سيدني - المغرب اليوم
يحدُث أن تتذكّر كافّة وأدقّ تفاصيل مرّت في حياتك وتحملها معك طيلة الوقت في ذهنك بحيث يمكنك استحضارها ومطالعتها من جديد بحالة رائعة ودقيقة التفاصيل كما خضتّها أوّل مرّة، قد تبدو الفكرة لنا نعمة وموهبة خارقة لكنّها في الحقيقة قد تصبح كالكابوس المزعج والمقلق حيث تعاني منه الأسترالية ريبيكا شاروك Rebecca Sharrock ، فهي ما تستذكّر أدق التفاصيل منذ أن كانت في سنّ 12 يومًا فقط إلى الآن وقد بلغت 27 عامًا.
تُعدّ ريبيكا واحدة من 80 شخصًا فقط على مستوى العالم بأسره ممّن يعانون من حالة هايبرثيميسيا hyperthymestic syndrome أو متلازمة فرط الاستذكار Highly Superior Autobiographical Memory- HSAM وهي حالة مرضية نادرة تجعل الشخص المُصاب بها يتذكّر كل لحظة في حياته بكلّ تفاصيلها فلا ينسى شيئًا مهما مرّ من الزمن.
وتتعايش ريبيكا مع هذه الحالة الغريبة والنادرة التّي تمنحها قدرات ذهنية خارقة فيما يتعلق بالذاكرة حيث يمكنها تذكّر واستدعاء أي تفصيلة أو ذكرى من حياتها السابقة بما في ذلك الهدايا التّي تلقّتها في عيد ميلادها الأول ولون الفستان الذي ارتدته حينها أيضًا، ليس هذا فحسب فحالتها تجعلها قادرة على حفظ المعلومات واسترجاعها وقت الحاجة من خلال ذاكرة فوتوغرافية تستطيع معها أن تسرد قصص هاري بوتر التّي قرأتها كاملة دون تفويت جملة واحدة وكأنّما تقرأ من مباشرةً الكتاب، كما أنّها تستطيع أن تتذكر ما حدث لها يوم كانت رضيعة ولم يتجاوز عمرها الـ12 يومًا حيث تمكّنت من وصف قيام والديها في إجلاسها على مقعد القيادة في سيارتهما قبل التقاط صورة لها.
ويصعب في البداية تصديق هذا الأمر كما من الممكن إنكاره ولكنّ ريبيكا خضعت لفحوص واختبارات ذاكرة أثبتت حالتها الطبية النادرة للغاية، وقد رَوت ريبيكا في مدونّتها كيف أنّها اعتادت التحديق في الألعاب المعلّقة فوقها عندما كانت تستلقي في سريرها الصغير وكانت أيضًا تراقب المروحة الموضوعة إلى جانب فراشها، بالإضافة إلى تفاصيل أخرى عديدة كإصابتها بالحكّة الشديدة عندما ارتدت فستانها المصنوع من الساتان في عيد ميلادها الأول، وخوفها من لعبة ميني ماوس المحشوة قطنًا، وتكمل ريبيكا في مدوّنتها أنّها تذكّرت كيف بدأت تحلم للمرة الأولى أثناء النوم عندما كانت فقط في سن 18 شهرًا.
وتشارك ريبيكا حاليًا في بحثين هامّين في دراسة الذاكرة البشرية بالتعاون مع عدد من العلماء في الولايات المتحدة الأميركية وأستراليا وتأمل أن تساعد هذه الأبحاث وغيرها الأشخاص الذين يعانون من الخرف Dementia أو الألزهايمر Alzheimer، يُذكر أنّها ليست الوحيدة التي تعاني من حالة HSAM بل هي حالة من بين 80 مصابًا من أصل 7.4 مليار إنسان حول العالم. ومن بين الحالات الأخرى المعدودة للهايبرثيميسيا هناك الأميركية أليكساندرا وولف Alexandra Wolff التّي تبلغ 25 عامًا من العمر وهي "تعاني" أو "تستمتع" بحالة مطابقة لريبيكا منذ الطفولة المبكرة، ولم يتبيّن بعد إن كانت هذه المتلازمة تصيب الإناث أكثر من الذكور أم أنّ الأمر لا يتعدّى كونه مجرد صدفة.
وتصف أليكسندرا الأمر بأنه "سفر عبر الزمن" كونها قادرة على أن تتذكّر كل ما سمعته ورأته وشعرت به في الماضي بما في ذلك استرجاع الشعور المؤلم للصداع أو التلذذ بطعام محبّب لم تتذوقه منذ زمن وهذا يعني أنّ بإمكان أليكسندرا المحظوظة أن تعيش أسعد لحظات حياتها مرارًا وتكرارًا حسب الرغبة وبأدق التفاصيل، وهذا ما صرّحت به حيث قالت "إنّ الأمر مغري إلى أقصى حدّ وأنّها تتمنى لو بإمكانها أن تقضي طوال اليوم في الماضي لو لم يكن لديها بعض الأعمال والاتزامات الأخرى التّي تقوم بها وتحرمها من خوض هذه التجربة الممتعة كل يوم".
ويعيش المصابون بمتلازمة فرط الاستذكار بعض التجارب القاسية حيث قد تنقلب هذه النعمة في أحيانٍ كثيرة وتصبح نقمة لعدم قدرة المصابين بها على نسيان ذكرايتهم الشخصية المؤلمة أو الصدمات النفسيّة والحوادث الجسدية، فالأمر ليس انتقائيًّا على الإطلاق إذ تكفي أيّ إشارة أو تلميح إلى حادثة أو ذكرى أليمة في إطلاق صورها بشكلٍ حيّ ومؤلم في ذاكرة المُصاب بـHSAM، حيث يستطيع العودة بذاكرته إلى حادث سيارة وقع في طفولته فيسترجع الإحساس المزعج كأنّه حدث في الوقت الحالي، ويستشعر لحظات تلقّي الخبر المشؤوم بنفس درجات الألم عندما خسر أحد أفراد عائلته يومها ليعيش في دائرة الحزن، إذًا هي حالة مرضية يعاني منها المُصاب وسيعاني كثيرًا مع الوقت وقد يصبح هشًّا بسبب بعض الذكريات المؤلمة، ولكن من الممكن أن يتعايش معها المُصاب فيشعر بتميّزه كيّ لا يفقد صوابه وعليه أن يتقبّل وضعه وحالته التّي تدعو إلى التفكير والتصديق كما أنّها تقع خارج حدود التصوّر في عالم الإبداع.