باريس ـ مارينا منصف
خرج عشرات الآلاف من الكمبيوديين في الحرارة الشديدة على غير عادتهم، لتقديم التحية لجثمان ملكهم نوردوم سيهانوك الذي توفي نتيجة نوبة قلبية منذ بضعة أيام في بكين، وهم مصطفون في جادات المستعمرة الفرنسية السابقة، من المطار في الضواحي وصولًا إلى القصر الملكي في منتصف المدينة.ولا يخرج عادةً الكمبوديون المعتادون على حرارة الطقس الاستوائي الشديدة في مثل هذا الوقت، ولكنهم قاموا
بحالة استثنائية منذ عشرة أيام، إذ كانت تلك بداية أسبوعٍ من الحداد على وفاة الملك، وكان الجو شديد الحرارة إلى درجة أن أسرة كمبودية مكونة من ثمانية أفراد جلست في ظلال سيارة سوداء كبيرة لتحتمي من الشمس المحرقة، وجلس أخرون على الرصيف مرتديين ملابس الحداد؛ وهي قمصان بيضاء وسراويل أو تنانير سوداء ووشاح أسود مثبت على صدورهم، وكانوا يحملون مجموعات من عيدان البخور والشموع وزنابق المياه، بينما كان يحمل واحد على الأقل من كل مجموعة صورة لرجل نبيل أنيق المظهر ذي شعر أبيض في إطارٍ ذهبي. وكانت هناك مجموعة من الرحالة الذين يبدون مذهولين ويرتدون القليل من الملابس بالنسبة لمثل هذا الحدث المهم، يتجولون بجانب الواجهة البحرية القريبة، ويبحثون عن بعض الظل. وتوفي نورودوم سيهانوك بعد "89 عامًا"؛ وهو عمر لا يصل إليه سوى القليل من الكمبوديين، وقد مات حوالي ثلاثمائة ألف شخص في الصراع الذي نتج عنه وصول بول بوت إلى السلطة في العام 1975، كما سقط مليونا شخص ضحية ميادين القتل سيئة السمعة التابعة لنظام "الخمير الحُمر" على مدار السنوات القليلة التالية. ولقد انضم بعض الكمبوديين إلى الحشد بدافع الفضول لإلقاء نظرةٍ على التابوت الذهبي فوق البارجة الجنائزية المذهبة، واتخذ ذلك المركب المهيب "الذي كان عادةً ينقل الرموز الملكية في الأنهار"شكل زورق على عجلات لحمل الملك السابق من طائرته إلى القصر، إذ كان من المقرر أن ترقد جثته ثلاثة أشهر، ولكن لم يأتِ معظم هؤلاء الأشخاص لالتقاط صور للمشهد، ولكن لإظهار احترامهم. وكان من الواضح أن الكمبوديين الأكبر سنًا متأثرون بالأمر بشكل أكبر، فكان الكثيرون منهم يبكون بشدة، وبمجرد أن مر التابوت لاحقًا وعبر بوابات القصر اقترب الكثيرون من "منزل ضوء القمر" اللامع المزين بأضواء وورد ولوحة تذكارية لملكهم الأب، قاموا بالانحناء على العشب المشذب أمام المنزل على الطرقات الأسفلتية التي تقطع الميدان وعلى الطريق الذي كان يستخدم عادةً للعروض العسكرية والاستماع إلى الرهبان الكثيرين الذين جلسوا معهم، وترديد الصلوات. وقاموا بإلقاء زهور الزنبق برقة ووضعوا الشموع على الأسفلت لإيجاد دوائر من الضوء أبقوها مضاءة طوال الليل، ثم احتشدوا حول طاولة مليئة بالكتب ذات الصفحات الفارغة، إذ انتظروا دورهم بصبر لكي يسجلوا مشاعرهم تجاه الملك الأب، وقام أصدقاؤهم بإشعال ضوء الهواتف النقالة، لكي يستطيعوا الرؤية ليكتبوا. وكان الملك نورودوم سيهانوك رجلًا معقدًا، وحياته المهنية التي دامت 60 عامًا مهمة ومثيرة للجدل، أشاد به الكثيرون لنقله لدولته من مستعمرة فرنسية إلى دولة مستقلة، ولكن تم انتقاده من قِبَل البعض لعدم قيام بالكثير لمنع وصول حزب "الخمير الحمر" للسلطة في العام 1975 أوللإطاحة بهم لاحقًا. وقد كان ملكًا ورئيسًا للوزراء وشيوعيًا وقائدًا في المنفى في أوقات متنوعة، ولاحقًا أصبح ملكًا مرة أخرى حتى العام 2004 حين تنازل عن العرش لكي يسمح لابنه بتولي السلطة. وكان نورودوم سيهانوك يعتقد أنه يمثل كمبوديا سواءً كان في السلطة أم لا، وسواءً كان في بينوم بين أو في بكين، ويبدو أن الكثير من الكمبوديين يعتقدون ذلك أيضًا. وقام الذين مكثوا أمام القصر بإشعال عيدان البخور التي كانوا يحملونها طوال فترة بعد الظهيرة، ويدسونها في العشب والرمال، مما يشعل حرائق صغيرة ويطفئها أي شخص في الجوار، وفي البداية أنتج البخور روائح معطرة ومبهجة، ولكن لاحقًا في الليل وعلى مدار الأسبوع التالي أصبح الهواء سميكًا ولاذعًا. وينظر الكثير من الكمبوديين إلى وفاة الملك الأب على أنها أمر رمزي؛ إذ يأمل البعض أن تاريخ كمبوديا المأساوي سيذهب مع الملك، وربما يستطيع الكمبوديون الآن بعد عشرة أيام من الحداد والبكاء أن يتخطوا الأمر.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر