الرباط -المغرب اليوم
أوضح الكاتب والباحث السيكولوجي الغالي أحرشاو أن قضية إصلاح المدرسة كانت “تشكل واحدة من التحديات التي تواجه مغرب اليوم”، مشيرا إلى أن “كثيرا من الوعود التي قُدّمت باسم هذا الإصلاح بقيت في أغلبها فضفاضة نتيجة لمظاهر التراجع والإخفاق التي تخترق هذه المؤسسة بالطول والعرض”.
وأضاف أحرشاو، في مقال له بعنوان “أي لدور علم النفس في المنظومة التربوية بالمغرب؟”، أن “الحاجة إلى مقاربة نفسية جديدة للتعلم والاكتساب أضحت من أولويات كل إصلاح تعليمي مرتقب”، موضحا أن “الإشكال الجوهري الذي يستوجب الحسم من داخل علاقة علم النفس بالمدرسة، هو أن الخطة اللازمة لتكوين وإعداد مواطن مغربي متعلم وكفء قادر على التفكير والابتكار والنقد وحل المشاكل، لا تبدو حاضرة بالقدر الكافي في مقومات المدرسة السائدة في المغرب حتى الآن”.
وختم الكاتب مقاله بالتأكيد على أن “المدرسة التي يجب أن نتطلع إليها في المغرب هي تلك التي ترتقي بمعارف الطفل/ المتعلم عبر توجيهه دون ترهيبه، وتشجيعه دون إحباطه، وتحفيزه دون تكبيله، ثم توعيْتِه دون تحنيطه”، مضيفا أنها “المدرسة التي تبني وتُكوِّن المتعلم/ المواطن الكفء الذكي الماهر القادر على تصريف المعارف العلمية المدرسية إلى معارف مهارية تقتضيها متطلبات المجتمع في الديمقراطية والتنمية، وتستلزمها تحديات العالم المعاصر في ولوج مجتمع المعرفة، وفي مواجهة مشاكل الحياة عامة”.
الأكيد أن الاهتمام بعلم النفس في علاقته بالمدرسة، يجد مبرره في الاقتناع بأن هذا العلم إن أراد فعلا أن يؤدي دوره التطبيقي في المغرب، فلا مناص له من الانفتاح على قطاعات المجتمع الحيوية، وفي مقدمتها قطاع التربية والتعليم كفضاء مجتمعي يَعُجُّ بالمشاكل التي تستوجب التدخل والتقويم والتوجيه. فإذا كانت قضية إصلاح المدرسة تشكل واحدة من التحديات التي تواجه مغرب اليوم، فالراجح أن كثيرا من الوعود التي قُدّمت باسم هذا الإصلاح، مثلما سبق التأكيد على ذلك في مقالات نشرتها هسبريس باسمنا، أو كما ورد ذلك مؤخرا في تقرير النموذج التنموي الجديد (2021)، بقيت في أغلبها فضفاضة نتيجة لمظاهر التراجع والإخفاق التي تخترق هذه المؤسسة بالطول والعرض. ونعتقد أن واقعا من هذا القبيل يشي بحاجتنا إلى مدرسة في حلة جديدة، تؤسّس رؤيتنا إلى الذّات والآخر والمستقبل وفق أهداف يؤطّرها مناخ اجتماعي تسوده مبادئ الديمقراطية والتنمية والانفتاح، ورهانات يوجهها منطق استبدال أساليب النقل والتّبعيّة والاستهلاك بأساليب الإبداع والاستقلالية والإنتاج.
تفصيلا لمقومات وغايات هذا الطرح، سنحاول من داخل علم النفس التنصيص على أهم مشاكل المدرسة المغربية، مع تقديم أبرز معالم خطة إقلاعها التربوي، من خلال الإقرار بأن كلا من علم نفس التعلم وعلم التدريس، اللذين عاشا خلال العقود الستة الأولى من القرن 20 تحت سيطرة سلوكية واطسن وبنائية بياجي، وهما من الاتجاهات النفسية التي تراجع صيتها وقَلَّ بريقها، عرفا منذ أوائل ستينيات القرن الماضي تحولات هائلة بفعل ظهور علم النفس المعرفي كاتجاه جديد. فقد كان لتغلغل هذا الاتجاه في قارة علم النفس العالمية ولكل ما رافق ذلك من اكتشافات علمية، وقع كبير على فهمنا للإنسان وأساليب التعامل معه كنظام نشيط لمعالجة المعلومات، يتوفر منذ طفولته الصغرى على كفاءات معرفية ومطامعرفية مبكرة، يتعلم المعارف ويُبَنْيِنُهَا باستمرار، ويواجه المشاكل بانتظام. فضلا عن التسليم بإمكانية إيجاد حلول فعلية لمختلف مشاكل العجز والتعثر والفشل الدراسي من خلال إدراج ممارسات للتقويم النفسي والتوجيه المدرسي في مؤسسات التعليم، يتكفل بها أخصائيون في علوم النفس والتربية والاجتماع والأعصاب.
لذا منذ ذلك الحين أصبح العمل بالمعرفة المطابقة لواقع علم النفس المعاصر شرطا ضروريا لتصحيح وتجويد وظيفة المدرسة المأمولة في مختلف بلدان المعمور، بما فيها المغرب. فعلى عكس ما ذهبت إليه أغلب المقاربات النفسية ونماذجها البيداغوجية الكلاسيكية من تمييز جذري بين التعلم والنمو كسيرورتين متباينتين، فإن المقاربة المعرفية ومنظومتها البيداغوجية التفاعلية ستجمع بينهما في سيرورة واحدة وموحدة لاكتساب المعارف. فهي لا تشكل نظرية خاصة بالتعلم كما تجلى ذلك في سلوكية سكينر، ولا نظرية خاصة بالنمو كما جاء ذلك في بنائية بياجي، بل هي نظرية عامة للاشتغال المعرفي تتبنى موقف التفاعل بين النمو والتعلم كسيرورتين ذهنيتين تتعلقان بمساهمة الطفل الفعالة في بناء معارفه وتمثلاته ونظرياته في تكامل تام بين مؤهلاته الفطرية التكوينية وكفاءاته الذاتية المعرفية وسياقاته الاجتماعية البيئية. وهذه واقعة تؤكد أن سيرورة الاكتساب واستراتيجياتها الأساسية لا تحكمها فقط المعارف الخاصة بميدان محدد (التعلم)، ولا المعارف العامة والقدرات الذهنية (النمو)، ولا مظاهر التحول من الأولى إلى الثانية أو العكس، بل إن المعارف والمطامعارف وآلياتها في المراقبة والتضبيط تلعب دورا هاما في هذا المضمار. فلا يكفي أن يتمتع الطفل بكفاءات معرفية وقدرات ذهنية عالية لكي ينجح في تحقيق التعلم وحل المشاكل بسهولة وفعالية، بل المفروض أن يتوفق أيضا في التوظيف الجيد والناجح لتلك الكفاءات، بناء على ما يمتلكه من ذكاءات ومعارف عامة تتراوح بين ما هو معرفي وما هو وجداني وما هو اجتماعي وغيرها.
إذن، على أساس أن سيرورة الاكتساب عبارة عن عملية لتحويل المعارف وتطويرها عبر أنشطة التمدرس والتكوين، حيث يتم الانتقال بها من مستواها الأولي الساذج إلى مستواها العلمي الخبير، من المؤكد أن الدور الجديد للمدرسة أصبح يتلخص في تحقيق هذا الانتقال بمعارف الطفل/ المتعلم من شكلها الطبيعي المحسوس إلى شكلها العلمي المجرد. وهذه مسألة لها ما يدعمها من نتائج وخلاصات عديد من التجارب والدراسات، إذ اتضح أن الطفل/ المتعلم، وعلى عكس ما كان يعتقد، لا يأتي إلى المدرسة صفحة بيضاء، بل يجيء إليها وهو محمل برصيد معين من المعارف الأولية والنظريات الساذجة التي تتحول بفعل التمدرس إلى معارف ونظريات علمية أكثر بَنْيَنَةً وأجود تنظيما.
بناء على ما تقدم، يبدو أن الحاجة إلى مقاربة نفسية جديدة للتعلم والاكتساب أضحت من أولويات كل إصلاح تعليمي مرتقب. فالإشكال الجوهري، الذي يستوجب الحسم من داخل علاقة علم النفس بالمدرسة، هو أن الخطة اللازمة لتكوين وإعداد مواطن مغربي متعلم وكفء، قادر على التفكير والابتكار والنقد وحل المشاكل، لا تبدو حاضرة بالقدر الكافي في مقومات المدرسة السائدة حتى الآن. كما لا نجد لها الصدى المرغوب في المرجعيات النفسية التي تنبني عليها لأنها مرجعيات استنفدت أغلب مبررات وجودها واعتمادها. لهذا نحن متيقنون بأن أي إصلاح للمدرسة المغربية في اتجاه تحقيق الأفضل في ميدان التعليم والتكوين لا يمكن أن يتحقق إلا في إطار إعادة النظر في كثير من المحددات، ضمنها المرجعيات النفسية والتربوية المؤطرة لبرامجها ومناهجها وطرقها في التدريس والتكوين، عملا بفكرة تجويدها وملاءمتها لكي تطابق الأهداف والغايات المتوخاة.
على أي، فالإشكال المطروح يكمن أساسا في تحديد الكيفية الملائمة لتمكين المتمدرس المغربي من اكتساب المعارف وتحصيل المفاهيم وامتلاك النظريات وقواعد التفكير. وهذا إشكال يحيل على أطراف كثيرة، أهمها: علم النفس وكل ما يوفره من نماذج وحقائق حول سيرورات التعلم واستراتيجيات الاكتساب، ثم التربية وكل ما تسطره من برامج ومناهج وطرائق للتعليم والتكوين والتدريس. وبين هذين الطرفين يوجد المتعلم، الذي يشكل الحلقة الأساسية لكونه لم يعد كما كان ينعت في كثير من السيكولوجيات السابقة بالصفحة البيضاء أو الذهن الفارغ أو العنصر السلبي، بل أضحى يوصف في علم النفس الحديث ذي التوجه المعرفي بالعنصر الكفء الفاعل الماهر الذي يفكر وينظّر ويحكم وينتقد ويساهم بنشاط في كل ما يتعلمه منذ سن مبكرة. فهذا المتعلم الذي صار ينعت في الوقت نفسه بِالْعَالِمِ المتعلم وبالمتعلم الْعَالِمِ، لا يأتي إلى المدرسة وهو فارغ الذهن أو خاوي الوفاض، بل يجيء إليها وهو مُحَمَّل بمعارف ونظريات تسمى بالساذجة، يتوجب على هذه الأخيرة، ببرامجها المتنوعة ومناهجها المختلفة، تصويبها وتطويرها وتجويدها للانتقال بها من طابعها الأولي الساذج إلى طابعها النهائي العلمي. وبهذا المعنى، فالمدرسة التي يجب أن نتطلع إليها في المغرب هي تلك التي ترتقي بمعارف الطفل/ المتعلم عبر توجيهه دون ترهيبه، وتشجيعه دون إحباطه، وتحفيزه دون تكبيله، ثم توعيْتِه دون تحنيطه. إنها ببساطة المدرسة التي تبني وتُكوِّن المتعلم/ المواطن الكفء الذكي الماهر القادر على تصريف المعارف العلمية المدرسية إلى معارف مهارية (مهنية واجتماعية ووجودية)، تقتضيها متطلبات المجتمع في الديمقراطية والتنمية، وتستلزمها تحديات العالم المعاصر في ولوج مجتمع المعرفة، وفي مواجهة مشاكل الحياة عامة.
قـــد يهمــــــــك أيضــــــاُ :
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر