على بعد أسابيع قليلة من حلول الذكرى الأولى لوفاة للمؤرخ المغربي عبد الرحمن المودن، أصدر ثلة من المؤرخين المغاربة كتابا يحكي عن مسار هذا الهرم الذي يوصف بأحد فرسان الكتابة التاريخية في المملكة.
وكان المودن رأى النور سنة 1946 بزاوية سيدي عبد الجليل بإقليم تازة، ودرس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط ونال بها الإجازة في التاريخ سنة 1970، ودبلوم الدراسات العليا سنة 1984.
وألف المؤرخ، الذي وافته المنية في 2 غشت 2020، دراسات عديدة حول التاريخ الاجتماعي المغربي وحول تاريخ المغارب خلال الحقبة العثمانية؛ من أهمها “البوادي المغربية قبل الاستعمار: قبائل إيناون والمخزن بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر”.
وحاضر المودن في عدد من الجامعات الأجنبية؛ مثل الجامعة الزراعية والتقنية نورث كارولينا، وجامعة برنستون بأمريكا، والجامعة الحرة ببرلين، وكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، ومدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية بباريس، والمدرسة العليا للأساتذة بنواكشوط.
ويحمل الكتاب الجديد عنوان “عتبات مؤرخ، مسار عبد الرحمان المودن”، وقام بتنسيقه كل من عبد الرحيم بنحادة وعبد الأحد السبتي وعبد الجليل ناظم، وهو عبارة عن إسهامات علمية وإنسانية لباحثين مغاربة وأجانب بلغات ثلاث.
حول هذا المؤلف، كتب المؤرخ والأستاذ الجامعي الطيب بياض مقالا يتحدث فيه عن هذا التأبين العلمي المتحرر من ضوابط الكتابة الأكاديمية الذي جرى من خلال استرجاع الذكريات التي جمعت عددا من المؤرخين مع المودن وتقاطعاتهم المعرفية مع مشروعه العلمي.
نص المقال:
صدر في الأسابيع القليلة الماضية كتاب فريد من نوعه، ضمن سلسلة مسارات في البحث التي تصدرها دار أبي رقراق بالرباط، ظاهره التأبين وباطنه كنز ثمين، لمن رام فهم الكثير من خبايا الكتابة التاريخية في المغرب. حمل الكتاب عنوان: “عتبات مؤرخ، مسار عبد الرحمان المودن”، ورأى النور بفضل مبادرة كريمة لعبد الرحيم بنحادة وعبد الأحد السبتي وعبد الجليل ناظم.
من بين عناصر التميز والتفرد في هذا الكتاب، الذي صدر في مائة وأربع وتسعين (194) صفحة من الحجم المتوسط، أنه رغم حجمه الذي يبدو صغيرا، فإنه جمع بين دفتيه تسعة وثلاثين إسهاما علميا وإنسانيا لباحثات وباحثين ينتمون إلى مجموعة من الجامعات المغربية والتونسية والفرنسية والأمريكية، جرى تدبيجها بلغات ثلاث: العربية والفرنسية والإنجليزية.
هي إسهامات متحررة من ضوابط الكتابة الأكاديمية، لكنها زاخرة بالمعطيات العلمية مشبعة بالمشاعر الإنسانية، التقت حول تيمة المشترك المعرفي والإنساني مع أحد فرسان الكتابة التاريخية في المغرب، المرحوم عبد الرحمان المودن، الذي أسلم الروح لبارئها يوم الثاني من شهر غشت سنة 2020 بمدينة الدوحة.
كان ثلاثي تنسيق الكتاب بحق لسان حال المساهمين فيه؛ وهو يعلن في مقدمته:” قررنا أن نكتب عسى أن يسعفنا فعل الكتابة لتجاوز آفة الفقدان، قررنا نحن جماعة من محبيه أن نراهن على ذلك. لم يتردد أحد منا للإسهام في هذا الكتاب رغم الظرف الذي نعيشه، بل هناك من أنجز الشهادة في زمن قياسي، والسبب بكل بساطة هو أن من يريد أن يسترجع ذكرياته مع عبد الرحمن وأثره المعرفي يجد مادة غنية تمكنه من الإنجاز في وقت وجيز”.
فهل كتب هؤلاء فقط عن عبد الرحمان المودن أم هم في الواقع كتبوا عن ذواتهم من خلال استرجاع ذكرياتهم معه وتقاطعاتهم المعرفية مع مشروعه العلمي؟ وإلى أي حد تعتبر هذه الشهادات مادة علمية ثرية تفيض بمعطيات تعز في غيرها من الكتابات، وتسعف في رسم مسار المُنجز مغربيا في حقل التاريخ بحثا وتأليفا وتدريسا؟
يجد المتأمل في هذه النصوص/ الشهادات نفسه أمام نمط من الكتابة الشذرية الكثيفة معنى ومبنى، تختزل جوانب من حياة أصحابها في تقاطعهم المعرفي والإنساني مع عبد الرحمان المودن؛ فهي تحاكي بشكل مختصر وجزئي مشروعا احتضنه المؤرخ الفرنسي بيار نورا في مجلة الحوار « Le Débat »، أسماه بـ “التاريخ الأنَوي” (L’égo-histoire )، حيث يعمل المؤرخ على تحليل ذاتيته ومساره العلمي ومناهج وآليات اشتغاله ليكتب “تاريخَه كما يكتبُ تاريخَ الآخر”، قبل أن يصدره في شكل كتاب جماعي سنة 1987. وهم في تحليلهم لمحطات من تفاعلهم العلمي والإنساني مع عبد الرحمان المودن كانوا يرسمون بشكل جماعي، كل بريشته، ومن موقع النسب الفكري الذي ينتمي إليه، لوحة جدارية لمسار حقل التاريخ في المغرب بحثا وتأليفا وتدريسا وتأطيرا.
في هذا التحليل جرى الكشف عن محددات عديدة حكمت اختيارات علمية، وتم البوح بتفاصيل همت المشترك الإنساني؛ لكنها كانت أيضا محددة في ضبط بوصلة الأفق المعرفي. فبين إيناون وإستانبول جرت مياه كثيرة تحت جسر الطموح لإعادة الاعتبار إلى بيئة الانتماء بصيغتي المفرد والجمع، بأفق اجتماعي حينا ووطني أحيانا أخرى. مثلما أن ثنائية المركز والهامش أو الأطراف لا يمكن استبعادها في فهم زاويا المعالجة ومحددات الفهم والتحليل والتأويل.
تتيح هذه النصوص/الشهادات لقارئها أيضا إمكانية إعادة تركيب مسيرة عبد الرحمان المودن ومعها مسار تطور حقل التاريخ في المغرب من خلال ذاكرة الأمكنة وفضاءات التفاعل: زاوية سيدي عبد الجليل، فاس، كلية الآداب بالرباط، جامعات: برينستون، الأخوين، نورث كارولاينا، وتونس، مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بباريس، المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، الجمعية المغربية للبحث التاريخي، ومعهد الدوحة للدراسات في العلوم الاجتماعية. مثلما يتيح له التوقف مليا عند أحد هذه الأماكن، وما جادت به نصوص هذا الكتاب بشأنها، فرصة ثمينة لتتبع محطات من أجواء درس التاريخ في الجامعة المغربية في تمرحله التاريخي، خاصة بالنسبة إلى جيل جلس مجلس الطلاب أمام أساتذة فرنسيين نهاية ستينيات ومطلع سبعينيات القرن الماضي، قبل أن يقف محاضرا في مدرج ابن خلدون بكلية الآداب بالرباط، سنوات قليلة بعد ذلك. ليكتشف معنى أن تكون طالبا لا يقل همك المعرفي عن همك النضالي، بل يتكاملان ويتفاعلان لينتجا حصصا دراسية بطعم النقاش المثمر والنقد البناء والحضور النوعي، الذي يجعلك مشاركا في بناء الدرس مثلما يجعل مرورك غير عابر في ذهن أساتذتك، بل راسخا موشوما في ذاكراتهم حتى بعد انفراط نصف قرن. ثم معنى أن تكون أستاذا، تُقدم درسا في مادة تاريخ الإغريق، داخل مدرج غاص بالطلاب، في بداية مشوارك المهني بالكلية، بكفاءة الأستاذ المتمرس. لتعود بعد عشر سنوات إلى نفس المدرج لتقدم درسا في مادة الثورة الصناعية، فتنحت في ذاكرة طلابك أجواء من النقاش العميق بمرجعيات فكرية قوية، من قبيل “مأزق العالم الثالث” لبول بايروك و”التحول الكبير” لكارل بولاني. وربما الأهم الانتباه إلى أمرين أحسبهما في غاية الأهمية:
أولهما: التفاعل الجدلي المثمر بين تجربتي عبد الرحمان المودن البيداغوجية والعلمية، حيث مراجع المشروع العلمي ومصادره تُغني محاضراته، وأسئلة المحاضرات ونقاشاتها تفتح دروبا بحثية غير مُفكر فيها سابقا أو تعمق في تضاريسها أخاديد جديدة.
ثانيهما: عودة القدر الجميل لطلبة وحدات التكوين والبحث في “المغرب والعالم الإسلامي” و”المتوسط والعالم الإسلامي” و”المجتمعات الإسلامية والحداثة”، حيث أسهم عبد الرحمان المودن في تكوينات الدراسات العليا داخل قاعات غير بعيدة عن مدرج ابن خلدون بكلية الآداب بالرباط، أنتجت خلفا متين التكوين في الدراسات العثمانية- التركية والإيرانية، وفسحت المجال لشراكات منتجة مع باحثين تونسيين، أنتجت أعمالا علمية مفيدة في موضوعها؛ بل أوشكت تلك العودة أن تجعل خط عبد الرحمان المودن الممتد من إيناون إلى إستانبول يتحول إلى مثلث، بعد أن ينضاف إليه ضلع طهران، بفتحه ورشا للبحث في الدراسات الفارسية- الإيرانية.
يلتقط قارىء هذا العمل الجماعي مشاهد وصورا ضمن هذا المسار الثري، المحمول على بساط الحركة لعبد الرحمان المودن، وبين بقايا صوره التي لا يمكن أن يداهم الجنيريك المشاهد قبل أن يلتقطها بتقدير واحترام، تلوح صورة “الجانتلمان” الحريص على ألا يكتمل حضوره في مختلف اللقاءات داخل الجامعات وخارجها إلا بحضور نصفه الآخر، زوجته أمينة، التي أخالها غير معنية بتأمل الموناليزا قدر تأملها البسمة التي فاض بها وجه عبد الرحمان قبل أن تفيض روحه الطاهرة.
ولأن قدم عبد الرحمان المودن راسخة في الدراسات العثمانية- التركية، أستأذن صديقه وزميله في نفس مجال الاهتمام المؤرخ عبد الرحيم بنحادة أن أقتبس من مسودة كتابه القادم والمسوم بـ”استوغرافيات تركية”، شهادة معبرة في حق أحد المؤرخين الأتراك، الذي كان عبد الرحمان المودن يُكن له تقديرا خاصا، إذ كتب في رسالته من برينستون بتاريخ 16 فبراير 1991 إلى الصديق نفسه: “أما عن الندوة حول المغارب في العهد العثماني فإن لائحة أولية بأسماء المشاركين المحتملين قد تم إنجازها ويتم الإتصال بهم الآن، ومن المفرح أن يكون الأستاذ خليل إنالجيك قد قبل الحضور والمساهمة”؛ لأن محتوى الشهادة ينطبق على مؤرخنا خبير بوادي مغرب ما قبل الاستعمار وباشا الدرسات العثمانية- التركية. فقد كتب عالم الاجتماع الأمريكي المعروف إيمانويل فالرشتاين، متحدثا عن المؤرخ التركي خليل إنالجيك، ما يلي:” خليل إنالجيك هو أحد الممارسين الأكثر تميزا في هذا المجال. مساهماته في الكتابة التاريخية لا جدال فيها. الأمر متروك لنا للتفكير في الموضوع الذي أصبح هدف جهودنا”، لأختم بالقول:
عبد الرحمان المودن أحد المؤرخين المغاربة المرموقين والأكثر تميزا في هذا المجال، أعطى وأسدى، جاد وأهدى، والأمر متروك لنا لاستكمال ورش في المعرفة التاريخية يُحتذى…
قد يهمك ايضاً
كلية الآداب بفاس تكرم "رائد اللغة" محمد الولي
عبد الله بوصوف يؤكد أن الثقافة تُطعم الخبز و تَخلق الثروة
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر