رائحة البحر والحرب والسينما وأجفاني على إمتداد الطريق
نعيم عبد مهلهل
منذ الصّبحِ الباكرِ أجلسُ في المقهى :
طنجةُ تستيقظُ .
لستُ أنا مَن يُوقِظُ طنجــةَ …
مَن قالَ : الـحُـلـمُ ينام ؟
سعدي يوسف
البصرة بصرتنا ..وهذا النوح عادتنا
عازف الماصول البصري تومان
يسكن الجنود بعض بهجة من مشاعر خفية تقول لهم : أن الاغاني وافلام السينما من بعض الهواجس الخفية التي تقلل من تأثير الحرب ومجهولها وخسائرها ، بعد أن كانت وجوه الاباء والحبيبيات هي المشاعر الأكثر شيوعا في صناعة هذا التأثير ، لهذا كان اغلب مراتب البطرية الثالثة ك م متو 240 من الجنود والذين يمتدون بانتشار قتالي مع مدافعهم على مساحة 300 متر قريبا من ضفاف بحيرة الاسماك في البصرة يفضلون الذهاب الى مشاهدة الافلام السينمائية في العشار بدلا من الذهاب الى الحمامات الرجالية عندما يؤذن لهم لنصف نهار في كل اسبوع يبدأ من العاشرة صباحا وحتى السادسة مساء.
بالنسبة لي إذا كان الفيلم لصوفيا لورين أو برجيت باردو او هند رستم فأن أي حرب لن تمنعني من النزول الى العشار لمشاهدة هذا الفيلم ، وفرحت كثيرا عندما عريف المخابرة خليل ابراهيم سمين من عشاق السينما ايضا ، ولكن ملهمته الاولى هي الممثلة الهندية هيما ميلاني التي كانت ملكة جمال الهند قبل ان تمثل في الفيلم الهندي الشهير ( أنداز ) مع الممثلين شامي كابور وراجيش كنا . وحتى يسمح لي بالنزول اخبره ان سينما الكرنك في العشار ستعرض واحدا من افلامها وعلي أن احضره نيابة عنه ، وانا اعرف ان الفيلم الذي يعرض هو الأمس واليوم وغدا لصوفيا لورين والذي شاركه التمثيل فيه الممثل الايطالي مارسيلّو ماسترويانّي .وكتب قصته الروائي الشهير البرتو مورافيا.
فيفرح ويقرر ان يشاركني النزول الى البصرة ، وحين يكتشف كذبي سيغضب ويتهمني بخداعه ولكنه في النهاية سيدخل معي ويشاهد الفيلم وسيشعر بالفرح ويشكرني على تلك المتعة ثم يدعوني للذهاب الى محل لبيع السمبوسة ، ومع لذة البهارات الهندية للسمبوسة يعترف خليل أن نظرات لورين وفخذيها يتفوقان على رغبته برؤية افلام ممثلته الهندية المفضلة.
كانت منطقة العشار اقرب المناطق الى خنادق جبهات البصرة من جهة الشلامجة حيث رحى معارك قاسية كلفت العراق وايران الافا من الضحايا ، ثلاثة ارباعهم من العزاب ، وكما يقول عريف المخابرة خليل :العازب إن لم يمتلك حبيبة يمتلك في خياله ممثلة سينمائية .
لهذا كان الوصول الى واحدة من سينمات العشار هو الوصول الى ضفاف اخيلتنا العازبة ، فحين نذهب الى منطقة العشار نعيش متعة رقابنا التي تستدير صوب الجهات التي نسمع منها موسيقى وقع خطوات انثى ، ثم تختفي نظراتنا عند ظلال نخيل شط العرب فنذهب الى حيث المكان بأبنيته الحديثة وشرفات فندق الشيراتون وواجهات المحلات الكبيرة في سوق حنا الشيخ والزخارف الهندسية لبيوت الشناشيل التي تركها يهود البصرة ارثا لأزمنة المدينة ، ليتمنى كل واحد منا ان تكون لديه عيني زرقاء اليمامة ويدعي انه يشاهد الان بوابة سينما الكرنك ليعرف الجنود عنوان الفيلم الذي سيعرض في اليوم الذي سينزلون فيه الى المدينة ، وحتى اجعلهم يعيشون لحظة اغراء انتظار الاجساد البيضاء الممتلئة بشهوة التمني والخلاص والعادة السرية ادرج اليهم عناوين مثيرة لأفلام رومانسية واباحية شهيرة واغلبها افلاما يونانية وفرنسية وسويدية ، فتقفز في شرايين ذكورتها موجات دم فائر ، وبصمت يلعنون الحرب ويتمنون ليلة سحرية مع واحدة من ممثلات تلك الافلام . فيعيشون مع تلك القائمة الطويلة التي ادرجها لهم متعة التخيل وقد تحولت اجفانهم الى شوارع طويله توصلهم من ملاجئهم حتى شاشات السينما ، وقد سكنتهم ذكريات لحظات قديمة وهو يرفعون شعار :من الاستمناء الى الحمام الشعبي .
عودة الخنادق
ذلك يحدث دائما عندما يغادرون الفيلم في نهايته ولم تزل نهود الممثلات الايطاليات والفرنسيات واليونانيات معلقة على صدورهم . ليستعيدوا متعة النوم معها حين يعودون الى خنادقهم حيث يسكنهم طقس الاستمناء مرة اخرى.
كانت الكرنك مأوى افتراضا لسحر ما يتمناه الجنود الذين لا يرون ضرورة للذهاب الى الحمامات ودلك اجسامهم بالصابون مفضلين رائحة التراب وعطر الممثلات على عطر صابون اللوكس ، وغيرهم من يمتلك الوقت للاثنين معا ، مشاهدة اللقطات المثيرة ثم الذهاب بعد ذلك الى الحمام وحجز لوج خاصا يستحم فيه ويفعل ما يشاء من الاماني وهو عاريا .
لم افعلها بالرغم اني كنت اذهب معهم الى تلك الافلام ، وقد صنعت غريزتي لدي هاجسا من كبت انفلات ما اتمناه ،ومثل ما كان يفعل كافافيس ابقيت جمالية حسي في لهفة تعيش معي في التعبير عنها بقصيدة او خاطرة او قصة ، وحتى لا أخدع صبري .اخر الليل حين يأوي الجميع الى شخيرهم ، تحركني الرغبات الى ممثلة ايطالية اسمها اورنيلا موتي واتخيل معها ما يتخيله الجنود ويفعله في الحمامات.
تلك المتعة الشجاعة في مرات كثيرة تتقاطع معها افكارا وهواجسا مزعجة تذكرك بما يخبئه القادم لك ، القصف والهجوم المعادي ، والذهاب الى المرصد بواجب الرصد في مسافة قد لا تبعد مئة متر عن القناص الايراني.
وقتها تتفوق صور الموت وبتر واحد من الاعضاء على اخيلة السباحة في عطر انوثة ممثلات افلام سينما الكرنك حيث ينتظرنا اسبوعا قادما للذهاب الى هناك عندما يكتب الله لنا السلامة.
ذهبت تلك الايام ، ولكن لحظة واحدة من لحظات محطات سفرك تعيد اليك لذة ومتعة كل تلك الطقوس ، وقد كانت مدينة تطوان واحدة من محطات اقدار ذلك السفر الذي استعدت فيه ازمنة حروب البصرة ودهشة الاخيلة على شاشات سينماتها ، عندما اصر صديقي ومرافقي الطنجاوي علي بو درار وهو صاحب مكتبة في شارع موسى بن نصير ان اكون ضيفه في بيت اهل زوجته في تطوان وقبلها كنت قد قضيت ليلة لاستعادة الذكريات الخاصة في شقة الريبو صديق الروائي المغربي الشهير محمد شكري والذي ذكر لنا ما اخبره فيه شكري ذات جلسة مؤانسة بين صحو وسكر ، أن طنجة ربما كانت واحدة من الموانئ التي رست فيها سفينة السندباد البصري. وانه في طفولته كان يسمي البساط الذي تحيكه والدته ببساط الريح ليتمنى الصعود عليه والطيران فيه الى امكنة ابعد من قريته الفلاحية النائية ، وربما هذا البساط هو من اوصله الى طنجة ليعيش فيها وليصبح مشهورا كما السندباد.
واتخيل شكري في واحدة من نصوصه وهو يتحدث عن بهجة السفر خارج طنجة في اول زيارة له الى هولندا وقد تحدث في رسائله الى محمد برادة انه تعرف فيها على امرأتين واحدة صيدلانية واخرى مدرسة كيمياء ، وانه توسدهن غراما وثمالة .
ولا اعرف لماذا شعرت ان شكري لا يجانب الكثير من الحقيقية في قصصه الغرامية في هولندا ، ربما لأنني اعيش في اوربا واعرف ان المرأة الاوربية المتعلمة لا يمكن ان تمنح جسدها لرجل جاء الى بلدها في سفرة سياحية لأسبوع ، وأن اراد هذا الشي فيمكن ان يجده عند موامس الشوارع الخلفية في العاصمة امستردام لقاء ثمن يتفق عليه ، فيذهب مع احداهن الى شقتها القريبة ويمارس الغرام بعجل واذا لم يحسن التحدث باللغة التي تتقنها المومس يمارس معها بمساعدة الاشارة والتأوه ، وإذا كان شكري صادقا في قصة المضاجعة في هولندا ، فهذا يعود الى أن المرأتين ربما قد عرفن من ترجمة الخبز الحافي للهولندية ان هذا الرجل ــ الروائي يملك طاقة فحل عاش اساطير الكبت والتشرد والحرمان بأقسى الدرجات.
بعيدا عن محمد شكري ، كان من بعض احلام سفري ان ازور قاعات سينمات طنجة لشعوري انها مثل قاعات سينمات مدينتي الناصرية التي ولدت فيها ، وفي مناخات شاشات طنجة سأجد الكثير من تشابه ذكريات جنود حروب البصرة حيث يقال هنا ان الجنود الغرباء ترسوا سفنهم وبوارجهم في ميناء المدينة وليس لديهم سوى طقسين ليوم كامل خارج البحر ، السينمات نهارا والملاهي ليلا واغلبهم من الاسبان الذين ليس لديهم ممثلات مشهورات يحملن اغراءً مثيرا فيذهبون للبحث عن سيقان برجيت باردو والإليزابيت تايلور وراكيل وولش.
وكأنهم يحملون ذات شهية ورغبات جنود بحيرة الاسماك ، والفرق اننا نشتهي ممثلات السينما ونحن جنودا داخل التراب الوطني وهم على تراب المستعمرات التي يحتلونها.
قلت لصديقي الطنجي : لنمر عليها ونشاهد بعضا من افلامها لأستعيد امكنة تركتها هناك .
لقد كانت السينما سريرا لتخيل شهية امرأة كان الجنود يحلمون بممارسة الغرام معها ، واظن ان معظم ممثلات الأغراء يعرفن هذا وربما يشعرن بالسعادة حين يعرفن ان معظم مشاهدي أفلامهن في بلدان العالم الثالث هم من الجنود حيث تكثر الحروب فيها في صراعات طويلة وقصيرة.
قال صديقي : لم تعد سينمات طنجة كما كانت ، فهي الان تحمل اسرارا اخرى حين يأوي اليها الشباب واغلبهم من العاطلين عن العمل وتاركي المدرسة والحالمين مثل القراصنة ليعبروا الى الشاطئ الاسباني حيث اوربا ، وهؤلاء يجنحون الى اهواء غريبة اثناء عرض الفيلم وبعده .
قلت : عندما كنا جنودا كنا نفعلها بسبب الحاجة الى ما نتمناه .
قال :ربما تفعلوها في الخفاء والاضواء معتمة .هؤلاء يفعلونها في العلن في بعض المرات.
قلت : كلا .كان الغرام يسكننا بكل جوانحه ومعه يسكننا الكثير من الحياء والخجل والخوف ايضا.
ــ لهذا انقطعت عن الذهاب الى السينما لأنها لم تعد صالحة لأحاسيسنا وذلك الارتباك الجميل الذي كان يسكن وجوهنا ، كما وجوهكم انتم جنود حروب البصرة.
ضحكت وانا اسمع من مغاربي هذه العبارة ( جنود حرب البصرة ) وسألته ان كان يعرفها جيدا ؟
قال : من خلال اخبار التلفاز وبعض الروايات العراقية .
قلت : حروب البصرة يا صديقي حصدت وقتلت وخربت واتت بأحلام السفر لأغلب الناجين منها .
ــ نعم ، ولذلك انت هنا . ومن اجلك سأحقق لك ما تتمناه واحضر معك عرضا سينمائيا واتمناه يكون عرضا لفيلم في احدى سينمات تطوان لأن اجمل ذكرياتي تقترن بأفلامها فهي اريكة غرامي الاولى ، ذلك لأن أم اولادي من اهل تطوان وكنا ايام الخطوبة لا تمر جمعة دون ان نحضر سوية عرضا سينمائيا وفيه نتمنى ان تكون نادية لطفي هي البطلة ، ذلك لان حبيبتي وزوجتي عايدة تشبهها كثيرا وهي من طلبت مني ان ندعوك الليلة على العشا في بيتنا ، لقد كبرنا ، ولكنك عندما ترى اصغر بناتي نديمه ستتأكد ان عايدة كانت تشبه نادية لطفي تماما .
قلت :ليحفظها الله لك ولبيتك .
ــ آمين ، اللهم امين.
في جلسة العشاء ، عدنا لنستذكر هذا الفرح المرئي الذي يلازم ظلال طفولتنا وصبانا والشباب ، وأخبرته أن خواطر المدن مع هاجس السينما يكاد يكون متشابها ، وان وجوه الممثلات واجسادهن هو الرابط الاقوى ان كان من يشاهد الفيلم من ابناء بوينس ايرس او من صعيد مصر.
ضحك وقال : هذا يعني ان طنجة اخت البصرة سينمائيا؟
قلت : بالضبط .
قال : ولكن بصرتكم مبتلاة بالحروب وهي تذهب لترى فيلم سينمائي ، فيما طنجة في ذات المشاعر تكون مبتلاة بحلم السفر الى اوربا .
ــ الهاجسان كلاهما حرب ، فالحجاج يقول : لولا فرحة الاياب لعذبت اعدائي بالسفر.
ــ اوه .ربما صدقت في هذا .
قلت : متى تتذكر ، فأن صدق الذكرى يرتبط بما كانت تمنحك اياه تلك الشاشات وخصوصا في طفولة مدينتي السومرية .
قال صديقي الطنجي : أنه لايعرف الناصرية جيدا ولكنه سمع عن البصرة منذ ان قرأ قصص الف ليلة وليلة ، وفي الحرب سمع كثيرا عنها ايضا ، وان المغاربة كان يشفقون على موت العراقيين في جبهاتها ، لانهم يعرفون ان الجيش العربي الذي عبر مع طارق الى اسبانيا عبر طنجة كان الكثير فيه من اهل البصرة ،والكثير من العوائل المغربية التي عادت لتسكن هنا بعد سقوط دولة العرب في الاندلس تحمل لقب البصري.
وحتى ابعد النقاش عن اشكالية الحرب واسبابها .قلت : لنبقى عند السينما ، فما ذكرته اعرفه تماما .فقط اريد ان اعرف سر مودتنا مع الشاشات بالرغم من اختلاف الجغرافيات ؟
قال : ببساطة ، برجيت باردو مثلا كانت تظهر بذات الملامح واللقطة الرومانسية على شاشات سينمات طنجة وفي الوقت ذاته تظهر على شاشات سينمات البصرة ، والعيون كلها لآدم واحد ينظر ويتمنى ويتحسر . الامكنة تختلف ولكن الممثل واحد .
قلت : ولكن في البصرة .قد يغادر الجندي الفيلم بعد نهايته ليذهب الى خنادق الحرب ويموت فيها؟
قال :نعم انها مفارقات النهاية .دائما تكون بأقدار مختلفة.
مع كلام صديقي اعيد الى نفسي قناعة ان السينما مثل الموسيقى ، انها ذائقة كونية واحدة تسكن رؤوس واحلام كل سكان العالم ، وهي من تمزج بعاطفتها موجة نهر شط العرب بموجة بحر طنجة ،والفضل يعود الى ما تفعله شفاه برجيت باردو اثناء التقبيل.
تسكنني عاطفة الماء وعاطفة القبلات ، فأتخيل مياه بحيرة الاسماك حين يحمر موجها من دم ضحايا حروبها ، فيسكنني الحزن ، فأتمنى ان تبتعد الذكرى لتيقى وجوه الممثلات من دون موج العائم بحزن وضحاياه يصبغها الاحمر ، بل اريد للأحمر ان يصبغ الشفاه فقط .
يشعر صديقي بما اشعره الان ويقول :
ان اهل طنجة بحريون ، ويشعرون ان عذوبة الماء في ارواحهم تأتي من البحر بالرغم من انه مالحا ، فتغذيهم ينابيع الجبال المحيطة بطنجة بدلا عنه عندما تحتاج اجسادهم الماء .
ارد عليه : ومثلهم البصريون .ولكنهم يعانون من مشقة الحصول على الماء لأن شط العرب مائه مالحا .
ــ لا تقل لي ان هذا الملح سببه السياسة ؟
ــ نعم يا صديقي بسببها .
ــ لو كان نفط البصرة في طنجة ، لجعلنا باريس معوقة وتمشي على عكازين .
اضحك وانا اصدق كلام صديقي واشكر زوجته على طبخها الرائع وخصوصا اللحمة والرز المطبوخين بالطاجين ، وقد اخذت منه وعدا بزيارة قاعات السينما في طنجة بعد ان نزور قاعات سينما تطوان .
قال : قال سندخل اليها كلها ( روكسي وفيتاراما وفوكس والريف ) انت تستعيد معها ما كان هناك .وانا استعيد ما كان هنا.
كان نهارا جميلا ونحن ندور على امكنة كانت في الامس اكثر امكنة جسد المدينة نبضا وغراما ، وامام تلك البنايات التي لم ادلف الى متعتها ولكني احس بذكريات شبيهاتها في الناصرية والبصرة فأتخيلها متاحفا لطرد غيوم النسيان من ذاكرتنا وقد تحول بعضها الى كراجات للسيارات وبعضها مخازن مواد غذائية للتجار واخرى مهملة ومتروكه كما في الكثير من سينمات بلدان العالم الثالث ، ويفترض ان تكون تلك الامكنة شواهد لتواريخ لا تتكرر في حياة البشرية ،
عندما يخبرني صديقي ان الكثير من سقوف احلام السينما انهارت مع نهاية الحرب الباردة وزوال دولة السوفييت ومجيء عولمة الانترنيت:
ــ تلك المستجدات الرقمية عطلت من لهفة الضوء وبراءته وشهيته في عيون الممثلات ،وقللت الكثير من حماس خواطر الكتابة .وعلينا ان نقاوم هذا الغزو في استعادة الذكريات وتدوينها .
شارع اطلس
في الليل اعود الى غرفتي في فندق اطلس بشارع موسى بن نصير وقد كان وعد الغد من صديقي بو درار ان نعود غدا الى تطوان لنشاهد فيلما لصوفيا لورين عنوانه اليوم وامس وغدا والذي ستعرضه سينما افنيدا التي يعد معمارها واحدا من تحف البناء الجميل بين بنايات دور السينما في البلدان الاخرى وقد بناها الاسباني خوسيه بودار وكان قبل ذلك يبيع الماء في شوارع تطوان .
سأتذكر غدا الساحرة الايطالية لورين ، وقد اغرت طفولتنا بأفلامها المسكونة بأحلام روما ويوليوس قيصر والبرتو مورافيا ومدن إيطاليو كالفينو المذهلة والوجه الكاريكاتيري للفاشي موسليني ، وسوف اذهب مع عينيها الى امس داعبه الفقر والحرب بأحلام الحقائب المسافرة عندما كنا نتخيل عينياها سماوات تحلق بها الطائرات التي ستذهب بنا بعيدا عن شوارع الوحل بين بيوتنا والمدرسة ,
هو الفيلم ذاته الذي تحدينا فيه الاوامر الصارمة بعدم النزول ومغادرة الخنادق بسبب عنف الهجومات الايرانية على قاطعنا ، عندما ذهبنا متخفين نحن الاربعة واختبئنا في سيارة الحانوت الذاهبة الى البصرة للتسوق وحضرنا لمشاهدة ذلك الفيلم في سينما الكرنك وفي اخر ايامها قبل ان تغلقها شظايا المدافع .
كنا نرتعش مثل الخيط قبل ان يلج بثقب ابرة ونحن ننتظر انطفاء الانوار وبداية اطلالة صدر لورين بثوبها الاسود المغري وشهية نظرتها الشرقية وقد حضر بعضنا سلاح رغبته ،فيما كبتها انا لشهية كتابة اخر الليل وانا في الملجأ مع ضوء الفانوس وصورتها المعلقة على جدار الملجأ.
وحتما عندما تطفئ افنيدا انوارها سأستعيد شهية تلك اللحظات القديمة أيام الكرنك .وعلى طول الطريق بين طنجة وتطوان الذي يشق المرتفعات الجبلية وقد ملئت سفوحها غابات اشجار السرو كنت استمع واستمتع بشروحات صديقي عن جغرافية تلك الامكنة ، وعن القرى التي يعتني اهلها بالحمير اضافة الى قطعانهم من الماعز والغنم لانهم يحتاجون الحمير في تسلق هذه المرتفعات ، ومن خلال الحمير يستطيعون تشغيل نواعيرهم لسقي حقولهم .
وصلنا تطوان وقد فاجئتنا حمامة بيضاء ضخمة منحوتة بجمالية انثوية غربية وقد نحتها الفنان الإسباني كارلوس مويلا هو مصمم هذه المعلمة في أواخر الثمانينات من القرن الماضي بعد مجموعة من الإصلاحات التي عمت مدخل مدينة تطوان و شارع مولاي المهدي (طريق طنجة سابقا). ولد كارلوس مويلا بمدينة تطوان سنة 1936 و تلقى تعليمه فيها و تخرج من مدرسة الفنون الجميلة .
قلت لصديقي الطنجي : المدن عندما تكون الحمامة تعويذتها تبدوا في اخيلة ابنائها سماء حلم تطفو فيها الذكريات بحرية ومرح. ولأنني أتفاءل بالحمام لان اغلب جيراننا في الناصرية يربونه فأنا سأتخيل ان جسد صوفيا لورين سيكون حمامة ويطير عاريا في سماء المدينة ،وعلي ان اصيده بنظراتي واجلبه معي الى ليلة الحلم في فندق اطلس بطنجة.
ضحك صديقي وقال : الشعراء السومريون مجانين وقد يفعلوها وخصوصا عندما تسكن احلامهم ذكريات الحرب.
وقفت اتأمل تلك الحمامة المنحوتة بذائقة عميقة في تصور أن اجنحتها تضم المدينة في دف لقاء زائرها القادمين اليها من جهة طنجة .
اتذكر حمامات جنود بطريتنا وهم يفترضونها زاجلا ويعلقون على رقابها رسائلهم الى اهاليهم ليخبروهم انهم ما زالوا على قيد الحياة بالرغم من الجحيم المرتبك في هذه الحرب ، وهم بين كل ثلاثة نهارات يسرقون توسلا من العرفاء ليأذنوا لهم بالنزول الى البصرة ويستمتعون بلذة المشاهدة لنهدي صوفيا لورين اللذين بسبب حجمها الكروي المغري يحاولان ان يشقا فستانها الاسود لينفجرا امام عيون الجنود المشتهية قنابل من العسل سيتذوقونها لا حقا في الحمامات الشعبية او الملاجئ لتكون تميمتهم التي تحفظهم من شظاياها الحرب ومصائبها.
مع حمامة تطوان المنتصبة على قاعدة حجرية وهي تفتح اجنحتها في استعداد دائم للطيران تحركت خواطر الشوق الى هناك ، ولا ادري كيف شعرت ان هذه الحمامة الضخمة رفرفت بأجنحتها بسعادة عندما شعرت بقدومي وكأنها تفترضني سندبادا آتِ من جهة البصرة ، وصارت تردد بفرح غريب تلك الانشودة المدرسية الازلية التي تقول : بلاد العرب اوطاني ..من الشام لبغدان ..ومن نجد الى يمن ..ومن مصر فتطوان.
أتخيل أن الحمامة تسألني : هل اتيت من جهة بغدان ؟
ارد : نعم تختلف المدن في العراق لكن جهتها واحدة هي بغداد .
قالت :وهل تحمل معك حكاية لشهرزاد ؟
قلت : العراقيون عندما يعبرون حدود بلدهم لا يرتدون معطفا لذكرياتهم سوى حكايات شهرزاد .
قالت : لو كان الوقت ليلا لدعوتك الى سهرة نشرب فيه شاي النعناع ونستمع الى الحكايات ، ولكن صوفيا لورين تنتظرك.
ودعت الحمامة وذهبنا صوب سوق المدينة في انتظار المساء لنذهب واستعيد متعة مشاهدة الفيلم الايطالي للمرة العشرة.
تحدث علي بودرار عن السينمات في تطوان ويكاد ان يكون عددها مساويا لسينمات البصرة ، سينما فكتوريا التي صممها المهندس الأشباني الشهير كارلوس اميلو وكان صاحبها رجلا يهوديا ويدعى اسحاق العطار ، وسينما المنصور وسينما ميسيون كاطوليكا وكانت تعرض افلاما للأطفال الذين اعمارهم اقل من ستة عشر عام ، وسينما مونيمنطال والتي قدم على مسرحها المطرب السعودي محمد عبده واحدة من حفلاته في المغرب .
كانت ليلة تفيض رومانسية وقد حجزنا مقصورة فاخرة في سينما افيندا تخيلت ان احد ملوك اسبانيا او لوردات فرنسا او قياصرة روسيا كان قد جلس فيها قبل ذلك ، ولا ادري كيف تخيلت اني اشم رائحة تبغ فاخر من غليونات جنرلات اسبان كانوا هنا ايام الاحتلال وجلسوا يستمتعون بالأفلام المتحركة وهم يضحكون على حركات شارلي شابلن ، وحين انطفئت انوار القاعة بقي مصباحا احمرا واحدا يشبه مصابيح غرف النوم ومن خلال لذة شعاعه استعدت متعة المشاهدة الاولى مع اول كتابة لتايتل الفيلم ظهرت لنا ، فعدت الى طواف تلك الايام وهي تسكن شفاهنا وافخاذنا ،وتتحول الان الى خواطر سفر روحية في المدن التي اتى منها ابن بطوطة ذات يوم وربما استراح بناقته قرب ذات المكان الذي بنيت فيه لاحقا سينما الكرنك ، وقد وصفها وصفا ساحرا في رحلته كقوله عنها :
((وكانت البصرة من اتساع الخطة وانفساح الساحة بحيث كان هذا المسجد في وسطها. وبينه الآن وبينها ميلان، وكذلك بينه وبين السور الأول المحيط بها نحو ذلك، فهو متوسط بينهما.
ومدينة البصرة إحدى أمهات العراق الشهيرة الذكر في الآفاق الفسيحة الأرجاء المونقة الأفناء، ذات البساتين الكثيرة والفواكه الأثيرة، توفر قسمها من النضارة والخصب، لما كانت مجمع البحرين: الأجاج والعذب، وليس في الدنيا أكثر نخلاً منها، فيباع التمر في سوقها بحساب أربعة عشر رطلاً عراقية بدرهم، ودرهمهم ثلث النقرة.))
يتحرك رمش الممثلة الايطالية ، فيغلق ابن بطوطة اجفانه ويذهب بعيدا عني الى مدن اخرى ، وحتى اطيب من خاطره ، اخبره ان طنجة التي يعشقها قرأت هاجس الجمال فيها من خلال كتاب ، واخبره انه زارنا رحالة ونحن نزوره ردا لجميل انه كتب عن بطائح مدينتي أور وكتب عن البصرة وربما كان في خياله أن هذه الجنائن التي وصف نخيلها بالحسن والثمر ربما تكون ذات يوم مسرحا لموسيقى المدافع.
يتركني ابن بطوطة معتلياً ناقته وأنا اعتلي شهية ايامي متى تظهر الايطالية الساحرة على شاشة السينما فيشع في اجفاني ضوء الحنين الى بلاد تركتها هناك وهي تتحول من حرب المدافع وبطاقات التموين الى حرب المفخخات والكواتم . يشعر صديقي بحسرتي ويهمس لي : مثل تلك الافلام لا تجلب الحزن يا صديقي ، انها تجلب السعادة فقط .
أمسح عن اجفاني بقايا دمعة وارد عليه : السعادة قد تجلبها لك لأنك تشاهد الفيلم في قاعة سينما في وطنك . أما أنا فكل قاعة سينما خارج حدود العراق هي مكان للمنفى او حديقة للغربة وردها أسود .
يضع صديقي يديه على كتفي ويقول : لا عليك فتطوان وطنك ، وطنجة وطنك . ومراكش ايضا . استعد هنا براحتك ذكريات من تريد استعادته ، فأبن بطوطة حين وصل مدينتك وحط برحاله على ضفاف شط العرب واستمتع بأناشيد الصوفيين في مرقد السيد احمد الرفاعي وزار خرائب بابل واسواق بغداد لم يشعر بغربة . حتى اني اتصوره قد نطق عبارة وهو يغادر البصرة الى عمان ومكة قوله : من يفارق البصرة ستلازمه الحسرة.
استقر عند كلام صديقي ، واخبره اني وفاء لحسرة ابن بطوطة ، علي ان اعيد قراءة طنجة من جديد واني افكر بالكتابة عن الاثر الاندلسي في احيائها وتواريخها ، وثمة ما يحريني حين عرفت ان ابن زياد الذي حكمها ومنها ذهب الى الاندلس لم يعش فيها ولم يمت بل مات فقيرا ببؤس الحال عند دكة من دكات الجامع الاموي في دمشق.
يبتسم صديقي ويقول : هو تأريخنا الخفي ، تعرفه جيدا يا صديقي مثلما تعرف اسرار ما خلف قميص صوفيا لورين .
قلت : ايام كنا نشاهد هذا الفيلم في سينما الكرنك في البصرة ، كنا نعتقد أن قميص الممثلة الايطالية حين تتقطع ازراه سيحدث دويا هائلا كالذي يحدث عندما تسقط قذائف المدافع الايرانية على ملاجئنا في بحيرة الاسماك.
ذكرى البصرة
والآن على صدى ذكرى البصرة وطنجة وتطوان تطويكَ امكنة وازمان ، وتبقيك تلك الوجوه المؤنثة والملونة اسير اشرعة السفر الذي فارقت فيكَ ظلال وجوه رفاق القلق والحلم من جنود بطريتك وقد كانوا مثلك ممتلئين بشهوة الشوق الى النهد والى الشفاه والى الخلاص.
ذاك مات ، وهذا عاش ، ولم يبق من لحظات نهاية الفيلم سوى موسيقى طريق العودة الى طنجة ، وقد ملئته خضرة اشجار الصنوبر والسرو والزيتون ، فيما كان طريق العودة بين البصرة والناصرية في اجازات الحرب صحراويا قاحلا .
يمسك صديقي الطنجي تشتت نظراتي ويقرأ مراثي لهفة الى بقعة ارض تركتها هناك ، وفيها سرير امي وقبر ابي وصورة اخي المتوفي المعلقة على الجدار ، ويقول لي : ربما ستستعيد ذكريات اخرى في سينمات طنجة ؟
ــ قد لا احتاج ، فطنجة بكل عمرانها وجغرافيتها هي شاشة سينما هائلة .
ــ أذن يا صديقي لن تحتاج الى ازرار قميص صوفيا لورين وهي تتقطع أمام عينيك .
قلت : لن احتاج ، فمدينة مثل طنجة تمنحك الهاجس الروحي في خيال تمتع اخر ، يذهب بك الى ان تكون ظلا لصاحب الناقة ،وترحل معه ، عائما في الماء وفي الرمل وعلى اسفلت الشوارع وارائك المقاهي . قد تحتاج الى واحدة تشبه لورين .لكن الحاجة الكبرى هي طنجة عندما تسجلها تفاصيل رحلة ممتعة لا تنتهي بانتهاء الفيلم السينمائي.
قال : كنت بتطوان ولم تتأثر بها مثلما تتأثر انت الآن بطنجة ؟
قلت : لقد نسي ابن بطوطة ان يذكر في حاشية كتابه (تُحفة النُّظار في غرائب الأمصار وعجائب الأســــــــــــفار ) :
أن من يغادر طنجة ليرى العالم ، عليه ان يدرك ان حنين العودة اليها سيتفوق على سحر كل الجغرافيات التي سيراها.
قال :لنطلق عليك لقلب (عاشق طنجة).
قلت : ربما ، فعشق مدينة يتغلب على أي عشق ، ذلك عندما يكون بمقدورك ان تحول تلك المدينة الى امرأة او حانة او خشبة مسرح او فناجين قهوة او ثمالة تحت عريشة عنب.
قال : دعها معك ايضا واستمتع برفقتها .
قلت : وهذا ما سأفعله يا صديقي.
والآن امد اجفاني عبر امتداد الطريق الواصل بين تطوان وطنجة فتقترب المدينة ومعها يقترب البحر ، واتخيل خطوات ناقة تمشي على رمال الشاطئ وقد تزود صاحبها بالتمر والخبز والما والزيتون .وحين أسألها الى أين يقودكِ صاحبكِ ؟
قد يهمك ايضا
إغلاق مسجد السوريين بطنجة لمدة 15 يوما بعد إصابة مصلين بفيروس كورونا
ولاية كيرالا الهندية الدرب المثالي للسياحة المائية والعلاج بالطب البديل
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر