قال محمد عبد النباوي، الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئيس النيابة العامة، إن "استقلال القضاء لا يمكن أن يكون عرضة لنقاشات مجتمعية من طرف أفراد أو جماعات في المجتمع، لمجرد تضرر مصالحهم من جراء بعض المقررات القضائية؛ لأن طبيعة عمل القضاء هي أن ينتصر لخصم ضد خصمه، أو يأخذ من جهة لفائدة الجهة المقابلة، ولا مجال في أحكام القضاء لنظريات اقتسام النقط بالتعادل، كما في بعض الألعاب الرياضية".
وأضاف المسؤول القضائي ذاته، في كلمة ألقاها بمناسبة تنظيم الملتقى الثاني للعدالة بالعيون، أن "َقَدَرَ القضاء أن يَحْكُم لفريقٍ ضد فريق آخر، وقد يصيب وقد يخطئ. ولذلك، فإن المقررات القضائية لا تكون قارة ونهائية إلاَّ بعد خضوعها لمراجعات متعددة، يمكن خلالها تدارك ما فات وإصلاح ما أشكل ومراجعة الأخطاء".
وزاد موضحا بأن "قرارات النيابة العامة كلها، على سبيل المثال، هي مقررات وقتية تُعْرَضُ على القضاة والمحاكم لفحصها وتمحيصها بغاية إقراراها أو إلغائها أو تعديلها، مما يشكل فرصة حقيقية للأطراف للدفاع عن مصالحهم والتنبيه إلى الثغرات القانونية أو الواقعية التي قد لا تتم مراعاتها حين اتخاذ مقرر النيابة العامة".
وأكد عبد النباوي أن "مقررات قضاة الحكم نفسها تخضع لطعن أو أكثر من أجل تلافي الأخطاء واستدراك الهفوات، فضلاً عن كون النطق بالحكم لا يتم إلاَّ بعد مناقشة الواقع والقانون من قبل الأطراف ودفاعهم، وسلوك الإجراءات المنصوص عليها في القانون. ولذلك، فإن دفاع المجتمع عن استقلال القضاء يقتضي القبولُ بأحكامه مبدئياً، والتظلمُ منها عند الاقتضاء بالطرق التي يتيحها القانون، وليس بمهاجمة النظام القضائي -وأحياناً الطعن في استقلاله- لمجرد أن مقررات القضاة لم تعكس وجهة نظر الطرف الذي يخسر الدعوى".
وذكّر رئيس النيابة العامة بأن "استقلال النيابة العامة جزء من استقلال السلطة القضائية"، موضّحا أن "استقلال السلطة القضائية ليس مجرد شعار يرفعه الناس في خطاباتهم، ولا هو محض عنوان يعبر به البعض عن انتماءاتهم أو اختياراتهم ولكنه اقتناع بفلسفة في الحياة، يجب على من يرفع شعارها أن يلتزم بكل حمولاته الفكرية والواقعية؛ وهو كذلك مدرسة في نظام الحكم، يتعين على من يستعمل مُسَمَّاهَا وعنوانها أن يمتثل لإكراهاته وقيوده، وأن يقبل بشروطه وإجراءاته، ويطبقها على نفسه، حتى حينما تمس مصالحه أو ذاته".
وشدّد المسؤول القضائي على أن "استقلال القضاء هو اختيار لنظامٍ للتقاضي، يُؤْمِنُ فيه المتقاضي قبل غيره، أن القاضي المستقل سيطبق القانون على النزاع دون تأثير من جهة أخرى؛ لأن الاستقلال يحميه من تأثير تلك الجهات"، مشيرا إلى أن "استقلال القضاء هو أن يؤمن المجتمع بأنه اختار هذا النمط لتحقيق غاية فضلى، هي إِبعادُ القاضي عن التأَثُّرِ بالإكراهات التي قد تَأْتِي من سلطات أخرى؛ فالمجتمع هو الذي اختار أن يكون قاضيه مستقلا عن الحكومة وعن البرلمان، ولو أراد المجتمع أن يُخْضع القضاة لإحدى هاتين السلطتين لتوافق على ذلك في الدستور".
وورد ضمن كلمة محمد عبد النباوي أن "استقلال القضاء يعني السلطة التنفيذية، لأن الدستور جعل السلطة القضائية مستقلة عنها. ولذلك، فإن احترام الدستور يدعو الحكومة -ليس فقط إلى احترام هذا الاستقلال- وإنما كذلك إلى دعمه والمساهمة في ترسيخ بنائه، باستعمال السلطات التي خولها لها الدستور سواء في المجال التنظيمي، أو في مجال اقتراح مشاريع القوانين، والدفاع عنها أمام البرلمان وفقا لروح الدستور التي عبر عنها بوضوح الفصل 107. وكذلك عن طريق تسخير الإمكانيات الإدارية والمادية لذلك".
وأكّد رئيس النيابة العامة أن "استقلال القضاء يعني كذلك السلطة التشريعية؛ لأن الدستور كان صريحاً بالنَّص على استقلال السلطة القضائية عنها. لذلك، فإن احترام البرلمان لاستقلال السلطة القضائية هو مجرد التطبيق الحرفي للدستور"، مضيفا أنه "لا يتأتى احترام استقلال السلطة القضائية فقط بعدم التدخل في أحكام القضاة ومقرراتهم، وإنما كذلك بالكف عن تناول الشأن القضائي خارج سياق الدستور في نقاشات أعضاء البرلمان".
وقال عبد النباوي إن "الدستور لا يسمح للمحاكم بالتداول في مناقشات البرلمان ولا الخوض في مهامه الدستورية، إلاَّ في حدود ما تسمح به القوانين في ظروف محددة كالطعون الانتخابية، أو في حالة ارتكاب بعض المخالفات الجنائية مثلاً؛ والدستور لا يسمح للمحاكم بالتدخل في عمل الحكومة، ولا في عرقلة تصريفها لمهامها، إلاَّ في نطاق الحدود الضيقة التي تقرها القوانين، ولا سيما ما يتعلق بالطعن في القرارات الإدارية والمراسيم التنظيمية".
وبطبيعة الحال، يضيف المسؤول ذاته، فإن "الدستور لم يكتف بعدم السماح للسلطتين المذكورتين بعرقلة عمل المحاكم أو التدخل في مقررات القضاة أو التأثير فيها، وإنما جعل من القضاء سلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهي خاصية ميز بها دستور المملكة القضاء عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، ومنع مساءلتها أو محاسبتها من طرفهما، وأقام نظاماً خاصاً بمحاسبة القضاة ومؤسساتهم وأقر له آليات أخرى".
وشدّد الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض على أن "استقلال القضاء يعني السلطة القضائية نفسها، حيث يتعين عليها أن تسخر استقلالها لخدمة مبادئ العدالة، وحماية القضاة من كل تأثير يُخالف روح وأحكام الدستور، وأن تبنى مؤسسات قضائية قادرة على حماية الحقوق والحريات، واثقة بدورها في تحقيق الأمن القضائي الذي يعتبر أساسيا لأمن الأشخاص والجماعات واطمئنانهم على حياتهم وسلامتهم وعلى ممتلكاتهم واستقرار معاملاتهم، ومشجعاً على الاستثمار والابتكار المنتج للثروات التي تحقق التنمية الاقتصادية، وهي مطالبة بوضع معايير شفافة ونزيهة لتحفيز القضاة وتقدير أدائهم".
وجاء ضمن كلمة محمد عبد النباوي أن "استقلال القضاء يعني بالطبع القضاة أنفسهم، الذين عليهم أن يستحضروا ما جاء في الرسالة الملكية التاريخية لمؤتمر العدالة الأول في أبريل 2018"، حيث أكّد الملك محمد السادس حينها أن "مبدأ الاستقلال لم يشرع لفائدة القضاة، وإنما لصالح المتقاضين، وإنه إذ يرتب حقا للمتقاضين، فكونه يلقي واجبا على عاتق القاضي؛ فهو حق للمتقاضين في أن يحكم القاضي بكل استقلال وتجرد وحياد، وأن يجعل من القانون وحده مرجعا لقراراته، ومما يمليه عليه ضميره سندا لاقتناعاته، وهو واجب على القاضي، الذي عليه أن يتقيد بالاستقلال والنزاهة، والبعد عن أي تأثر أو إغواء يعرضه للمساءلة التأديبية أو الجنائية".
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر