القاهرة ـ علي رجب
ترمز حارة اليهود في حي العتبة وسط القاهرة، إلى مرحلة مهمة في تاريخ مصر الحديث، حيث سكنتها العائلات اليهودية التي شكلت جزءًا مهمًا من النسيج التجاري والثقافي لمصر، حيث كانوا يرسلون أبناءهم إلى مدارس خاصة ويسيطرون على مؤسسات مصرفية وقطاعات تجارية كبيرة.
وعندما تتجول في إحدى الطرق الضيقة في العتبة، ستجد علامة مرورية كتب عليها اسم الحارة، والعلامة ليس مجرد " لوحة" لتعرف بها المكان، بل هي جزء من التاريخ المصري، تعبر من خلال أذقتها وشوارعها إلى عصر وجود اليهود في مصر "قاهرة المعز"، تلك الحارة كانت نموذجًا نادرًا للتعايش بين البشر والملل والأديان، كما تجد المسلمين يفتخرون بصلاح الدين الأيوبي وقلعته القريبة، وكان بجانبهم اليهود الذين يفتخرون بموسى بن ميمون مستشار الأيوبي الأمين ومعبده الموجود حتى الآن في الحارة، أما المسيحيون فكان معظمهم يسكنون في شارع "درب الكنيسة".
ولكن بعد ثورة 23 تموز/ يوليو التي قادها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، تعرضت معظم القطاعات التجارية التي كان اليهود يسيطرون عليها للمصادرة من قبل الدولة، أو التنازل عن بعضها، أو بيعها للعاملين معهم، وتركت بعض العائلات اليهودية منازلها في ظل تزايد توتر علاقات مصر مع دولة إسرائيل التي كانت في حالة عداء مع النظام الحاكم في مصر، ولم يبق في القاهرة سوى يهود قلائل جدًا، لكن لا تزال هناك ملامح يهودية فى كل مكان في الحارة، فالحارة التي كانت تضم 13 معبدًا يهوديًا، لم يتبق منها سوى ثلاثة فقط، منها معبد "بار يوحاي" في شارع الصقالية، ومعبد "أبو حاييم كابوسي" في درب نصير، وأشهرها هو "معبد موسى بن ميمون" الذي تم ترميمه منذ سنوات، وكانت تقام فيه الشعائر الدينية حتى العام 1960، وفي العام 1986 تم تسجيل المعبد كأثر بسبب أهميته التاريخية والدينية والمعمارية، وتم ترميم المعبد وافتتح في 30 آذار/مارس 2010 في يوم عيد ميلاد موسى بن ميمون.
وبخلاف المعابد، هناك أيضًا نجمة داوود اليهودية المنتشرة على بعض البيوت القديمة، والتي لم يقم سكانها المسلمون بإزالتها، فطبيعي مثلاً أن تجد منزلاً قديمًا مكتوبًا عليه "موسى ليشع عازر - 1922"، إضافة إلى نجمة داود السداسية، على الرغم من أن موسى هذا هاجر منذ 60 عامًا، وكل السكان حاليًا من المسلمين، وحارة اليهود هي ليست حارة بالمعنى المتعارف عليه، فهي ذات شوارع رئيسة متقاطعة، تتفرع منها حارات كثيرة ضيقة ومتشابهة جدًا يصل عددها لنحو 200 حارة وممر وزقاق ودرب، كانت معظمها تحمل أسماء يهودية، لكنها تغيرت، إلا أن اسم الحارة الكبيرة ظل صامدًا حتى الآن، والمنطقة تتميز بالكثافة السكانية العالية جدًا وكثرة المحال التجارية والورش المختلفة المتخصصة في صياغة الذهب وطلاء المعادن النحاسية والحديدية، النجارة والأثاث، محلات بيع الأقمشة ولعب الأطفال وأدوات التجميل والإكسسوارات والتحف.
وقد أقام فيها الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، وديفيد شارل سامحون، والفنانة راقية إبراهيم، وفقًا لما ذكره سكان الحارة من الكبار في السن، الذين أكدوا أن هناك الكثير من المشاهير عاشوا في حارة اليهود، ففي زقاق "خميس العدس" وبالتحديد في منزل اليهودي شاموئيل، عاش الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عندما كان صبيًا عمره 13 عامًا ولمدة خمس سنوات، وفي الزقاق نفسه عاشت الممثلة الشهيرة راشيل إبراهام ليفي، والتي اشتهرت باسم "راقية إبراهيم"، وكذلك ولدت في الحارة ليليان ليفي كوهين التي عرفها المصريون باسم الفنانة "كاميليا"، ومنذ العامين وقعت مواجهة عنيفة بين بعض الأهالي والشرطة، حيث قال الأهالي إن "الشرطة كانت تريد إخلاء أحد المنازل في الحارة ترجع ملكيته إلى اليهودي ديفيد شارل سمحون، وهو الاسم الذى انتحله الجاسوس المصري الشهير رفعت الجمال "رأفت الهجان".وبعيدًا عن السياسيين والمشاهير ، فإن من أبرز اليهود الذين عاشوا في الحارة سوسو ليفي، الساعاتي الذي هاجر إلى إسرائيل، والخواجة ماندي التاجر الشهير، والخواجة داوود المتخصص في كتابة الكمبيالات والتسليف بفوائد كبيرة، والعرافة راشيل التي كانت تشتهر بـ"فتح الكوتشينة" وكان زبائنها من مشاهير السياسيين وقد توفيت منذ10 سنوات تقريبًا، وغيرهم من يهود الأربعينات والخمسينات.أما عم سعد "70 عامًا"، فقد وصف يهود الحارة بـ"الأمناء والصادقين وأعز أصدقائه"، مضيفًا "هناك الكثير من الشركاء اليهود تركوا ورشهم ومحالاتهم من دون مقابل لمن كان يعملون معهم، لأنه لم يكن مسموحًا لليهود في ذلك الوقت أن يبيع أي منهم ممتلكاتهم، ولايزال محتفظًا باسمها نجمة المصريين، وأن يوم السبت كنا نسميه سبت النور لم يكن أحدًا من اليهود – حسب معتقداتهم - يمسك بأي شيء، لا لمبة جاز ولا وابور، ولا الكهرباء، وإذا كان يريد أن يشترى شيئًا كان يعطينا النقود ونحن صغار، وكان يطلب منا أن نذهب لنشترى له حاجاته، كما كانوا ينادون علينا أيضًا لنفتح لهم النور في شققهم، وكان لهم نمط غريب في التعامل، فقبل أي شئ يعطوننا تفاحة أو قرشًا أو حلويات ثم يطلبون منا ما يريدونه، ولم يكونوا بخلاء على الإطلاق بعكس الصورة المأخوذة عنهم، قد يكون ذلك الأمر في العمل فقط، إذ لا يترك اليهود لأي شخص مليمًا واحدًا، أما في حياتهم العادية فكانوا يصرفون ببذخ، وكان الفرد منهم مستعدًا لأن يصرف كل ما كسبه في يوم عمله، وكانت عندهم ميزة هي أنه إذا باع أحدهم في أول النهار أو ما نسميه (الاستفتاح)، ولم يبع جاره، فإنه عندما كان يأتي له زبون كان يرسله لجاره التاجر، حتى لو كانت عنده البضاعة التي يريدها، وكانوا يراعون تقاليد المسلمين، لا سيما في شهر رمضان، أنا أتكلم عن اليهود المصريين وهم مختلفون تمامًا عن الصهاينة الموجودين في إسرائيل حاليًا".ومن العلامات المميزة لحارة اليهود "الأوديش"، وهو مبنى يتكون من طابقين به حجرات عدة أو مجمع إيواء فقراء اليهود, وهناك أكثر من 10 "أوديشات" بعضها يسكنها الأهالي، والبعض الآخر تحول إلى ورش خراطة، والأوديش عبارة عن مكان واسع مربع الشكل يتكون من طابقين، في كل طابق مجموعة صغيرة من الغرف الضيقة التى أصبح يملكها مسلمون ومسيحيون حاليًا، باستثناء 4 غرف، لا تزال الجالية اليهودية تدفع إيجارها.وعن فكرة عودة اليهود إلى الحارة، قال الحاج سمير الحسيني، من قانطي "الأوديش"، "لم يقم أحد بطرد اليهود من مصر، بل هم من هاجروا منها، لذلك فهم غير مرحب بهم في مصر، فليس لليهود مكان وسط المصريين"، فيما ردد ساخرًا "فليأتوا لعل حالة البلد تنقلب مرة أخرى"، فيما أوضح الحاج عماد خليل، والذي يعمل فى ورشة مشغولات نحاسية ويعيش في الحارة منذ 62 عامًا ، أن "معظم المحلات في شارع الصاغة كانت تحمل أسماء عبرية، ومعظم اليهود تركوا ورش الذهب للمصريين الذين كانوا يعملون فيها، على أمل أن يعودوا إليها مرة أخرى، وكانوا يشاركون الجميع في أفراحهم وأحزانهم، وفي السنوات الأخيرة كان بعض الإسرائيليين يزورون الحارة، ويقولون إنهم كانوا يسكنون فيها ويتذكرون جيرانهم في المكان الذي هجروه منذ نصف قرن" .
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر