الرباط - وكالات
الكتابة نظام للتواصل الإنساني بواسطة علامات إصطلاحية معيّنة مرئية،هذه العلامات هي ذات أهمية قصوى وإنّ إنتشارها لا يحتّم علينا العودة إلى الكتابة التي كانت تستعمل في فترة ما قبل التاريخ، أو في الكتابات الهيروغليفية ،بمعنى أنّنا نستعملها دون أن نبرح دورنا أو منازلنا ، إنه لأمر يبعث على الإعجاب أن نتخيّل العملية العضوية للكتابة في حدّ ذاتها التي ظلّت كما كانت عليه منذ ما ينيف على ألفي سنة.تشير عالمة الحفريات الإسبانية " إليسّا رويث " أنّ شاعرا رومانيا يسمّى " مارثيال "الذي عاش في القرن الميلادى الأوّل كان يحصي من حاجيات الكاتب موادا مثل :المحّارة، الإسفنج ،المبرد ، وذلك لإعداد العناصرأو الأدوات التي كان يستعملها حتى يتسنّى له أن يمحي ، ويصلح، ويشطب. الوسائل المستعملة لتخطيط رسم هذه العلامات هي اليراعة ،أو القلم ، أو الجلم أو الريشة التقليدية القديمة.
وأمّا العناصر التي كانت تستعمل في الكتابة فهي : ورق البردى، والجلود، والرقّ أو ( الورق المهرق). ويصف عملية الكتابة أنها عملية شاقة وصعبة ومضنية، وهذا ما يفسّر وجود " نسّاخ " إلى جانب كل كاتب كبير معروف حيث كان ينسخ له ما كان يكتبه أو يملى عليه نصوصه.
ورق مهرق...كتابة سهلة
يؤكد المؤرّخون والباحثون في هذا المجال أنّه حوالي (1100 م) وصلت صناعة الورق إلى إسبانيا، وذلك عندما أدخلها المسلمون لأوّل مرّة إلى شبه الجزيرة الإيبيرية .ويصف " داهل سفينر" الورق في كتابه " تاريخ الكتاب ":أنه مادة صالحة للكتابة كان رخيصا وأحسن من ورق البردى أو من الورق المهرق".
ويشير أنّ " الورق" هو من إختراع "تساي لون " من الصّين عام ( 105) من التاريخ الميلادي. وقد إحتفظ الصّينيون بسرّ هذا الاختراع لمدّة سبعة قرون حتى أمكن للمسلمين إنتزاعه منهم في أواسط القرن الثامن الميلادي.
إنّ مواد الكتابة ما تزال على ما كانت عليه باستثناء بعض التغيّرات أو التحسّنات التي طرأت على نوعية هذه المواد، أو سهولة الكتابة، أو جماليتها،حيث أصبح هناك ورق أكثر صقلا من ذى قبل ، وأصبحت هناك أقلام ميسّرة إلى أن نصل إلى أقلام الحبر أو الأقلام الجافة التى إستغنت عن الدواة أو المحبرة ،وأعطت للقلم إستقلالا ومرونة وسهولة ويسرا في الإستعمال، ثم إنّ إختراع القلم "الفيتر" أو "البيل" أو "الإستيلو" يعدّ ثورة هائلة في عالم الكتابة.
وفي عام (1714) حصل " هنرى ميل "على إذن في بريطانيا العظمى لصنع راقنة للكتابة ، هذا الإختراع جاء نتيجة منطقية لإستنباط الطباعة ذات الأحرف المتحرّكة . وبعد محاولات متعدّدة أخرج " كريستوفر سكولر "عام (1868)أوّل طابعة أو طباعة عملية، ثم في (1873 ) بدأ يظهر أوّل نوع تجارى من هذه الراقنات.وبعد سلسلة من التحسّنات والإضافات أيّ في عام (1930)" إ. ب. م" تخرج للسّوق أوّل راقنة للكتابة الكهربائية. وفي (1981) تخرج نفس الدار ما يعرف ب : "ب .س " (أوالكومبيوتر الشخصي) الذي سيصبح فيما بعد صالحا في العالم أجمع للعقول الإلكترونية الشخصية.وفي هذه المرحلة بدأت تظهر ما يسمّى بالكتابة الإلكترونية حيث سيصل هذا النوع من التطوّر في الكتابة مداه في الحاسوبات في زمن لا يتعدّى القرن الواحد.
بين سيرفانطيس وغارسيا ماركيز
إنّ ظهور هذه الوسائل الجديدة المتطوّرة للكتابة سوف تؤدّى بشكل أو بآخر إلى تغيير ميكانيكية عملية الخلق الأدبي ، بمعنى أنّ كاتبا عالميا مثل " مغيل دي سيرفانطيس" (لنضرب مثالا لذلك) المعروف باقتصاده المذبذب ، و شدّة تقتيره.. ! لم يكن في إمكانه تكليف ناسخ ليساعده ، إذن فلابدّ أنّه بذل من الجهد والعناء ما لا يخطر لنا على بال عند كتابته لرائعته العالمية المطوّلة: " دون كيشوت ".
وكمثال من عصرنا فإنّ الكاتب الكولومبى الكبير "غابرييل غارسيا ماركيز" ، الذى جرّب في أعماله الأدبية إنتقال عملية الكتابة من " القلم" إلى "الآلة الكاتبة" ثمّ أخيرا الى " العقل الالكتروني"،أو الكوميوتر إلى أيّ حدّ كانت هذه التجربة ذات جدوى أو ذات سوء وضرر بالنسبة لعملية الإبداع الأدبي لدى الكاتب !؟
إنّه لمن الصعب معرفة ذلك، لأنّ عملية الكتابة إنّما هى تشكّل عنصرا واحدا من عناصر متعدّدة في الخلق الأدبي، إلاّ انّ الكاتب غارسيا ماركيز نفسه يزيح عنّا هذه الشكوك عندما يقول في أحد تصريحاته في هذا القبيل : "الكتابة في العقل الإلكتروني تشبه إلى حدّ بعيد عملية الكتابة الأولى باليد، لأنّه يمكن لك أن تزيل ما تريد ،أو أن تشطب أو تضيف..الخ ، وفي الواقع إنّ أحسن إختراع للكاتب هو العقل الالكتروني، لو كنت أملكه منذ عشرين سنة لكان عندى ضعف ما لديّ من الكتب الآن".
ويبدو واضحا أنّ روايات الكاتب غارسيا ماركيز مثل " الحبّ في زمن الكوليرا" و"الجنرال في متاهته"، أو "الكلونيل ليس لديه من يكاتبه" وسواها من رواياته الأخرى ، على الرّغم من حصوله على جائزة نوبل العالمية في الآداب، فإنّ معظم رواياته التي كتبها فى العقود الأخيرة بما فيها الروايتان المذكورتان أعلاه، كلّها قد مرّت عبر دهاليز، وأسلاك، وعناكب العقل الإلكتروني ، وهي روايات جيّدة مثل سابقاتها. (أنظر دراسة مطوّلة لكاتب هذه السطور حول غابرييل غارسيا مركيز والمدرجة في كتابي: " ذاكرة الحلم والوشم " (قراءات في الأدب الأمريكي اللاّ تيني المعاصر)، الناشر:"إياديف" للطباعة والنشر، الرباط 2005).
ولا شكّ أنّ هناك كتّابا آخرين كثيرين جعلوا من العقل الإلكتروني وسيلة للتعبيرالأدبي والكتابة والذين يعترفون أنّ الكتابة بواسطة العقل الإلكتروني هي أكثر يسرا ومرونة وسرعة ،لأنّ الكاتب لم يعد يحتاج الى عدّة مسوّدات ، وإعادات وتصحيحات مضنية ..إلخ.فضلا عن إختصاره أو تقليصه للوقت ، فإنّ ثلاثين صفحة التي كان يحتاج الى شهرأو أكثر لكتابتها، أصبح يكتبها في غضون أسبوع ، وما كان يتطلّب منه يوما من الوقت، أصبح لا يستغرق اليوم سوى ساعة واحدة أو أقلّ .
محو، إضافة ، تصحيح..
لقد أصبح في متناول الجميع الآن القيام بعملية إستخدام العقل الالكتروني للكتابة ليس فقط في مجال الخلق الأدبي وحسب ، بل في مختلف ميادين الفكر، والعلوم ، والإقتصاد، والصّحافة، والإعلام..إلخ، فبمجرّد أن تدوس على زرّ، تستطيع أن تفعل ما يحلو لك : محو، شطب، إضافة، إلصاق ، تقطيع، نقل ، تصحيح، توضيح ، تحميل ، تركيز، تصغير، تكبير، كتابة فهرسة،إضافة رسوم بيانية ، صور، وغيرها من المستجدّات التي تطرحها لنا التكنولوجيا الحديثة المتطوّرة المذهلة التي أصبحت العقول البشرية تحار معها وتتعجّب .. ! .
والسؤال الذي أصبح يطرح نفسه بإلحاح في هذا المجال:هل يحسن العقل الإلكتروني عملية الكتابة فى حدّ ذاتها..؟ ذلك أنّ القول بأنّ كاتبا يمكن أن يصحّح بسرعة، ويكتب من جديد ليس معناه أنّه بالضرورة كاتب جيّد ، بل على العكس إنّ ذلك قد يضرّ بوتيرة الكتابة، ويسيئ بالتالي إلى عمليتي الخلق والإبداع الأدبيين . وإنّ تصريحات غابرييل غارسيا ماركيز السّابقة التي يشير فيها أنّه لو كان يتوفّر على هذه الآلة من قبل لكتب ضعف ما لديه من الكتب الآن تبعثنا على طرح تساؤل من نوع آخروهو: وهل ستكون هذه الأعمال جيّدة كذلك بشكل مضاعف.. ؟ ذلك أنّ الكتابة بسرعة لا تعني بالضرورة ضمان الجودة.
ورحم الله أبا الطيّب المتنبّي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، والذي لم يكن يحتاج من هذه الأمور جميعا سوى إلى جلمه الأعلى، ويراعته، وقرطاسه ، ليخلّف لنا تلك الروائع الخالدة التي ما فتئت تلوكها الألسن بإعجاب، وتردّدها الشفاه بإنبهار،وتحفظها الذاكرة الجماعية عن ظهر قلب لعشّاق الشعر، والأدب، وعذب الكلام ، من جيل إلى جيل ، ألم يؤكّد لنا ذلك فى بيتيه الرّائعين اللذين طبّقت شهرتهما الآفاق..؟ وهم :
أنا من نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسّيف والرّمح والقرطاس والقلم .
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر