توترات فظيعة، وقطائع كبيرة، وتباعدات شتى، وارتجاجات في النفس والفكر، وتصدعات في الفهم والتأويل، وشدوه عام في كل مكان من هذه المعمورة.. تلكم سمات مطلع عام 2020، حسب خطري العياشي، الباحث المتخصص في علم النفس الاجتماعي، فالدول أوصدت مجالاتها الجوية والبحرية والبرية، وأوقفت الحركة فيما بين مدنها، وقيدتها ما بين قراها.
الناس أغلقوا منازلهم، يضيف العياشي، في مقالة مسجلا أن الكل لاذ بالعزلة في حجراتهم، مساجد مقفلة ما عدا مآذنها، وكنائس سدت أبوابها وقرعت أجراس التوجس والخوف، وشوارع فارغة، ومدارس وجامعات غير مرحبة بمرتاديها إلى إشعار آخر، وأماكن التجمعات من مقاه ونواد وملاعب خاوية إلى أن يرتفع الداء.
مستشفيات مليئة بالمرضى، ترصد المقالة، ومستعجلات لا تنام وفرق طبية لا تكاد تجد طعم الراحة، ونفوس ترحل، وأخرى تشفى، وثالثة قد تصاب في مكان من هذا العالم الفسيح في أي لحظة أو هنيهة، كل هذا إلى أن يوجد الدواء، ويرتفع البلاء، وتعود الحياة إلى طبيعتها قبل كورونا، وينقشع ظلام أرخى بظلاله على أرجاء المعمورة وأرق الإنسانية جمعاء.
هذا وذاك، بعض ملامح واقع بات يبعث على الحيرة، ويدعو إلى التأمل والبصيرة، ومن باب الرأي وأمام هذه الجائحة أحببنا أن ندلو بدلونا حول موضوع بات في هذه الأزمة يولد علامات استفهام كبرى ويطرح نفسه بإلحاح، إن عالم التمثلات وكيفية اشتغالها أو كيف يصنع الناس تمثلاتهم في واقع أزمة كوفيد 19؟ يتساءل الدكتور المغربي.
كيف تتأقلم وتتكيف الذات مع نفسها في ظل توارد الأخبار وتناذر الأخطار حول ما بات يعرف بجائحة كورونا؟ وللإجابة عن هذا السؤال يحاول العياشي الاقتراب من عالم التمثلات في زمن كورونا، وما نسج من أفكار وما يروج من معتقدات وما بني من اتجاهات، وما تعدد من تفسيرات حول جائحة الفيروس التاجي كوفيد 19.
إن موضوع كورونا بات الشغل الشاغل اليوم للناس، حيث إجراء الحجر الصحي في المنازل وما يصاحبه على مستوى الحياة الذهنية لدى الأفراد من فوضى تعتري عالم التمثلات، وما يرافقه من خطر التأويلات الذي يولده متابعة الأخبار ورصد ما ينشر من أنباء، وترقب رزنامة مستجدات المصابين وأعداد الموتى وأرقام المتعافين.
وفي هذا السياق، سنتوقف في هذه المقالة عند نقطتين محوريتين: الأولى سنرصد فيها محتوى التمثلات (المعتقدات والاتجاهات، والآراء، والإيديولوجيات)، والنقطة الثانية سنحاول استجلاء علاقة هذه التمثلات بالحالة النفسية لدى الأفراد.
يعرف العالم اليوم وفي شتى أصقاعه، وفي معظم بقاعه، تحولات كبيرة تمس الحياة الذهنية للناس، حيث أمام فيروس صغير لا يرى بالعين المجردة، انبنى عالم من التمثلات في أذهان الناس نستعرض بعضا منها على الشكل الآتي:
معتقدات حول فيروس كورونا: يعتبر الكثير من المسلمين أن كورونا جند من جنود الله، وهو رحمة للمؤمن وعذاب لغيره، وهو رسالة من الله إلى الناس أجمعين من أجل التوبة والأوبة إلى الله عز وجل. وأنه نتيجة طبيعية إلى ما وصل إليه البشر من طغيان وفساد، وظلم واستبداد.
أما المسيحية فتراه شر ولعنة، لأنه عمل بشكل مباشر أو غير مباشر يتسبب بالمعاناة أو بالموت. وفي الاتجاه نفسه يؤكد بعض رجال الدين اليهود أن كورونا علامة على ظهور المسيح وأنه انتقام من أفعال بعض البشر الشاذة، ويلاحظ أن القاسم المشترك بين هذه التأويلات هو أنها كلها تستند في منطلقاتها إلى أدلة نقلية من القرآن الكريم والسنة النبوية أو من التراث الديني المسيحي واليهودي.
اتجاهات الناس حول فيروس كورونا: تتباين اتجاهات الناس حول فيروس كورونا، إلا أننا يمكن أن نرصد قطبين تتأرجح بينهما اتجاهات الناس، حيث يشمل الاتجاه الاستعدادات العاطفية والمعرفية والسلوكية، فنجد أن فئة من الناس تعتبره فرصة إيجابية للجلوس مع الذات ومراجعتها وتقييم أفعالها وسلوكاتها وفرصة أيضا لكوكب الأرض حيث تعافى ثقب الأوزون بنسبة كبيرة، وقلت الانبعاثات الغازية الملوثة التي مصدرها المعامل والسيارات، وانتعشت حياة الحيوانات وقل الضجيج وتنفس الناس الصعداء من متطلبات الحياة وضغط الاستهلاك.
الفئة الأخرى التي ترى فيه عاملا سلبيا حيث الحجر الصحي وما يرافقه من حياة روتينية يملأها العنف والملل، ويسودها التنافر والتباعد، ويخيم عليها الجفاء العاطفي ويتسرب إليها الاحباط والضغط وانتظار المجهول، وترقب كل ما يدعو إلى القلق والرجفة، ومتابعة معاناة المصابين ومأساة المفجوعين في قريب أو صديق، وبالمجمل اتجاه يغلب عليه الشك وعدم اليقين.
إيديولوجيات في تفسير فيروس كورونا: ترصد في هذا الصدد مجموعة من الخلفيات الفكرية التي ترجع انتشار فيروس كورونا إلى نظرية المؤامرة لغاية في نفوس تريد قضاءها، أو حرب بيولوجية بغية بناء نظام عالمي جديد تسقط فيه دول وإمبراطوريات وتسود وتبرز فيه أخرى، أو أن السبب يرجع إلى إطلاق الجيل الخامس (G5) من الأنترنيت الذي تنبعث منه أمواج كهرومغناطيسية تتسبب في أعراض تشبه أعراض الأنفلونزا.
أفكار أخرى ترجعه إلى أنه سلاح بيولوجي تُسَرع جهة ما انتشاره، وأن لقاحه موجود لكن لم يحن الوقت المناسب لكي يكون متاحا للجميع، وإيديولوجيا أخرى عكازها الحرب الكلامية والاقتصادية والمعلوماتية ما بين الصين وأمريكا حول مصدره وكيفية انتشاره.
وبالمجمل، فإن شح المعلومات وندرة التفسيرات الدقيقة لهذا الفيروس تولدت إيديولوجيات تتغذى من معارف جاهزة أحيانا (اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو طبية...)، وأحيانا أخرى تطبعها صبغة علمية، وحينا آخر يكون مصدرها أقرب ما يطلق عليها أنها أفكار ميتافيزيقية.
وسواء كان كورونا (كوفيد 19) قدرا إلاهيا أو مصدره حيوانا أو منبعه سلاحا بيولوجيا، يقول المتحدث، فإن الجميع يتفق على أنه جائحة جعلت العالم يدق ناقوس الخطر وينصب اهتمامه على الصحة العامة التي هي أساس جميع الخيرات بلا منازع في هذه الحياة.
جائحة جعلت رئيس الوزراء الإيطالي (حسب ما تم تداوله في الشبكات الاجتماعية) يقر بالعجز ويصرح بأنه “انتهت حلول الأرض والأمر متروك للسماء”، ودفعت الرئيس الأمريكي ترامب إلى إعلان الخامس عشر 15 مارس الماضي اليوم الوطني للصلاة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ غير أن هناك من قلل من شأنها واعتبرها مجرد إنفلونزا بسيطة كما هو الشأن بالنسبة إلى الرئيس البرازيلي او الرئيس المكسيكي الذي صرح بأنه "إذا كنت قادرا ولديك الوسائل، استمر في إخراج عائلتك لتناول الطعام". كما استغلها آخرون للتشفي وصب جام غيظهم على "الأعداء"، ومثال ذلك تعليق الرئيس الزيمبابوي "الفيروس هو عمل من الله لمعاقبة الدول التي فرضت عقوبات علينا".
إذن، فوضى التأويلات وشح المعلومات هي التي جعلت هذا التشتت الكبير في الآراء وهذا التباعد الصارخ في الاتجاهات، وذلك التباين في الإيديولوجيات، الأمر الذي بدوره أثر على الحياة النفسية للناس في ظل أزمة كوفيد 19، حيث إن الحجر الصحي رافقته ظواهر نفسية ومشكلات سلوكية كبيرة، بسبب الانتقال إلى السجن الاختياري في المنزل والتباعد الاجتماعي والعاطفي غير المعتاد، والتدابير الاستثنائية وواقع الحياة الجديدة.
إلى جانب متابعة أخبار العالم والأحداث عن طريق عالم الشاشة والتواصل عبر العوالم الافتراضية، كل هذا كما أشرنا ولد عالما من التمثلات يجد فيه الفرد نفسه تائها ومسلما مصيره للمجهول، تمثلات قد تأخذ منحى سلبيا نتيجة فشل الفرد في فهم وضبط بيئته الاجتماعية، وذلك بسبب المعلومات المنتشرة حول فيروس كوفيد19 وأعراضه غير دقيقة الوصف، وظروف وطرق انتقاله التي لا تزال في خانة التدقيق، هذا فضلا عن تركيبته الجينية التي تظل في طور البحث والاكتشاف، ولقاحه غير المتاح إلى الآن؛ لكن انتشاره في استمرار والخوف والفزع والذعر من الإصابة به قائم في كل مكان، مما يجعل الإنسان غير قادر على استيعاب هذا الواقع الجديد، لأن نسق التمثلات السوسيوثقافية حول المرض والطب وعجز التكنولوجيا في مرحلة التغير والتحول.
وفي هكذا ظروف، خاصة في تواتر الأحداث الصادمة، وتزايد المنعطفات المربكة، يجد الإنسان نفسه عرضة للأمراض النفسية التي قد لا يرجى برؤها حتى بعد انجلاء معركة وحرب العالم ضد الفيروس التاجي كوفيد 19. فالطبيب يحتاج إلى الدعم النفسي، وكذلك المريض والمعافى، والأمر أيضا يسري على الذي يترقب في الحجر الصحي سواء كان كبيرا أو صغيرا، الشيء الذي يستدعي بإلحاح من الدول تشجيع البحوث النفسية بالتوازي مع الجهود العلمية، وذلك من أجل فهم حال النفس الإنسانية في زمن الارتجاجات والتنبؤ بمآل ترسباتها واقتراح الحلول والتوصيات من أجل التعايش مع الذات والتصالح الداخلي في زمن اللايقين، واكتساب مناعة سوسيومعرفية من أجل الحفاظ على التوازن الفكري والنفسي والعاطفي والاجتماعي، بهدف تجاوز الأزمات والحفاظ على هوية موحدة للذات.
قد يهمك أيضَا :
خبير مغربي يُؤكِّد على أن نشر فيديوهات العنف الجسدي والجنسي "جريمة خطيرة"
خبير مغربي يفوز بالميدالية الذهبية لـ"الفاو" لجهوده في تطوير زراعة النخيل دوليًا
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر