كان من الطبيعي بالنسبة لوكالة المغرب العربي للأنباء (لاماب) وهي تحتفل بمرور ستين سنة على تأسيسها، أن تكرم أو بالأحرى أن تستحضر أسماء بصمت تاريخها بكل تفاصيله، ومن بينهم مديرها العام الأسبق المرحوم عبد الجليل فنجيرو الذي يعد، بعد المؤسس المرحوم المهدي بنونة، الاسم الذي ارتبط بشكل كبير بعلامة "ومع".
ففي إطار ملتقيات تنظمها بمناسبة الذكرى الستين لتأسيسها، استضافت الوكالة، الثلاثاء، لقاء ضم مجموعة من الصحافيين الذين عاصروا الراحل داخل وخارج الوكالة، وشخصيات من آفاق متنوعة، إضافة لأسرة المحتفى به.
قدمت خلال اللقاء شهادات رسمت صورة مدير عام وصحافي طبع ذاكرة كل من تعاملوا معه مباشرة أو عبر منتوج الوكالة، وكذا صورة مهني كانت له قدرة على ضبط التوازنات، وخصوصا بين شروط مرحلة سياسية ومتطلبات منتوج إعلامي يرقى في حدود الممكن والمتاح إلى أقصى درجات الجودة.
فالمرحوم عبد الجليل فنجيرو، الذي تولى منصب المدير العام للوكالة من 1974 إلى 1999، لم يكن يتردد في "تحفيز المبادرات الفردية وتشجيع الكفاءات"، كما قال الصحافي السابق بوكالة المغرب العربي للأنباء علي بنستيتو، مستشهدا في هذا الإطار بإحدى المهمات الصحافية التي أنجزها بناء على اقتراحه وبتشجيع ودعم كامل من الراحل فنجيرو.
لم يتردد علي بن ستيتو في أن يطلق على الراحل لقب "المعلم الأول" بالنسبة للصحافيين في السبعينيات والثمانينيات، وحتى في التسعينيات من القرن الماضي.
وبالنسبة لبن ستيتو الذي عاصر عبد الجليل فنجيرو طيلة تواجده على رأس الوكالة، فإن جيله من الصحافيين تعلم من الراحل بالخصوص معنى "الكفاءة المهنية والنزاهة الفكرية والتحلي بالمسؤولية"، وهي قيم جميلة حولت الوكالة إلى "أسرتنا الثانية"، كما جاء في الشهادة.
لكن المرحوم عبد الجليل فنجيرو كان بالفعل معلما في حجرة درس حقيقية، وهو ما كشف عنه أحد الصحافيين الرواد في وكالة المغرب العربي للأنباء في شهادته بالمناسبة. فقد تعلم الصحافي إدريس أبو الشمائل، قبل أن يلتحق بـ"ومع"، صحافة الوكالة على يد عبد الجليل فنجيرو في معهد تكوين الصحافيين.
وبهذا الخصوص، يقول إدريس أبو الشمائل إن الجديد الذي أتى به المرحوم عبد الجليل فنجيرو في تدريسه لصحافة الوكالة كان هو "توطين الخبر"، وهو ما لم يكن الصحافيون الطلبة يجدونه في دروس أساتذة آخرين يدرسون المادة نفسها لأنهم ببساطة كانوا في أغلبهم أجانب.
ومن خلال شهادة أبو الشمائل، يبدو أن نشرة وكالة المغرب العربي للأنباء كانت تشغل الجزء الأكبر من حياة الراحل فنجيرو الذي تميز بـ"عصامية مثالية" وقدرة خارقة على العمل والعطاء، فقد كان يتابع كل أقسام التحرير وإنتاجات كل الصحافيين ويعرف أسماءهم، وكان يحرص بالخصوص على أن لا يحرج أي أحد من أعضاء هيئة التحرير بملاحظة أو مؤاخذة أمام الآخرين.
كان فنجيرو، حسب أبو الشمائل، يغلب جانب الزمالة على جانب المسؤولية، حيث كان يشتغل جنبا إلى جنب مع فريق الصحافيين، مع الاحتفاظ بدور "منسق المجموعة" ليس أكثر. وفي هذا الصدد، كان أشد ما يكرهه المدير العام الأسبق لوكالة المغرب العربي للأنباء، كما جاء في الشهادة، هو أن يبث صحافي خبرا ما دون مراجعة فقط لأن عبد الجليل فنجيرو "أشر عليه" وطلب بثه.
على الواجهة المهنية البحتة، كانت أهم معارك الراحل عبد الجليل فنجيرو تتلخص، حسب شهادة الصحافي السابق بوكالة المغرب العربي للأنباء نور الدين عامر، الذي ظل قريبا من الراحل حتى بعد مغادرته للوكالة وللعمل الدبلوماسي، في محاربة "الصورة النمطية" التي كانت سائدة لدى بعض الفاعلين والسياسيين حول الوكالة وطبيعة عملها.
على الصعيد المهني أيضا، يؤكد نور الدين عامر أن الراحل نفسه لم يكن راضيا على أن يتحول الصحافي إلى "كاتب ضبط" يدبج عددا كبيرا من القصاصات عن نشاط وزاري لا يستحق أكثر من قصاصة أو قصاصتين، مؤكدا أن فنجيرو كان في الوقت ذاته واعيا كل الوعي بطبيعة الوضع العام بالبلاد.
وحسب نور الدين عامر، فإن عبد الجليل فنجيرو سير الوكالة بمنطق "خطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الوراء إن لزم الأمر"، فقد كان المدير العام الأسبق للوكالة يدعو الصحافيين إلى استغلال أي هامش متاح لإنجاز مقالات عن مواضيع اجتماعية أو بورتريهات لتقديم فكرة ما يصعب الحديث عنها بشكل مباشر.
ووفق الشهادة نفسها، فإن الراحل فنجيرو الذي نجح في الانتقال بالوكالة من مقر متواضع إلى مقر فاخر في أحد أهم شوارع الرباط، ظل يعبر عن أسفه لعدم القدرة على تحقيق حلم الانتقال إلى إعلام عمومي يكون بمثابة السلطة الرابعة التي تساهم في بناء الوطن والارتقاء به.
وبخصوص هذا الجانب من المسار المهني، وخصوصا الإكراهات التي كانت تفرضها المرحلة السياسية التي عمل إبانها الراحل، توقف المدير العام لوكالة المغرب العربي للأنباء، خليل الهاشمي الإدريسي، عند ما وصفه بـ"بيداغوجيا التعامل مع السلطة" التي تميز بها المرحوم عبد الجليل فنجيرو في فترة كان مطلوبا من الوكالة القيام بمهمتها في مواجهة قوى لم تكن تفهم دائما طبيعة العمل الصحافي وطرق اشتغال الإعلام.
لقد كان رهان عبد الجليل فنجيرو، يؤكد الهاشمي الإدريسي، باعتباره كان آنذاك أحد المتعاملين مع منتوج الوكالة، هو ضمان استمرار وتواجد المؤسسة في ظل مرحلة سياسية لم يكن فيها المشروع السياسي واضحا بما يكفي.
وكمدير عام لوكالة المغرب العربي للأنباء حاليا، يؤكد خليل الهاشمي الإدريسي أنه يقف على بصمة عبد الجليل فنجيرو في جوانب مختلفة من عمل الوكالة، ليس أقلها في مكتب الراحل الذي يبدو أنه كان "فضاء للعيش" باعتبار أن الراحل لم يكن يغادره كثيرا لأنه لم تكن هناك وسائل اتصال متطورة تمكن من متابعة العمل من خارج مبنى المؤسسة.
وأكد المدير العام لوكالة المغرب العربي للأنباء أن إطلالة على أرشيف الوكالة، الذي تمت رقمنته مؤخرا، تمكن من الوقوف على السقف العالي نسبيا للحرية التي تمت بها معالجة مواضيع كثيرة، بما في ذلك تغطية عدد من الندوات الصحافية لوزراء ومسؤولين بارزين.
على المستوى الإنساني، أكد الهاشمي الإدريسي أنه لم يكن من السهل على رجل مثل عبد الجليل فنجيرو أن يقبل بتنازلات في ما يتعلق بصورته لدى العموم، لكن الراحل كان يفعل ذلك في أحيان كثيرة لأنه كان "رجل دولة أيضا" يقدر المصلحة العامة.
وقد شكل لقاء "عبد الجليل فنجيرو .. ملحمة إعلامية"، الذي يندرج ضمن سلسلة الملتقيات التي تنظمها وكالة المغرب العربي للأنباء في إطار الاحتفال بالذكرى الستين لتأسيسها، مناسبة لاستحضار مسار الراحل الذي طبع ببصمته الخاصة المشهد الإعلامي الوطني.
قد يهمك ايضا
الفارس الإيطالي غوديانو يفوز بجائزة وكالة المغرب العربي للأنباء
وفاة بندريس السعيد بعد معاناة مع مرض عضال لم ينفع معه علاج
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر