ربما شعر كريج باكسام، أنه تائه، حيث اعتقد أنه في بلدة كينية تدعى "مراريم"، إلا أنه لم يكن متأكدا من ذلك تماما، ولذا اتخذ حافلة متجهة إلى بلدة تسمى "جاريسا"، ليذهب منها إلى الحدود مع الصومال، إلا أنه كان يشعر بالحيرة بينما كان في الطريق، حيث أن الركاب الأخرين أشاروا إلى المدينة بأنها "عرعرة".
كان باكسام بعيدًا عن الوطن، لا يجيد استخدام اللغة المحلية، ولا يعرف سوى القليل للغاية عن المنطقة التي يتجه إليها، فإذا كان بالفعل متجها إلى جنوب الصومال، وهي الوجهة التي يرغب في الذهاب إليها، فربما يكون الوضع أكثر سوءا لأن البلد التي يخطط للعيش فيها حسب إيمانه دمرتها الحروب، وتعد أكثر مناطق العالم المحفوفة بالخطر، إلا أن تلك الحسابات ربما لا تربكه ولا تؤثر فيه كثيرا، فكل ما يريده هو التوجه نحو الحدود وعبورها ليبدأ حياة جديدة في إطار أكثر تدينا.
باكسام، والذي يبلغ من العمر 24 عامًا، لم يفكر في الحياة المريحة التي كان يعيشها في مقاطعة لوريل، بولاية ماريلاند الأميركية، حيث كان يعمل هناك في أحد شركات خدمات التلفزيون.
في ديسمبر 2011، قام بسحب كل الأموال التي كانت موجودة في حسابه الإدخاري، والتي بلغت حول 3613 دولار، حيث أعطى ألف دولار منها إلى أحد معارفه، والذي كان في حاجة إلى المبلغ، واشترى بالباقي تذكرة طيران للسفر إلى نيروبي، حيث قرر الهجرة للعيش في أرض إسلامية حقيقية، لينفذ ما تعلمه من القران، وهو الأمر الذي سوف يكون كل شيء في مقابل تحقيقه.
الشاب الأميركي، ذو الاصول الأفريقية، تربى في أسرة مسيحية كاثوليكية، خدم في الجيش الأميركي لمدة أربعة سنوات، ليتبرأ بعدها منه، وترعرع بعيدا تماما عن أي علاقة بالدين الإسلامي، إلا أن التغيير الكبير الذي طغى على شخصيته ربما لم يستغرق أكثر من خمسة أشهر فقط، حيث تبدأ قصته بداية من العقور على موقع إليكتروني ديني إسلامي.
الأمر لم يستغرق سوى أقل من نصف عام بالكاد، ليتحول طريق هذا الشاب الأميركي نحو الشمال عبر الأراضي الكينية، ومنها إلى المجهول.
خلال الرحلة، بدا الشاب هادئا للغاية، لم يتوقف طيلة طريقه سوى لتناول الطعام والصلاة في المساجد، ربما كانت لديه من الأسباب الوجيهة الكثير والكثير ليكون أكثر حذرا، ولعل أهمها أنه يتجه نحو أحد المناطق الصراعية الأكثر فوضوية في العالم، في ظل حالة التمرد الإسلامي المتشدد الذي تشهده الصومال منذ عدة سنوات.
وبمجرد دخوله إلى الأراضي الصومالية، اتخذ قراره بالانضمام إلى حركة الشباب المتطرفة، وهي الجماعة التي تضعها واشنطن في قائمة الجماعات المتطرفة، حيث أنها تمارس شكلًا صارمًا من أشكال الحكم الإسلامي، تحت القوانين الدينية للشريعة الإسلامية.
المخاطر كانت عالية للغاية، في ظل التعاون الأميركي الكيني الصارم لاعتراض أي تحركات عبر الحدود من قبل أعضاء حركة الشباب المتطرفة.
باكسام ربما شهد تلك الإجراءات بنفسه إبان وجوده في الحافلة الكينية التي أقلته نحو الحدود مع الصومال، حيث يقول، أثناء التحقيقات التي أجراها معه مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي لاحقا، كانت الملصقات تملأ الشوارع، تطالب المواطنين بالاتصال الفوري بالشرطة في حالة وجود أي شخص يتصرف بشكل مثير للشكوك.
وبعد فترة قصيرة من رحيل القافلة، ظهر رجل ليسأله بلطف عن المكان الذي سوف يذهب إليه، وإذا ما كان يجيد التحدث باللهجة المحلية للمنطقة أو إذا كان لديه أحد أقربائه يعيش هناك.
كان الحديث الودي سببا في تفاؤل الشاب الأميركي، حيث شعر أن أحدا ربما يريد مساعدته، إلا أن تفاؤله لم يدم طويلا، حيث جاء سيارات الشرطة لتحيط به، حيث اقتادوه إلى مكان بعيد للاشتباه به.
وبعد أحد عشرة يوما من تلك الواقعة، في صباح أحد أيام الاثنين، رن جرس الهاتف في منزل ديانا باكسام، حيث كان المتصل هو مكتب بالتيمور الميداني، والتابع لمكتب التحقيقات الفيدرالية الأميركية، حيث أخبروها أن نجلها تم القبض عليه بتهمة الإرهاب، ومحتجز حاليا بأحد السجون الكينية في نيروبي.
هذا كل ما قيل، حيث أنه لم يتم اخبارها عن المدة التي قبعها نجلها في السجن، أو أين كان عندما تم القبض عليه، أو حتى ما يمكنها أن تفعله من أجل إنقاذه.
وفي اليوم التالي، وكان موافقا 4 يناير 2012، دق باب المنزل، لترى ديانا باكسام نفسها أمام اثنين من عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالية الأميركية، حيث سألاها ما إذا كانت تريد أن تدفع لنجلها ثمن تذكرة الطيران للعودة مرة أخرى إلى بلاده، وعندها سألت ما إذا كان إبنها يواجه أية اتهامات، فكانت الإجابة لا، ولذلك وافقت بسرور أن تدفع ثمن التذكر على أمل أن يعود إبنها للحياة معها من جديد.
تقول السيدة باكسام، في حوار لها مع صحيفة "الجارديان" البريطانية، أنهم أبلغوها بأنهم يريدون إعادته إليها من جديد، ولكنها يجب أن تدفع ثمن تذكرة الطيران، والتي تبلغ حوالي ثلاثة ألاف دولار، فوافقت على الفور.
وفي يوم 6 يناير 2012، بدأت رحلتها إلى مريلاند للقاء ابنها، والذي وصل بالفعل إلى مطار بالتيمور الدولي. كانت مترقبة، ولكنها كانت أيضا سعيدة أنه عاد بسلام، إلا أن سعادتها لم تكتمل كما لم تكتمل رحلتها إلى المطار، فبينما كانت على الطريق السريع في طريقها إلى المطار، تلقت اتصالا جديدا من مكتب التحقيقات الفيدرالية الأميركية، لإبلاغها بأن نجلها عاد بالفعل وتم القبض عليه في اللحظة التي خطت فيه قدماه الأراضي الأميركية، حيث تمت إحالته للتحقيق معه.
الشاب الأميركي واجه اتهامات عدة، منها محاولة تقديم دعم مادي لحركة الشباب الصومالية، وهي منظمة متطرفة، وبالتالي فقد يواجه عقوبة السجن لمدة خمسة عشرة عامًا.
ومن بين كل ما حدث، فإن أكثر المواقف التي تركت تأثيرًا كبيرًا على ديانا باكسام هو قيام مكتب التحقيقات الفيدرالية الأميركية بدفعها نحو تسديد ثمن تذكرة العودة لنجلها، من أجل إحالته إلى المحاكمة على يد النظام القضائي الأميركي.
تقول ديانا عن ذلك "أشعر بغضب شديد من جراء ذلك. فقد استخدموني كمواطنة أميركية لدفع أموالي الخاصة من أجل ممارسة أنشطتهم المرتبطة بإنفاذ القانون نيابة عنهم، إلا أن هذا ليس أسوأ ما في الأمر، ولكن أسوأ ما في الأمر هو أن حكومة بلادي تجعلني أدفع ثمن عودة إبني من أجل أن تقوم هي في النهاية بالقبض عليه."
ديانا ربما لم تدرك الأمر بصورته الكاملة حتى تلك اللحظة، حيث أنها تعلم أنها انغمست في أحد الصراعات المميزة للعصر الحديث، والتي تتمثل في المواجهة بين الأصولية الدينية المتشددة من جانب، والأمن القومي الأميركي من جانب أخر.
فهي تقع الآن بين حجري الرحى، فنجلها قرر أن يعيش حياته في التزام ديني شرس بسبب الإيمان الذي اعتنقه حديثًا، وبالتالي فيرغب في الابتعاد عن أسرته وأن يغير حياته بصورة جذرية من ناحية، وكذلك تبدو مرغمة على التعامل مع مسؤولي مكتب التحقيقات الفيدرالية الأميركية الذين يضيقون الخناق عليه باستخدام الوسائل المتاحة من ناحية أخرى.
تقول عن ابنها أنه كان دائما ما يحمل سمات خاصة، فكان مبدعًا وذكيًا، ولكنه في الوقت نفسه يعاني من حالة تشبه الوسواس القهري، كان لا يعرف اللون الرمادي، ولا يجيد التعامل مع الأشياء التي تحمل معنيين، فكل الأمور بالنسبة له إما أن تكون صواب أو خطأ ولا يوجد شيئا اخر فيما بينهما.
تقول أيضا أنه كان يشعر ببعض الصعوبات، حيث أخبرها ذات مرة أنه يعاني من اضطراب في الانتباه، ولكنها لم تلتفت كثيرا لهذا الكلام لأنها لم تلاحظ شيئا عليه إطلاقا، موضحة أنه استغل انفصال والداه بشكل سيء، حيث أنه لم يكمل تعليمه الجامعي، ثم ذهب للالتحاق بالجيش الأميركي قائلا أنه يريد الدفاع عن أميركا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث تلقى تدريبات حول كيفية استقبل الرسائل المشفرة لحوالي ثمانية أشهر ليتم إرساله بعدها إلى بغداد.
وحتى هذه اللحظة، هكذا تستطرد ديانا، كان كريج شخص نظيف تماما، لم يكن يشرب الخمور أو يتعاطى أي نوع من أنواع المخدرات، وكان سجله الجنائي خاليا من أي إدانات، موضحة أنها لا تعرف ماذا حدث معه في العراق، حيث أنه بقى رافضًا تمامًا للحديث عن تلك الفترة، ولكنها تؤكد أنه عاد من هناك شخصًا مختلفًا تمامًا.
وتضيف "أشعر بالانزعاج الشديد عندما أرى أنني قدمت ابني للخدمة في الجيش الأميركي، بينما لم يعيده لي الجيش، نعم إنها مازال لم يعد حتى الآن، لقد ربيت طفلا جميلا من أبناء الطبقة الوسطى تعلم في المدارس الكاثوليكية، وكان حريصا على حضور دروس الموسيقى، ولكنه عاد شخصا أخر."
لم يكن يدخن، بينما أصبح الآن مدخنًا ليس فقط للسجائر ولكن أيضا للماريجوانا، كان لا يشرب الخمر، في حين أنه أصبح يشرب الآن بإفراط، هكذا تقول الأم.
ترى ديانا باكسام أن إبنها مصاب بأعراض الصدمة الكلاسيكية، فعندما عاد كانت حريصة على إعداد غرفته بشكل احتفالي للترحيب به، فكان رده هو الرفض التام لذلك، وبدلا من النوم على السرير، قرر أن ينام على الأرض وأن يضع رأسه على حقيبة السفر، وكأنه مازال في منطقة الحرب.
وفي وسط كل هذه الاضطرابات، يقرر كريج التحول إلى العقيدة الإسلامية.
تقول أن اهتمامه بالأديان لم يكن جديدا، حيث أنه عندما سافر إلى كوريا الجنوبية كان يرسل لها رسائل عبر البريد الإلكتروني ليسألها عن مدى إيمانها بوجود إله واحد فقط، وكذلك الاختلافات بين المسيحية والإسلام، موضحة أن تلك الأسئلة كانت تسعدها كثيرا لأنها كانت تشهر أنه بدأ الاهتمام بتغذية الجانب الروحي بالنسبة له.
ولكن عند نزوله من الطائرة في يوليو 2011، شعرت أن شيئًا كبيرًا قد حدث، هكذا تقول ديانا، فقد أطلق لحيته وكان مرتديًا جلباب وكوفية.
وأضافت واصفة تلك اللحظة "لقد شعرت بالذهول وسألته ماذا حدث لك؟ لماذا ستسافر بهذه الصورة؟ فكانت إجابته أنه أصبح مسلما الآن."
وتقول "لقد خرجت من المطار مسرعة لأبكي على مقاعد انتظار الركاب." وأضافت أن الأمر ربما لا يتعلق بالإيمان بالقدر الذي رأت فيه أن تصرف إبنها يحمل رفضا ضمنيا للعائلة، حيث أنه تربى مسيحيا، وبالتالي كان تركه للمسيحية هو بمثابة ترك للعائلة كلها، ولذلك أخبرته أنني متدينة مثلك تماما، وكلانا على مسار مختلف، ولذلك فأنت فصلت نفسك عن الأسرة."
وبحسب ما ذكرت التقارير الصادرة عن مكتب التحقيقات الفيدرالية الأميركية، أن كريج تحول إلى الإسلام قبل خروجه من الجيش الأميركي المتواجد في كوريا الجنوبية بحوالي عشرة أيام، حيث أنه لم يتم إقناعه بواسطة أفراد أو منظمات، ولكن الأمر ارتبط بدخوله إلى عدة مواقع اليكترونية كانت تتحدث عن يوم الحساب.
وعندما عاد إلى الولايات المتحدة، حاول كريج إقناع والدته أيضا بالتحول إلى الإسلام، حيث أنه كان كثيرا ما يقول لها "أنني أحترم حقك في اختيار العقيدة التي تؤمنين بها، ولكني أود فقط أن أخبرك أنني أخشى أن يكون مصيرك في النهاية هو جهنم."
واستمر الحال على ذلك حتى ديسمبر 2011، حين تلقت ديانا اتصالًا هاتفيًا من والده يخبرها فيه أن كريج قد اختفى.
خلال محاكمته، أكد الادعاء أن الشاب الأميركي كان يعلم ماهية حركة الشباب وأنها أحد الحركات المصنفة كتنظيم متطرف من قبل الولايات المتحدة، كما أنه كان على دراية بالنشاط المتطرف الذي تمارسه تلك الحركة في الصومال، وبناء على التحقيقات التي أجريت معه تم احتجازه من قبل الشرطة الكينية.
وأضاف الادعاء أن الشاب الأميركي أصبح يحمل موقفا عدائيا تجاه الولايات المتحدة، حيث اختار الرحيل عن الولايات المتحدة لأن الحياة فيها تحتاج إلى الاعتدال، وهو الأمر الذي يرفضه كريج، والذي أصبح يرى أن الموسيقى من المحرمات، بينما الرسم من الكبائر على اعتبار أن الله وحده هو الذي يمكنه الخلق.
وذهب الادعاء إلى ما هو أبعد من ذلك أثناء محاكمة الشاب الأميركي، حيث أكد أنه كان مستعدا لحمل السلاح والوقوف أمام الولايات المتحدة إذا ما أقدمت على الهجوم على التنظيم المتطرف.
ربما يكون من الصعب للغاية أن تعرف ماذا كان يدور برأس كريج أثناء قيامه برحلته المصيرية في أدغال أفريقيا سعيا وراء الجهاد، فهو يبقى غامضًا إلى حد بعيد.
عندما طلبت صحيفة "الجارديان" البريطانية إجراء حوار معه، بعث برسالة لها من زنزانته القابعة في مقاطعة بومون، بولاية تكساس الأميركية، قال فيها "لن أجري أية حوارات معكم، ولكن ما أريد أن أقوله أنه بالرغم مما أشعر به من حزن جراء تعامل الحكومة الأميركية معي، فإن كل ما حدث معي لا يعدو أن يكون أكثر من شيء ضئيل إذا ما قورن بالكثير من الحالات الأخرى."
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر