قال الدكتور عبد الله بوصوف، الخبير في العلوم الإنسانية، إن شهر ماي ليس شهر الاحتفال بالعيد العمالي أو ترديد مطالب الطبقة الشغيلة أو تنظيم المسيرات فقط، بل إن الأمر يتعدى ذلك؛ فـهو شهر “أمني” بامتياز يخلد فيه المغاربة ذكرى تأسيس القوات المسلحة الملكية يوم 14 ماي وذكرى تأسيس المديرية العامة للأمن الوطني في الـ16 منه.
واستحضر بوصوف، ضمن مقال توصلت به بعنوان “ذكرى 16 ماي .. شهادة ميلاد الحكامة الأمنية الرشيدة”، العديد من الخطب الملكية التي أسست لتراكمات على المستوى القانوني والدستوري والحقوقي، موردا أنها جعلت من “صيانة الأمن مسؤولية كبيرة، لا حد لها، لا في الزمان ولا في المكان. وهي أمانة عظمى في أعناقنا جميعا”.
وشدد الأكاديمي ذاته على أن “تخليد الذكرى الواحدة والعشرين لأحداث 16 ماي 2003 الأليمة، يجب أن يبقى علامة على يقظة المغرب وجنوحه للسلام والتسامح ومناهضته للتطرف والغلو، وعلى علو كعب رجالاته في محاربة الجريمة المنظمة وتلك العابرة للحدود”.
دخول شهر ماي بالمغرب لا يعني فقط الاحتفال بالعيد العمالي أو ترديد مطالب الطبقة الشغيلة أو تنظيم المسيرات والمهرجانات الخطابية، بل يفوق ذلك بكثير؛ فـهو شهر “أمني” بامتياز يخلد فيه المغاربة ذكرى تأسيس القوات المسلحة الملكية يوم 14 ماي وذكرى تأسيس المديرية العامة للأمن الوطني يوم 16 منه.
وهي الأجهزة التي سهرت على أمن واستقرار المجتمع في وجه عُتاة الجريمة بالداخل والمتربصين بالمقدسات الوطنية والدستورية وبصورة المغرب بالخارج. لـذلك، كان من الطبيعي أنه للتشويش على الأمن والنظام العام والطمأنينة العامة بالبلاد، فلابد من ضرب الساهرين عليه أولًا، وهذا ما نعاينه ونقرؤه منذ مدة في المنصات العدائية، سواء مباشرة عن طريق كتيبة الوحل الإعلامي الممول من طرف سونطراك، أو عن طريق بعض “الكلاب الضالة” المقيمة بالخارج والمحسوبة على المغرب.
لكن في احتفالات 16 ماي من سنة 2003 ستختلط الدموع بالدماء والفرح بالصراخ والأمل بالألم، بقيام مجموعة من “الأوغاد السفلة” بعدوان إرهابي أثيــم خلف قتلى وجرحى أبرياء مغاربة وأجانب بمناطق مختلفة بمدينة الدار البيضاء، حيث استهدفوا النموذج المغربي في التـديـن ومذهبه المالكي الوسطي واستقراره وسكينته.
وهي الواقعة الأليمة والغادرة التي ستخلد صورة جديدة من تلاحم الشعب والعرش في مسيرة مليونية قـلّ نظيرها في شوارع الدار البيضاء من أجل السلام والتسامح ومناهضة العنف والتعصب، استمدت روحها وفلسفتها من المسيرة الخضراء، عند كل استهداف غادر لثوابت الأمة ومقدساتها، حيث انتصرت لشعارات الثلاثية المغربية المقدسـة، أي الإسلام وإمارة المؤمنين والوطن.
وبخطاب ملكي قوي يوم 29 ماي 2003 يفكك فيه رئيس الدولة المغربية دلالات الحادث الإرهابي ويرسم إحداثيات مواجهة الإرهاب والتطرف، كان مبتدؤها تعليمات فورية للسيطرة على الموقف وبعث الثقة في النفوس، وبإصدار القانون رقم 03/03 المتعلق بمكافحة الإرهاب يوم 28 ماي من السنة نفسها، ثم إرساء ترسانة قانونية مهمة من بينها قوانين مكافحة جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
ثم خطاب 30 أبريل 2004 الذي أسس به أمير المؤمنين مرحلة إعادة هيكلة الحقل الديني وتجديده، وتحصينا للمغرب من نوازع التطرف والإرهاب، وذلك بإلقائه أمام المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية الإقليمية، وما تبع ذلك من تأسيس مؤسسات دينية جديدة أو تأهيل أخرى قديمة وخلق قنوات إعلامية تجعل من الدين والشريعة والمذهب المالكي موضوع مادتها الإعلامية، ثم انطلاق ما عرف بمسلسل المراجعات، وأخيرا التنصيص الدستوري على المجلس الأعلى للأمن في المادة 54 من دستور 2011.
لكن بعيدا عن هذا التراكم القانوني والدستوري والحقوقي، الذي دشنه جلالة الملك محمد السادس في خطاب المفهوم الجديد للسلطة سنة 1999 المتعلق بتوطيد سلطة الدولة ودعائم سيادة القانون وسمو القضاء الفعال، وهو المفهوم الذي لم يكن حسب خطاب مارس 2013 إجراء ظرفيا لمرحلة عابرة أو مقولة للاستهلاك، وإنما هو مذهب في الحكم مطبوع بالتفعيل المستمر والالتزام الدائم بروحه ومنطوقه، يضيف خطاب الملك محمد السادس.
(بكل ذلك) فإننا راكمْنـا خلال عقديْـن من الزمن ثقافة أمنية جديدة ومصطلحات أمنية جديدة، من قبيل الحكامة الأمنية الرشيدة وشرطة القرب والإنتاج المشترك للأمن وتنظيم الأبواب المفتوحة للأمن والمفهوم الجديد والمتجدد للسلطة والانفتاح على الإعلام وانفتاح المؤسسات السجنية، وغيرها من المصطلحات التي تنتمي إلى مجالات سيادة القانون والأمن وثقافة حقوق الإنسان والديمقراطية.
لكن كل هذه التراكمات كانت نتاج مضامين خطابات ملكية سامية جعلت من “صيانة الأمن مسؤولية كبيرة، لا حد لها، لا في الزمان ولا في المكان. وهي أمانة عظمى في أعناقنا جميعا”. ويضيف جلالته: “فالكل مسؤول عندما يتعلق الأمر بقضايا الوطن”.
ولأنه “لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين” كما قال جلالة الملك، فإنه لا أمن بدون أمنيين.
لذلك، أشادت العديد من الخطابات الملكية بجهود وتضحيات المصالح الأمنية وبالفعالية في استباق وإفشال المحاولات الإرهابية رغم الضغوط وقلة الإمكانيات. وفي الوقت الذي أوصى جلالته بتمكين الإدارة الأمنية من الموارد البشرية والمادية اللازمة، فإنه ذكر بضرورة تخليق الإدارة الأمنية وتطهيرها من كل ما من شأنه أن يسيء لسمعتها وللجهود الكبيرة التي يبذلها أفرادها في خدمة المواطنين.
اليوم، عندما نرى المغرب يجني ثمار سنوات من الجهد والبناء في مجال الحكامة الأمنية وتأهيل الموارد البشرية والبنية التحتية للأجهزة الأمنية، بإشراف شخصي لرئيس الدولة المغربية الملك محمد السادس من خلال زيارته التاريخية إلى مقر الديستي يوم 24 أبريل من سنة 2018، ومن خلال رجالات الإدارة الأمنية المشهود لهم بالكفاءة في محاربة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود، فإننا لم نعد نتفاجأ من توشيحات السيد عبد اللطيف الحموشي، المدير العام للأمن الوطني ولمراقبة التراب الوطني (الديستي)، من طرف العديد من الدول أو استقباله من طرف كبار الأمنيين في دول أوروبية كبرى.
لقـد شوهد الرجل في مناسبات عدة وهو يقف على تفاصيل تنظيم تظاهرات عالمية كمونديال قطر 2022، أو مباريات الديربي البيضاوي، أو أثناء احتضان مدينة طنجة لاجتماع قادة الشرطة والأمن العربي في دجنبر 2023، أو الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي بمدينة مراكش في أكتوبر 2023، كما نجح في دجنبر 2023 بمدينة فيينا النمساوية في تقديم ملف ترشيح المغرب لاحتضان أشغال الدورة 93 للجمعية العمومية للشرطة الجنائية (إنتربول) بمراكش سنة 2025.
لقد خرجنا من الضربة الإرهابية ليوم 16 ماي من سنة 2003 أكثر قوة وأقوى تنظيما، سواء على المستوى المؤسساتي أو القانوني أو الحقوقي أو التربوي، وأصبح المغرب بفضل قوة تبصُـر وبصيرة جلالة الملك محمد السادس في مجال الحكامة الأمنية ومحاربة الإرهاب والتطرف من الرواد العالميين في مجال التعاون الأمني الدولي، وهو ما نلمسه في تقارير أمنية خارجية وتصريحات مسؤولين دوليين (أمريكا وبريطانيا وإسبانيا وبلجيكا والنمسا والسعودية والإمارات وقطر…)، كوزير الداخلية الفرنسي في زيارته الأخيرة واستقباله بالرباط من طرف السيد الحموشي في انتظار ترتيبات تنظيم أولمبياد باريس في يوليوز 2024، وكذا ترتيبات أنظمة الحماية والاستباق لتنظيم كأس العالم بكل من إسبانيا والبرتغال والمغرب سنة 2030.
لم نصل بعد إلى نهاية الطريق في مشوار القضاء على الإرهاب والجريمة المنظمة. ولأن “أمن المغرب واجب وطني لا يقبل الاستثناء ولا ينبغي أن يكون موضع صراعات فارغة أو تهاون في أداء الواجب الوطني، وإنما يقتضي التنافس الإيجابي في صيانة وحدة الوطن وأمنه واستقراره”، يقول جلالة الملك، فإن تخليد الذكرى الواحدة والعشرين لأحداث 16 ماي الأليــمة سنة 2024، يجب أن يبقى علامة على يقظة المغرب وجنوحه للسلام والتسامح ومناهضته للتطرف والغلو، وعلى علو كعب رجالاته في محاربة الجريمة المنظمة وتلك العابرة للحدود.
قد يهمك ايضاً
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر