بقلم ـ بسمة الخطيب
هذه المرّة،ليس الكلام عن الأحصنة الرابحة والخيالة الفائزين في الموسم الدرامي، بل عن قفزة نوعية في الدراما المصرية والعربية حقّقها جمع من الشباب والمخضرمين، من الأساتذة وتلامذتهم ، من الثوّار والمحرّضين على الثورة
الناعمة، يتقدّم هذا الجمع وحيد حامد وتامر محسن ومسلسلهما "بدون ذكر اسماء" الذي هو أحد أهمّ الأعمال التلفزيونية العربية المعاصرة، وسيكون بصمة بارزة في سجلّها.
مع "بدون ذكر أسماء" وعدد من المسلسلات الأخرى بينها "ذات" و"موجة حارة" ينتهي زمن الكساد الدرامي ومسلسل النجم المطلق، وتنطفئ عدسات إخفاء تجاعيد الممثلات، وتتوقّف استعارة نسخ باهتة من شوارعنا ومجتمعاتنا إلى الاستديو، ليخرج الاستديو إلى شوارعنا وبيوتنا ومستنقعاتنا وعشوائياتنا، وليدخل النصّ الدرامي التلفزيوني إلى عمق ظواهرنا الاجتماعية، ويخوض في أوحالها، غير آبه بأناقته وتقليم أظافره،ويصل الى عمق المشاكل التي ولّدتثورة 25 يناير، التي تناضل لليوم وتدفع ثمن أخطاء أنجبتها ظواهر نمت منذ عقود.
الفقر والظلم الاجتماعي يكادان يكونان التربة الأخصب لأيّ مجتمع متخلّف، فكيف إذا روتهماأوحال آفات أخرى مثل الفساد والجهل والتطرّف الديني..؟ من هذا الطين صنع نحّات الشخصيات الدرامية البارع وحيد حامد هذا المسلسل، وسلّم اخراجه إلى الشاب تامر محسن في أول عمل تلفزيوني منفرد له، فأثبت انه لا يطلق نجوم التمثيل فقط بل نجوم الاخراج أيضاً.
ما يجعل هذا العمل صدمة "ايجابية" كونه أنتج عام 2013، مع ما يعنيه هذا العام أمنياً وسياسياً واقتصادياً في مصر. وهو عام توقّع كثيرون ألا يُنتج فيه عمل درامي واحد، فإذا بفناني مصر - وجلّهم في العقد الثالث من العمر- يدحضون هذه التوقّعات ويثبتون أن ثورتهم مستمرة، وأنها ليست فقط في الشوارع والميادين، بل ايضاً في مواقع التصوير وغرف المونتاج وميدان الدراما.
"المسلسل"
"بدون ذكر اسماء" يكاد يكون "المسلسل". فهو يكاد يلامس "النموذج"الذي يطمح صنّاع الدراما وجمهورها اليه.
لاعلاقة للمصادفة في تضافر كلّ تلك العناصر الناجحة التي صنعت هذا العمل المتميّز. الدراما كأيّ عمل ابداعي، لا تلعب النرد. لكنّها تلعب الشطرنج.
لكلّ خطوة حساب، وكلّ خيار يتطلّب التحدّي والشجاعة. جرعة الشجاعة لم تقتصر على الموضوعات الحسّاسة التي طرحها حامد فقط بل على كلّ خيار سلكه، منذ لحظة دراسة الظواهر الاجتماعية التي أتت موثّقة تاريخياً ومعمّقة دراسة وتحليلاً، إلى كلِّ تحدٍّ خاضه مع المخرج والمنتج، من اختيار ممثّلين لم يقتربوا يوماً من المنطقة الحذرة والخطرة التي وُضعوا فيها، والطريقة المبتكرة في تحريكهم وتحفيز قدراتهم،إلى تقنية التصوير المتطوّرة، وتطويع الاحتراف السينمائي لدى حامد وموهبة تامر محسن السينمائية (التي لم تترجم سينمائيا لليوم، لكنها شقّت طريقها في التربة التلفزيونية) إلى تحدّيات خاضاها مع مصمّمي الأزياء والديكور والماكياج وفناني الموسيقى التصويرية والمونتاج... إذ نجحوا جميعاً في احداث تطوير نوعي كل في مجاله الإبداعي.
تامر محسن التلميذ الذي أبهر أساتذته
قلائل يعرفون أنّ تامر محسن اكتشف حبّه للفنّ والدراما من فوق سطح خزانته، حين كان، وهو دون العاشرة، يجلس ساعات يحرّك دمى ربطها بحبال الغسيل ويأخذه خياله إلى عوالم غير محدودة .. الخيال نفسه والشغف نفسه اللذان أخذاه إلى أميركا و"شارع سمسم"، والرهان الذي لا يجرؤ معظم المخرجين على أخذه،ألا وهو العمل للأطفال. لكنّ الحلم بسينما جديدة مختلفة وراقية لم يغب يوماً عن بال محسن، رغم أنّ سنوات الانتظار طالت، تلقّى خلالها عروضاً بإخراج أفلام تواكب السوق وتنافق المنتج والمتفرّج، افلام الخلطة المريعة لبضع أفيهات مع أغنيتين مع قصّة حبّ ولد عبيط وفتاة مثيرة، لكنّ محسن آثر أن ينتظر، وقد انتظر معه كثيرون ممن آمنوا أنه مخرج متميز وسيقدّم ذات يوم عملاً عظيماً. ..
صام تامر محسن طويلاً ورفض عروضاً بإخراج أعمال دون مستوى طموحه وخارج حساب أحلامه بصناعة فنّ أصيل وصادق ، وها هو في رمضان 2013 يفطر على الوجبة الأمثل، الوجبة التي يحلم بها كلّ فنان: إبداع واحتراف وصدق وتميّز. التميّز ليس عن ابناء جيله فقط بل عن أساتذته. سيستغرق الأمر طويلاً بالنقاد وهم يبحثون عن آباء محسن الروحيين، وسيكتشفون في النهاية أنه متفرّد بذاته، متمرّد على كلّ آبائه.
ولعلّ أبرز نقاط تميّزه كانت في التوثيق البصري الذي قدّمه لزمان ومكان المسلسل. محسن، الذي سبق أن قدّم أعمالاً تسجيلية بارزة، لعب ببراعة في ساحته تلك، وقدّم أشرطة نادرة ترصد الشارع المصري في تلك الحقبة، وهو لم يكتف بهذا بل إنّ المسلسل بدا وكأنه يولد من تلك المشاهد التسجيلية، ولم تكن مجرد وقفات لضرورات اخراجية أو توليفية من قطع ووصل، ولا هي كانت من قريب او بعيد مجرد حشو أو "كمالة عدد". إنّ التقنية الاخراجية التي استخدمها المخرج وضعت الجمهور- كما وضعت قبله الممثلين- في منتصف ثمانينات القرن العشرين ، مستلهماً أجمل ما في كلٍّ من محمد خان وخيري بشارة وعاطف الطيب، ومتشبّعاً من عبقرية علي بدرخان الذي درّسهالاخراج في المعهد العالي للسينما قبل عقد ونصف من الزمن.
وحيد حامد.. قمّة جديدة
وقلائل يعرفون أن وحيد حامد كتب منذ سنوات فيلماً بعنوان "بدون ذكر اسماء" لكنه لم يُنتج، بل صار نواة المسلسل الذي اتحفنا به حامد وفاجأنا، ليس فقط بحرفيّته- التي نعرفها جيداً- بل بقدرته على التجدّد والعطاء من دون تكرار أو نسخ .. بل انه في هذا العمل يبلغ قمّة جديدة لم نتوقّعها.. ولعلّ أبرز نقاط قوّة هذا العمل هو ليونة حامد وذكاؤه في استخدام قواميس عديدة تكاد تشمل المجتمع المصري. الغنى اللغوي هائل وأحياناً مذهل، المفردات الخاصة بكل شخصية غزيرة ولا تشبه مفردات أي شخصية أخرى، وإن كان منظّرو الدراما يشدّدون على أن أحداً من الشخصيات الدرامية لا يتكلم مثل الآخر، فإنّ الترجمة العملية لتحقيق هذا الهدف الصعب لم تتحقّق في عمل عربي كما في هذا المسلسل. يتحدّث حامد بلغة المتسوّلة والبلطجي والضابط والصحافية المبتزّة والشيخ الداعية .. وكأنه قطف عبارات كل منهم من الواقع فأتت طازجة وحقيقية. كذلك بذل الممثلون جهداً كبيراً في طريقة الأداء والنطق، وأيضاً لغة الجسد. وكان الممثل محمد فراج والممثلة روبي الأبرع في هذه التقاط اشارات وعبارات لغة الجسد التي حتى اليوم لا يكترث لها صنّاع الدراما كثيراً.
يُعرف أنّ موهبة الكاتب ومراسه وحدهما لا تكفيان لتقديم عمل متكامل، قد تكفيان لتقديم نصّ عبقري، لكنّ التنفيذ والاخراج والتفاصيل الباقية هي التي تترجم هذا النص إلى عمل درامي عبقري. ووحيد حامد أب روحي لمعظم مؤلّفاته الدرامية، فهو يواكب الانتاج ويشرف عليه ويلعب دوراً كبيراً في اختيار الممثلين.
السرّ الآخر هو أنّ وحيد حامد طالما أعجب بتامر محسن وأراد العمل معه، وطالما وصفه بالمخرج الرائع والموهوب، رغم أنّه لم يكن قد رأى من أعماله سوى مشروع التخرّج. لكنّ حامد لم يكن متهوّراً في رأيه أو متسرّعاً، فجميع من شاهد مشروع تخرّج تامر محسن راهن عليه وآمن بموهبته. وقبل "بدون ذكر أسماء" و"الجماعة" الذي شارك تامر محسن في اخراجه مع زميله المخرج محمد ياسين، وإن كان لحلقات قليلة، كان هناك اتصال هاتفي قصير جداً وغامض بين منتج معروف وتامر محسن، اقتصر الاتصال على سؤال واحد من المنتج اجابته من تامر كانت قاطعة: سين: ممكن تخرج مسلسل؟ جيم: لأ.
وأُقفل الخطّ. كان ذلك وقت تدهور الانتاج التلفزيوني واسفافه ربما، حين كان التطويل والحشو والثرثرة أسياد النصّ ، وحين كان الكاتب يكتب لنجم مطلق على قياسه وعلى هواه. ولكن هل كان تامر سيغير رأيه لو عرف أنّ ذاك المسلسل كان من تأليف وحيد حامد؟ وأنّ ذلك المنتج اتصل بتامر بطلب من وحيد؟
بالطبع نعم، يؤكّد تامر. ويندم لضياع تلك الفرصة، ولكن ها هو قد عوّضها بخير منها.
خدش بسيط
نجح المسلسل فنياً وحقّق هدفه ورسالته ولكن هذا لا يعني أنه مثالي ولم يقع في بعض الأخطاء، فهو من صنع بشر وهؤلاء البشر يعملون في ظروف قاسية جداً أمنياً ونفسياً، ولكن تلك الأخطاء كانت قليلة وأحياناً تافهة، واشبه بخدش بسيط في تحفة مبهرة، من تلك الأخطاء صعوبة اقتناع المشاهد بالممثلة حورية فرغلي في دور بنت البلد الفقيرة البسيطة بسبب عمليات التجميل البارزة في وجهها الذي لا ينتمي إلى ثمانينات القرن الماضي، وضياع خيط درامي في خيوط الشبكة المتينة، هو خيط محامي الستّ أصيلة الذي اختفى فجأة بعدما أحرق رجب زوج أصيلة مكتبه.
جذور ثورة 25 يناير
قيل عن "بدون ذكر اسماء" إنّه إلى اليوم أهمّ عمل يتناول "ثورة 25 يناير"، رغم أنّ أحداثه تقع بين أواسط الثمانينات وأواسط التسعينات، فكيف يكون هذا الكلام صحيحاً؟
انه كذلك بالفعل، لأنّ المسلسل يرصد تحوّلات المجتمع المصري في عقد حسّاس ومصيري، مُدّت فيه التربة الخصبة للحركات الأصولية التي أنبتت فيما أنبتت الدعاة والتكفيريين ومنجبي الفتاوي، والذي شهد أيضاً سطوع نجم النقاب القادم من الخليج، وشهد عقود بيع خيرات مصر وصفقات استثمارية مشبوهة ، من تغذية الحرب الأفغانية بالحمير إلى صفقات السلاح لمتقاتلي حروب المنطقة الكثر، وقد كان رجال المخابرات وتجّار المخدرات ورجال الأعمال عصب تلك الصفقات. ولعلّ المشهد الأخير في المسلسل، حين يلتقي أحمد وتغريد اللذان يجسدان شباب مصر الحالم بالحب وتكوين أسرة بسيطة، يعكس الأمل الذي بقي في قلوب المصريين رغم كلّ المصاعب والمآسي التي غرقوا في رمالها المتحركة.
تغريد الابنة الثالثة والصغرى في عائلة ربيع الحلواني التي تجسّد الطبقة المصرية العاملةوالمحور المركزي للمسلسل، تنتهي الى أن تكون الناجية الوحيدة من تلك الأسرة، بعد أن تتقبّل قدر أن يبيعها أهلها لثري عربي بعمر والدها وتتنازل عن حبيبها المعدم، تدفع إثر وفاة زوجها لكل أفراد أسرتها ثمن الصفقة، وتنطلق للعثور عن حبيبها الأول، وتجده قد افتتح دكان حلوى "الربيع" وفاء لوالدها الذي علّمه المهنة. تغريد واحمد سينجبان جيلاً جديداً، سيكون في ال18 من العمر عشية ثورة الياسمين التونسية وأختها المصرية، وقد يكون اسم أحدهم "ربيع" نسبة لجدّه، ورمزاً للمستقبل.
وقد شهدنا خلال 30 حلقة عشر سنوات من عمر تلك العائلة التي كانت تصنع البسبوسة في منزلها المستأجر وتبيعه في عربة تركن على الرصيف قرب المسجد، بصفته كان وسيبقى مكان التجمّع الأبرز في القاهرة، والعمّ ربيع كان يغيّر موجة الراديو عن أم كلثوم الى تلاوة القرآن حين تخرج الحشود من المسجد، وكان يستمع بخفر وطاعة للشيوخ الذين يلومون ابنه لأنه لا يصلي جماعة، بصفتهم أولي الأمر، وكان يذلّ نفسه أمام ضابط ليتقي شرّه، وفي ذلك العقد ظهرت نواة النسخة المصرية من جماعة"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"،إذ نجد بضعة شبّان ملتحين يهاجمون شاباً وفتاة عند أحد جسور القاهرة يمسكان بأيدي بعضهما.
من حضيض المجتمع حيث فئة المتسوّلينإلى الطبقة العاملة الأوّلية إلى أقسام الشرطة وضباطهم الى المخابرات الى ضفتي الصحافة النقيضتين : صحافة ملتزمة وأخرى صفراء طفيلية .. قدّم وحيد حامد وتامر محسن صورة واضحة للمجتمع المصري وتحولاته خلال عقد من الزمن، وصنعا خيطاً خيطاً شبكة متينة من العلاقات الانسانية والاقتصادية والاجتماعية، وألقياها في بحر لا يبخل بأسرار قاعه على الغواص الطموح والمغامر الذي عاند تيار الاسفاف والانحطاط الفنيين،فنجا وأنقذنا.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر