الرباط -المغرب اليوم
ينظر معارف سارة رزقي إليها كمكافحة، بينما لا ترى هذه المرأة المغربية البلجيكية نفسها إلاّ متشبثة بالحياة كباقي البشر، ومبادِرة إلى القيام ما باستطاعتها لإفادة الأغيار من تجربتها؛ مستندة على ما نهلته من ثقافة طنجة عن التضامن والإيثار.
شقت رزقي مسارا متميزا في العمل التطوعي على مستوى بروكسيل، مؤسسة ذلك على تجربتها الشخصية التي مكنتها من هزم داء السرطان أربع مرات حتى الحين، معتبرة أن الاشتغال على زرع الأمل يبقى واجبها عليها ما دامت على قيد الحياة.
بداية 5 عقود من الكفاح
عانقت سارة رزقي الحياة أواسط سبعينيات القرن الماضي في جهة بروكسيل البلجيكية، وسط أسرة حديثة الهجرة من مدينة طنجة المغربية إلى هذه البلاد الأوروبية، لتكون بانتظارها تجربة عيش فريدة من نوعها.
عرفت سارة اليُتم بعد رحيل أبيها دون أن تتخطى الشهر العاشر من الوجود في هذا العالم. وعن ما جرى تقول: "ذقت مرارة فقدان عزيز بالسرطان في وقت مبكر، وهذا الحدث أثر في حياتي بقوة، وطاردني على مر السنين".
درست رزقي في مؤسسات معروفة بجودة خدمات التربية والتكوين في بروكسيل، منها "سان لوي" و"دومود كوفغُوغ"، وخضعت لتكوينات إضافية جعلت منها فاعلة في مجال المبيعات لعدد من العلامات التجارية ببلجيكا.
ارتباط بالجذور المغربية
تحرص سارة رزقي على صيانة ارتباطها بالمغرب من خلال العادات اليومية لعيشها في بلجيكا، من جهة، وزيارة المغرب أسابيع كل عام لقضاء عطلة موزعة بين طنجة ومدن غيرها في المملكة، من جهة أخرى، رافضة أي قطيعة مع جذورها الهوياتية.
كما تؤكد المغربية نفسها أن التنوع الثقافي الذي ينسب إليها لم ينل منها رغم بعض تعابير الميز، وتزيد: "أسئلة من قبيل 'لماذا لست شبيهة بباقي العرب؟' قد تكون عادية لمطلقها، وبالنسبة لي أعتبرها عنصرية دفعتني إلى إبراز إصرار أكبر على البذل والتطور".
ووفق رزقي، فإن تجربة عائلتها قادت أفرادها إلى معرفة المطلوب منهم في فضاء الهجرة؛ ليغدوا متجانسين مع بنية المجتمع البلجيكي متعدد الثقافات دون أن يفضي ذلك إلى التفريط في الهوية المغربية الأصلية، وبقوا متشبثين بكونهم مغاربة مزدوجي الجنسية.
"أرى جيلي حاصلا على تسهيلات أكثر من سابقيه إلى التواجد في بلجيكا، حيث انخرط في مسار تعليمي أطول ونجح في التأقلم مع النمط المجتمعي بطريقة أعمق، بلا تهويل لآثار عنصرية تبرز بين فينة وأخرى"، تقول سارة رزقي ضمن هذا السياق.
تضحية وافدة من طنجة
فقدت أسرة رزقي معيلها قبل أن تحتفل سارة بعيد ميلادها الأول في بروكسيل، إذ أسلم أبوها الروح لبارئها بعد صراع مرير مع مرض السرطان، تاركا وراءه زوجة وثلّة من الأبناء عرضة للمجهول، واقتضى ذلك أن تتولى الأم مسؤولية حماية صغارها من أي ضرر.
تستحضر "ابنة طنجة" بعضا مما تحتفظ به ذاكرتها، وتذكر أن والدتها اضطرت للبحث عن عمل في بلجيكا على الرغم من أنها كانت حديثة العهد بالهجرة؛ إذ لم تكن تتقن الحديث بلسان أهل بلد الإقامة حين فقدت سندها في الحياة، لكنها اجتهدت لضمان القوت اليومي لمكفوليها.
"أدين وإخوتي بفضل كبير لوالدتنا التي لم تدخر أي جهد في سبيل تربيتنا على نحو سليم وتوفير غالبية حاجياتنا، فقد كانت تعمل على مدار اليوم كي تضمن لنا بيئة للعيش الكريم، وأهملت نفسها مدة طويلة حتى ترعانا"، تزيد رزقي بخصوص ظروف نشأتها.
السرطان 4 مرات
لا تنكر سارة أن ولادتها في حضور السرطان، الذي خطف منها والدها قبل أن تعرفه فعلا، أبقاها خائفة من هذا المرض. وتكشف أنها كانت تكلم نفسها مرات عديدة كل يوم، وهي طفلة صغيرة وقتها، متوجسة من إصابتها بالداء نفسه الذي دفعها إلى اليتم المبكّر.
عاشت سارة رزقي الرعب حين أصيبت بالسرطان في ربيعها الـ17؛ لكنها أفلحت في تخطي المرحلة حين أعلن الأطباء شفاءها بشكل كامل، لكن التوعّك الصحي رجع إليها حين وصلت سنتها الـ28، ومرّة أخرى نجحت في التعافي بعد الاستسلام لمجموعة من العمليات.
تقول مختبرة هذه المحنة الصحية: "عملت على مراقبة كل خطواتي في العيش تجنبا للمرض مرة أخرى؛ لكن الأقدار شاءت أن أغدو مصابة بالسرطان في سن الـ38، وهذه المرة كانت حدة الإصابة أشد في الرئتين، لكنني تجاوزت الداء بـ4 جراحات معقدة.. وفي سنة 2018، تخطيت السرطان مرة رابعة".
القتال من أجل الحياة
هازمة السرطان 4 مرات تشدد على أنها تستحضر على الدوام إيمانها بالله الشافي المعافي، كما تستفيد من عناية أسرتها بها عند كل مرحلة علاجية للأورام الخبيثة، بينما تذكر أن عراكها مع الداء في سن الـ44 كان بطابع خاص يجعله مميزا عمّا سبقه.
وتفسر سارة رزقي: "التعاطي مع المرض كان بنفسية مهتزة عام 2018 حين خلت أني وصلت النهاية. لذلك، لجأت إلى ارتداء القفازات وممارسة رياضة الملاكمة لإخراج غضبي؛ لكنني تفاجأت بأن هذه الرياضة ساعدتني في رحلة الاستشفاء بشهادة الخبراء".
التغلب رابع مرة على السرطان دفع رزقي نحو العمل التطوعي كي تؤسس جمعية "القتال من أجل الحياة"، وهو تنظيم غير ربحي ينشد مساعدة المصابين بالسرطان، أساسا، مع إبقائه مفتوحا أمام المحتاجين الدعم لمجابهة أمراض أخرى.
بدأت سارة في مساندة مرضى السرطان بإعطائهم دروسا في الملاكمة تراعي خصوصياتهم الصحية؛ من الجنسين وكافة الشرائح العمرية، مركزة على الضبط التام للحركات الرياضية دون الانتقال إلى جولات القتال أو تبادل الضربات الموجعة.
"ضبط تقنيات الملاكمة، بناء على تجربتي ونظيراتها للمستفيدين من التأطير، يخلق تركيزا ذهنيا عاليا وشحذا نفسيا للمساعدة على مواجهة السقم.. وبهذا يعرف المريض معنى خوض قتال من أجل الحياة ويعي ضرورة معاودة الوقوف بعد الوقوع أرضا"، تعلن رزقي.
اشتغال على التشبيك
جمعية "FightXLife" تستفيد من حضور أطباء ضمن اشتغالاتها، خاصة المتخصصون منهم في العلاجات النفسية والترويض الطبي والأنكولوجيا، كما تقيم ورشات إضافية بعيدة عن الملاكمة لمن يخضعون إلى حصص كيميائية، وتستفيد من تشبيك مع شركاء يوفرون مواد التجميل والحلاقة لتلبية حاجيات من يغير التداوي مظهرهم الخارجي.
الرئيسة المغربية للتنظيم الناشط انطلاقا من بروكسيل تعلن أن "القتال من أجل الحياة" يهدف إلى إبرام شراكات للاستفادة أكثر من أطر المستشفيات، مع ابتغاء توسيع شبكة الداعمين كي يستفيد عدد أكبر من المرضى؛ بينما الغاية تتصل بعيش مواجهي السرطان في ظروف بعيدة عن أي هشاشة تعيق تعافيهم المنشود.
تعمل الجمعية ذاتها، تحت إشراف سارة رزقي، على موعد سنوي استعراضي تحضر فيه الملاكمة، بشراكة مع مجموعة من الرياضيين وأندية "الفن النبيل"، كي يتم استثمار صدى هذا الحدث في التحسيس وجمع التبرعات المالية والعينية، بتركيز على التعريف بمحنة مواجهي السرطان وما يحتاجونه من سند مادي ونفساني.
أداء "FightXLife" استرعى انتباه المجتمع البلجيكي عموما، ولفت الأنظار في جهة بروكسيل خصوصا، وبذلك ينال دعما متناميا باستمرار مثلما عدد المستفيدين من تدخلات هذه الجمعية الفريدة من نوعها آخذ في التزايد بمرور الوقت، وتقول سارة رزقي: "هناك تنسيق مع فاعلين رياضيين في المغرب لتبادل الزيارات وخوض نقاشات كفيلة برفع مستوى التأطير هنا وهناك، وتكريس خدمة الرياضة للقضايا البشرية النبيلة؛ مع نقل تجربتنا في جعل ارتداء القفازات يساهم ضمن جهود مكافحة السرطان".
ثالوث الوصول إلى النجاح
تعتقد رزقي أنها نجحت في التغلب على متاعبها الصحية السرطانية بفضل الإيمان بالله أوّلا، معلنة أنها لم تنقطع عن الصلاة لاكتساب قوة روحية تحفز على بذل كل ما تستطيعه ضمن معركتها الجسدية. وترى أيضا أن الإيمان مفتاح للفلَاح، كيفما كان التحدي الذي يخوضه الإنسان.
وممّا خبرته حياتيا، تذكر سارة أن الناس يميلون إلى التقرب من معارفهم والإصغاء إلى آراء الأصدقاء، بينما المحن الشديدة تبين أن المحيط العائلي هو الذي يكون سندا حقيقيا وقت الشدائد. لذلك، يتوجب على من يتواجدون في أوضاع صعبة أن يعززوا الالتحام بأقاربهم والإنصات لإرشاداتهم.
"المحفز الثالث على الاجتهاد بلا حساب يكمن في مستوى ثقة كل شخص في قدراته الذاتية، بلا تضخيم ولا انتقاص، حيث لا يجب أن يستحي المرء من الحديث إلى نفسه باستمرار كي يقويّ إرادته ويتذكّر ما يستطيع إنجازه حقا"، تختم سارة رزقي كلامها.
قد يهمك ايضا:
مذيعة أميركية تكتشف عن إصابتها بـ "السرطان" في رسالة مفاجئة من متابعة