عرضت مجلة الجوبة الثقافية في عددها الثاني والخمسون الصادر في سبتمبر/أيلول 2016 تقريرًا عن دراسة بعنوان : "الأولوية الحتمية لإيقاف التدهور – هكذا يشل إعطاب القدرات الأمم". والتقرير هو أحد إصدارات مؤسسة تنمية الخبراء – مهارة. في العام الماضي وهو يتناول بالتحليل الموضوعي السبب الجوهري لتردي أحوال منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال المئتي عام الأخيرتين.
يستعرض التقرير عددًا كبيرًا من الدراسات العالمية المتخصصة في تقييم الجوانب الرئيسة للنشاط الإنساني في تلك المنطقة، ورصد الأداء الجمعي لسكانها في العصر الحديث، ويخلص التقرير إلى أن السبب الجوهري لتردي أحوال تلك المنطقة يرجع إلى استشراء وباء إعطاب القدرات، وذلك الذي قلص قدرات أجيال كاملة طوال عقود متتالية ومازالت الدراسات المتخصصة ترصد آثاره المدمرة في مختلف مظاهر النشاط الإنساني لسكان المنطقة؛ من الاقتصاد إلى السياسة إلى الصحة والتعليم والدفاع ومظاهر السلوك الجمعي للأفراد في شتى دول الإقليم.
ويشرح التقرير كيف تم تكريس ما يصطلح على وصفة بالتنمية القاصرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويبين كيف يتسبب استمرار تلك التنمية القاصرة لفترات طويلة في إعطاب قدرات الأفراد في تلك المجتمعات، مما يجعل معظم النشاطات التنموية في المنطقة تعاني مما يسمى التقليد الشكلي والإنجازات الوهمية، وهو ما يكرس بيئة معطبة لقدرات الأفراد ويتسبب في خلق هوة بين تلك القدرات ومستوى المهارات المطلوبة لتحقيق تقدم تنموي حقيقي.
فالعيش تحت وطأة التنمية القاصرة، لا يؤدي فقط إلى ضمور أو أعطاب القدرات الإيجابية للأفراد وحسب بل ينمي قدرات هدامة تساهم في إدامة التنمية القاصرة التي تتعدد مظاهرها؛ من تعليم لا يساهم في تطوير قدرات المُمَدْرَسين، إلى طفولة مهملة لا تتاح لها فرص امتلاك الثروة البشرية ، إلى فقر يؤثر على القوى العقلية للأفراد إلى أنظمة حكم استبدادي تحتكر الثروة والسلطة إلى نظم إدارية ترفض التطوير والإصلاح إلى معتقدات وعادات مجتمعية تفتقد المنطق والبرهان. إلى غير ذلك مما يستشعر آثاره المدمرة ملايين المطحونين في الإقليم.
ويتبع التقرير أسلوب التقارير التنفيذية المركزة معتمدًا على توجيه القارئ إلى كم وافر من المراجع الوازنة تشرح ما تم إيجازه وتستعرض الأدلة المفصلة على ما ذهب إليه التقرير الذي يتكون من ٦ فصول يعقبها فصل كامل للمراجع :
المقدمة؛
عندما يتعثر النمو طويلاً؛
تعثر أكثر خطورة؛
امتلاك القدرات؛
إعطاب القدرات؛
استعادة القدرات؛
المراجع.
المقدمة:
وتشرح المقدمة أن القوة الحقيقية للمجتمعات الإنسانية تكمن في قُدُراتها الفكرية والمُؤَسَسِيَّة، أكثر من أصولها الجامدة ؛ كالثروات الطبيعية ، أو حتى المنشآت ، أو المنتجات. حيث تتجسد تلك القُدُرات في معارف ومهارات الأفراد بشقيها المعرفي وغير المعرفي ؛ أو ما يعرف إجمالاً بالثروة البشرية. وتبين أنه لكي يكتب النجاح لأي عملية تنموية ، يتحتم أولا تقييم الثروة البشرية الموجودة بعناية فائقة ، من خلال قياسها بالمعايير العالمية المعتبرة ، ومن ثم تقدير الإصلاحات الواجبة، فبناء القدرات الإنسانية قد يكون أصعب مهام التنمية ، خاصة في الحالات التي يتسبب استمرار التنمية القاصرة لفترات طويلة في سلب البلدان قدراتها المهارية اللازمة للتنافس الدولي.
عندما يتعثر النمو طويلاً
في هذا الفصل يسرد التقرير الأداء الاقتصادي الجمعي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مقارناً بغيرها من مناطق العالم من خلال دراسات اقتصادية عالمية متخصصة. تظهر المعلومات الموثقة فيها بجلاء أنه خلال القرنين الماضيين اتخذ النمو الاقتصادي في المنطقة منحى سلبي لا يبدو فيه إن عائدات الثروات الطبيعية الناضبة قد خلقت آلية تكامل أو نجاح اقتصادي معتبر ؛ حتى أن معدلات البطالة في المنطقة تبقى هي الأعلى على مستوى العالم؛ بنسبة مذهلة لبطالة الشباب وصلت إلى 29.5% في العام 2014، بل إن حوالي 23.4% من الشعوب العربية تعيش تحت خط الفقر القومي للعام 2012؛ مرتفعة عن نسبة 22.7% التي سجلت في العام 1990
تعثر أكثر خطورة
في هذا الفصل يستعرض التقرير تحليلات علمية موثقة لمؤشرات الأداء المجتمعي لدول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خلال أكثر المؤشرات الدولية رصانة وكفاءة في هذا المجال. كما يقدم تحليلاً دقيقاً للأداء الجمعي لشعوب المنطقة منذ بداية عقد السبعينات في القرن الماضي وحتى العام ٢٠١٥ م ، في مجالات التعليم ، والصحة ، والجيش ، والاقتصاد ، والسكان ، والبيئة ، والمجتمع والسياسة ، والثقافة ، والضمان الاجتماعي .
هنا تبين المؤشرات الدقيقة كيف أن التعثر الاقتصادي لدول المنطقة ، بالرغم من فداحته ، أقل خطورة من تعثرها في كافة الأسس المجتمعية الجوهرية كقيم العدالة والمساواة وسيادة القانون والحكم الرشيد والتعليم الكفوء والتخطيط المستقبلي والتقييم الموضوعي للأداء. ويلفت التقرير نظر القارئ في نهاية هذا الفصل إلى مجموعة من أهم الدراسات خلال الخمسين سنة الماضية التي تناولت بعضاً من أسباب ومظاهر هذا التعثر المجتمعي المدمر.
امتلاك القدرات
يستعرض هذا الفصل آليات امتلاك القدرات على مستوى الأفراد والمجتمعات والأمم كما بينتها الدراسات المتخصصة الرصينة في علم النفس والأسس العصبية للمعرفة والتنمية البشرية وعلم الاجتماع والتربية ويلف النظر إلى جوهرية معدل ذكاء الأفراد وآليات امتلاكه وتطويره ومحوريته في تحديد النشاط الإنساني بكافة مظاهره الفكرية والعملية والقيمة.
إعطاب القدرات
يمثل هذا الفصل بعنوانه إضافة جوهرية في تحرير السبب الحقيقي لتعثر الأفراد والمجتمعات والأمم. حيث يسرد الفصل مجموعة من أهم الدراسات العلمية الحديثة في مجال الأسس العصبية (أو المخية) للمعرفة والسلوك والمهارات التي تقدم أدلة قطعية دامغة على التأثير المباشر للظروف المجتمعية على بنية المخ وبالتالي على المقدرة الذهنية للأفراد في المجتمع كما تعبر عنها المؤشرات الطبية والنفسية المعتبرة مثل معامل الذكاء. مما ينعكس على معتقداتهم وقيمهم وسلوكهم ونشاطاتهم العملية بكافة أشكالها. هنا تبين الأدلة العملية أنه حين تفشل
المجتمعات في امتلاك أو حفظ الظروف الضرورية لحماية وتنمية القُدُرات الإيجابية لأفرادها يتسبب هذا في ضمورها أو إعطابها أو منعها من البزوغ. والأخطر من ذلك ، أنه باستمرار التنمية القاصرة فترات طويلة يتسارع تدهور القدرات الجمعية للأفراد في المجتمع ، وتتآكل ثروته البشرية. فالتدهور لا يُعْطِبُ أو يُثَبِّطُ القُدُرات الإيجابية وحسب ، بل يُنَمِّي قُدُرَاتٍ هَدَّامَةٍ تُساهم في إدامة التنمية القاصرة ؛ كجزء من حلقة مفرغة
وهنا يؤكد التقرير على أنه في هذه الحالات الحرجة ينبغي أن تكون الأولوية الحتمية للمجتمعات إيقاف هذا التدهور الخطير الذي لا يدمر حاضرها فقط بل يهدد مستقبلها المنظور.
استعادة القدرات
يتناول هذا الفصل الآليات المعتبرة في إصلاح العطب في قدرات الأفراد والمجتمعات والأمم. ويشير إلى دراسات التقييم الموضوعي لأثر التعليم الكفوء كآلية ممكنة لبدء استعادة القدرات المعطوبة للأفراد نتيجة لتعرضهم لتنمية قاصرة لفترات زمنية طويلة. كما يقدم نمذجة رياضية متخصصة للمدى الزمني المتوقع لعملية إصلاح ممنهج للقدرات المعطوبة للمجتمعات.
ويلفت هذا الفصل النظر إلى استحالة أن يكفي إصلاح النظم التعليمية فقط لإيقاف تدهور المجتمعات. إذ أنه ما لم تتخذ إجراءات جوهرية لإعادة النظر الفوري في المعتقدات والأنظمة التي سببت أو تجاهلت أو دعمت أو شجعت آليات إعطاب القدرات فلن يتمكن التعليم ولا أي شئ آخر من إيقاف الانحدار.
وتكمن أهمية التقرير أنه قد بيَّنَ بالأدلة القطعية حقيقة الوضع الكارثي الذي تعيشه بلدان المنطقة ؛ ليس فقط بسبب أنظمة تعليم دون المستوى، بل بسبب كارثي آخر أشد خطورة هو إعطاب بنية المخ لدى الناس حقيقة وليس مجازاً. وهذا يعني ببساطة تدمير القدرات العقلية لتلك الشعوب المنكوبة من المنبع. وهذا كارثة تتجاوز غيرها إلى مستويات غير مسبوقة من الخطورة ليس لحاضر الناس فحسب، بل لمستقبلهم ومستقبل كل أجيالهم المقبلة.
و مؤسسة "مهارة" لم تقف عند حد التشخيص المرجعي الدقيق للكارثة بل دشنت برنامجًا عمليًا شاملاً في مجال التعليم كنقطة انطلاق لمجالات أخرى كما هو مبين في موقع المؤسسة.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر