميع فيها دورًا قياديًا"، ولاحظ الباحثون أثناء الدراسة أن كل الفرق التي قدمت أداءً جيدًا تشاركت في نقطتين سلوكيتين، الأولى أن أفراد الفريق تقريبًا تحدثوا بنفس النسبة، فتحدث الجميع خلال كل مهمة، وانتقلت القيادة من شخص إلى آخر حسب المهمة، ولكن في النهاية وفي كل المهام تمكن جميع أفراد الفريق من التحدث بنفس القدر، وأشارت وولي "طالما كان الشخص يحصل على فرصة للتحدث بشكل جيد كان الفريق يقوم بعمل جيد، ولكن في الفرق التي كان شخص فيها أو مجموعة قليلة تتحدث أكثر من الآخرين فإن معدل الذكاء الجماعي كان يقل".
وأتت النقطة السلوكية الثانية في متوسط الحساسية الاجتماعية، أي الطرق التي يعبر بها الإنسان عن شعوره من خلال لهجة الصوت أو تعابير الوجه أو الإشارات غير اللفظية، وواحدة من أسهل الطرق لقياس الحساسية الاجتماعية هي إظهار صور عيون الأشخاص والطلب من الناس أن يصفوا ماذا يشعر الشخص أو ماذا يفكر، في اختبار يعرف بقراءة العقل، واستطاع الأشخاص الذين ينتمون إلى الفرق الأكثر نجاحًا في البحث قراءة عيون الناس بطريقة أفضل، فيما لم يستطع الأشخاص الذين ينتمون إلى الفرق الأضعف.
وسيكون من الأفضل لأي موظف أن يختار الفريق ب، بالرغم من أن الفرق أ يحتوي على أشخاص أذكياء جدا، الا أنه كان الامثل لتحقيق الكفاءة الفردية، ولكن في ذات الوقت يشجع الفريق ب على تبادل المعلومات الشخصية ويعطي للجميع فرصة للتحدث بمساواة، مما يعني أن فرصة استمرار هذا الفريق ستكون أعلى وسيحققون ذكاءً جماعيًّا أكبر.