بني ملال – يوسف لعجان
يعيش الباعة المتجوّلون في مدينة بني ملال المغربيّة، في عذابٍ مستمر، بين الهروب من عيون سُلطات تتربص بهم، ومرارة البحث عن لقمة العيش لأبنائهم.يجلس هؤلاء على أرض إسمنتيّة، بالقرب من أشجار ذبلت أغصانها، وارتخت أوراقها لكنها لاتزال تحكي تاريخ بني ملال في فترات الاستعمار، وينطلق صدى صوت السُلطات الصاخب، ذاك الصوت الذي تكرّر مرات عدّة حتى ترسّخ في الأذهان وأصبح كابوسًا يُطارد هؤلاء الباعة المتجولين، يحملون سلعهم على ظهورهم، والبعض الآخر يجرّها بعد أن عجز عن تحمّل ثقلها، شباب عيونهم متيقظة تبحث في كل مكان، في حين أن لسانهم لا يكفّ عن الصراخ بأثمنة سلعهم "التبراح"، يرتدون أحذية "سبور"، مُستعدّين للهرب في أية لحظة قد يتهددهم فيها تدخّل السلطات، لتتسارع خطواتهم فتصبح ركضًا نحو الزقاق الضيق القريب من الشارع، لكنهم لا يسأمون ولا يستسلمون، بل يعودون حين تسنح لهم فرصة البيع، ثم يهربون مرة أخرى وهكذا، إلى أن يخطف الليل ضوء شمس تحترق في سبيل نشر ضيائها ويُسدل الستار.
قال عبدالرحيم بصوته المبحوح بسبب كثرة صراخه، متجوّل من أبناء مدينة بني ملال، يبيع ثيابًا نسائيّة وضعها فوق فراش بلاستيكيّ، جوانبه معقودة بما يسهل عليه جمع سلعته بكل بساطة، "أنا هنا منذ 15 عامًا في هذا الشارع، تنبيع ونشتري، ولا أملك موردًا للرزق غير هذا".
وقد اختار هذا الشاب التجارة في هذا الشارع، رغم الصراع الدائم بينه وبين الشرطة والأعوان، محاولاً كسب لقمة عيش رغم صعوبتها، وأكد وعيناه لا تكفّان عن المراقبة و الانتباه، أنه لا يجد بديلاً عن عمله هذا، فرغم المعاناة والأضرار التي قد تلحق به، كمصادرة سلعة، فهو لا ينوي أبدًا الاستسلام، ولن يستسلم ما دام الحال هو الحال.
واستطرد عبدالرحيم حديثه قائلاً بحزن وأسى، "كان هناك مشروع متاجر أنجزته السلطات، لكن لم يستفد منه من يستحق، بل فقط معارف هذا ومعارف ذاك، أحيانًا بإعطاء الرشوة و أحيانا لمن خافوا سخطه.وتدخّل أحد زملائه المُسمى عادل، مُقاطعًا، "أنا جئت هنا بعد عبدالرحيم، واسأل أي شخص ممن يطاردوننا، هل من بديل للحصول على لقمة العيش".وفي وسط الميدان، في ساحة مُحاطة بمنازل قديمة كالحة (حزينة)، تتذكر فصول السنين ومتاجر وسيارات متوقفة بجانبها الأيسر، انتشر البائعون وسط الزحام في اتجاهات مختلفة، لكن كان مقصدهم واحدًا، وهي الأزقّة الذابلة جدرانها التي ستتستر عليهم ولو لمدة وجيزة، حتى يغادر قائد الشرطة ومُساعديه.
وقد اندهش بعض المارين، الذين لم يستوعبوا ماهية هذا الفرار، وخاف البعض الآخر، فانصدموا واقفين جامدين من أثر الدهشة، لكن الغريب أن البعض الآخر سعى وراء هؤلاء التجار غير آبه للعواقب، من أجل شراء ما جاؤوا من أجله، أو ما تفاوضوا على ثمنه مع البائع.
ووسط جلبة من الأصوات، توجهتُ إلى أحد التجار بالسؤال، بعد أن فكّرت ألف مرة في رد فعله، فأجابني عبدالهادي قائلاً "إنه لا يلوم هؤلاء الشرطيين والمساعدين، لأنهم لا يقومون إلا بعملهم، فهم ينفذون القانون، ويُخلون الشارع من الاكتظاظ، لكن في هذه المهنة صعب أن تعرف من المظلوم ومن الظالم".
وصاح أحد الباعة، وهو يُشير إلى أحد أعوان السُلطات، الذي يحمل في يديه كيسًا رماديّ اللون، يبدو من حجمه مليئًا بثياب كثيرة، حتى أن بعضها تساقط على الأرض كأنها تحتجّ على حملها غصبًا، "انظر هذه السلعة ستُصادر"، وبعد أن أمعن النظر في سيارة قائد الشرطة وهي تغادر كأنه يستعطفه، ويقول له "انظر لحالي ولحال هؤلاء فهل لنا من بديل!".
وأكّد عبدالرحيم (2)، تاجر بلغ من العمر 30 عامًا، أمضى منها 7 سنوات كبائع متجوّل في مدينة بني ملال، بعد أن غادر قرية "آيت عتاب" بحثًا عن لقمة العيش، أن حالهم هذا يتكرر يوميًا، لكن يوم الأحد والذي يتزامن مع السوق الأسبوعيّ، فقد تجرّع خيبة الأمل والحظ العسير، الذي لم يوليه أي تقدير حتى نال من المرض ما أعجزه، عن خوض غمار لعبة التجارة في هذه الساحة، عيونه قحلت من كثرة النظر إلى مآسي أحواله، أو من كثرة البكاء على حظ حياته، لكن لايزال يشع منه بريق التفاؤل والأمل، وقال "أنا مريض بمرض السكري، ومُجبر على أخذ الأدوية المنتظمة للكلوي، لهذا لم أعد أستطيع العمل في هذا الشارع، لأنني لا أستطيع الركض ولا الفرار الدائم عن السلطات وحملاتها ضد الباعة المتجولين، فقد حاولت الاستفادة من مشروع المتاجر، لكن دائمًا تنتهي محاولاتي بالفشل، فهم لا يجيبون لا بالرفض و لا الترحيب، بل يتركونك حائر البال بلا مجيب، وأن جمعية الباعة المتجوّلين أيضًا لم تبالي بطلباته، بل تمادى بها الأمر، بأن وقف أحد أعضاؤها ضد تسجيله في لوائح المستفيدين، رغم أن شرط التسجيل في اللائحة هو أن يكون بائعًا متجولاً معروفا في هذا الفضاء، لا يعرف السبب، لكن يؤكد استفادة أشخاص حديثي التجارة بل بعضهم لا يمت لها بأي قرابة.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر