يُعدُّ ديفيد جونز من أبرز الفنانين المميزين الذين نجحوا في تحقيق شعبية جماهيرية واسعة، إذ جمع بين الرسم والشعر والفن التشكيلي، حتى أن كينيث كلارك وصفه في منتصف الثلاثينات بأنه "أكثر الموهوبين بين الرسامين الشبان في بريطانيا".
واعتبر TS Eliot رائعة ديفيد جونز التي تجسد الحرب العالمية الأولى عملًا عبقريًا، وبيّن Auden أنّ قصيدة ""The Anathemata التي نشرت في عام 1957 من أروع القصائد الإنكليزية الطويلة في هذا القرن، وتميزت أعمال جونز بكونها معقدة لكنها كانت رائعة.
وجُند جونز في الحرب العالمية الأولى في Royal Welch Fusiliers وقاتل على الجبهة الغربية لأكثر من عامين، وكانت هذه من التجارب المميزة في حياته، وخدم جونز في صفوف الجيش رافضا أن يكون ضابطًا لأنه ليس هذا النوع من الأشخاص، وكان إلى جانبه في الحرب الفنان ستانلي سبنسر.
وقدم جونز "بورتريه" لجندي في قبعة من القصدير ومعطف مربوط باسم Dai Greatcoat، وتعتبر هذه اللوحة تجسيدا ذاتيا له حيث كان يرتدي معطفا ضخما دائما حتى في فصل الصيف الحار كنوع من الدروع الواقية، واهتم بتجسيد الحرب في لوحاته وكذلك في أشعاره، وأجاد تصوير مجدها ومعاناتها.
وتجسد لوحة Uccello البانورامية معركة The Battle of San Romano في المتحف الوطني وتعتبر من اللوحات المُلهمة له، وظلت صور الخدمة العسكرية من الصور الحية التي أثرت فيما كتب ورسم، وانتقل جونز من "إبرس" إلى قطاع "بوا جرينير"، ومن الذكريات المؤثرة في حياة جونز عندما شاهد القداس الكاثوليكي للمرة الأولى حينما كان وحده في "إبرس" يعمل على جمع الحطب لإشعاله في الغابة.
وشاهد جونز القداس من ثغرة في الجدار، ومن خلال زاوية جانبية الرؤية رصد جونز الكاهن في ملابس بيضاء مع ضوء الشموع وعدد من الشخصيات ترتدى "الكاكي"، وتأثر جونز كثيرًا بهذا المشهد حتى أصبح هو ذاته كاثوليكيًا رومانيًا في عام 1921.
استطاع جونز تشكيل بعض الأشياء بيده كما شكل بعضها في ذهنه ثم جمع بين الناحية البصرية واللفظية في كثافة إبداعية لم نشاهدها في بريطانيا منذ عهد وليام بليك، كما تعلم جونز بعض المهارات الصناعية من "إريك جيل" الذى أصبخ له بمثابة الأب، وذهب جونز للعمل مع جيل في Ditchling في وجرى الترحيب به في إطار الأخوة الدينية لمن يصنعون الأشياء بأيديهم.
وكانت الوظيفة التى أعطاها جيل لجونز هي رسم لوحة من الحروف على نصب تذكاري للحرب في مقر كلية جديدة في أكسفورد وكانت مهمة مناسبة لشخص شارك في الحرب وشاهد الكثير من رفاقه يقتلون في فرنسا، وتم خطبة جونز لابنة جيل الثانية "بيترا" في عام 1922 وهي تلميذة لـ Ethel Mairet، وظهرت بيترا في لوحة The Garden Enclosed بفستانها الوردي، واللوحة حاليا في Tate Britain.
وألغيت الخطبة بعد ثلاثة أعوام حيث أوضحت بيترا في حديثها مع الصحف في منتصف الثمانينات أثناء البحث عن السيرة الذاتية لـ"جيل" أن أفكار الزواج كانت وهمية، لأن جونز لم يكن لديه عملا ثابتا ينفق منه على الزوجة والمنزل كما أن عمله كان يأتي في المقام الأول بالنسبة له، ولا يعتقد أن جونز علم بعلاقة زنا المحارم بين جيل وابنتيه الكبيرتين على الرغم من أنه كشف في مراسلاته أنه علم بالحقيقة لاحقًا.
ولم يتزوج جونز على الرغم من معجباته، وتمثلت حياته الرومانسية عن طريق الهاتف، وشهدت هذه الفترة المتأخرة من حياته رسم العديد من اللوحات للنساء بشكل مثالي وطفولي، وفي منتصف العشرينات انتقل جيل وحاشيته من Ditchling للاستقرار في Capel في الجبال السوداء، وذهب معه جونز إلى ما سمى بأرض السحر من خلال ريف ويلز المميز، وعلى الرغم من نشأة جونز صبيا في الضواحى إلا أن والده الذى عمل طابعا جاء من هولول في فلينتشير وكان يحب أغانى "ويلز".
ويحظى ريف ويلز بمشهد أسطوري من التلال والأودية حيث ازدهرت أعمال جونز مع جيل من خلال مجموعة من النقوش النحاسية المذهلة ومجموعة من المناظر الطبيعية المحيطة في أنحاء Capel وساحل جزيرة Caldy ، وتسللت هذه المناظر الطبيعية إلى لوحاته وأشعاره.
وجرى ترشيح جونز من قبل بن نيكلسون في عام 1928 لعضوية جمعية Seven and Five Society وهي من أفضل المنظمات الفنية في لندن حينها، وقُبل جونز بواسطة جيم إيدي مساعد مدير "تيت غاليري" ، ومن خلال إيدي التقى جونز بأكبر مؤيد له وهو كنيث كلارك.
وبدأ جونز في عام 1928 في كتابة قصيدة له عن الحرب واستغرقت وقتًا طويلا جدا، إلا أنه عانى من انهيار عام 1932 بسبب مرضه ثم تعافى وبدا في استكمال القصيدة إلا أن المرض داهمه مرة أخرى بشكل حاد بعد وقت قصير من الحرب العالمية الثانية، ومكث جونز في لندن أثناء مداهمة المرض له، وهناك قدم واحدة من أجمل لوحاته وهي Aphrodite in Aulis، حيث قدم أفروديت باعتبارها إله الحب للجنود المتوفيين الألمانيين والبريطانيين.
ومن بين أعمال جونز اللافتة للنظر كانت النقوش المرسومة حيث قدم حوالى 80 منها بداية من منتصف الأربعينات فصاعدا، وتجسد النقوس البساطة من خلال الكلمات المرسومة على الورق، وكانت هذه النقوش تمثل كلمات في شكل فني عميق وصنعها جونز لأشخاص كان يعرفهم، وكان يرسلها إلى أصدقائه في أعياد الميلاد أو المناسبات مثل حفلات الزفاف.
وقضى جونز معظم أوقاته في غرف الفنادق، وبعد الحرب استقر في منزل Harrow على التل، وفي بيت التمريض في Calvary وكان بصحبة عدد من الأصدقاء مثل رينيه لاهاي والصحافي الكاثوليكي توم بيرنز وغيرهما، ويقدر هؤلاء جونز نظرا لفنه المثير ولشجاعته أيضا في ظل الضغوط، وأشار صديقه بيتر ليفي إلى حصول جونز على المعاش المدني بعد أن أصبح فقيرا ولذلك أصبح يمكنه استخدام سيارة الأجرة وشراء أرقى الأحذية من خلال المعاش.
وتشير الدلائل إلى وجود جونز على حافة الانتعاش بعد فترة طويلة من الإهمال النسبي، حيث أقيم معرض لأعماله في "تيت" عام 1982، ومن المقرر افتتاح معرضين له في تشرين الأول/أكتوبر ويعقد أحدهما في Pallant House في شيشستر برعاية بول هيلز وآريان بانكس واللذان شاركا في كتاب يتناول السيرة الذاتية لديفيد جونز، ويقام المعرض الثاني في متحف Ditchling Museum of Art and Craft، ويعتبر Edmund de Waal من محبي الفنان جونز ككاتب وصانع للفن، واعترف بتأثير نهج جونز عليه عندما بدأ في العمل في مجال الخزف.
ويركز معرض Ditchling على الحيوانات التي اعتبرها جونز بمثابة شهود أسطورية على التاريخ، واعترف أحد معلمي جونز في الجامعة بموهبته قائلا "أنظر إلى فنه.. إنه ساحر"، ويمكننا استعادة هذا السحر من خلال معارض الخريف التىيتعرض أعمال ديفيد جونز.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر