أوضح المفكر والباحث السيكولوجي المغربي الغالي أحرشاو أن “العنف المدرسي ، الذي يشكل ظاهرة كونية، كان ولا يزال يحظى باهتمام المربين والباحثين والآباء وأصحاب القرار”، مضيفا أن “هذه الظاهرة لا تمثل شيئا غريبا عند المغاربة، حيث إن أغلبنا لاحظ أو عايش أو مارس خلال محطات مساره الدراسي ومشواره المهني أحداث شغب وحالات عنف”، قبل أن يستدرك بأن هذه الظاهرة “عرفت في المغرب بعض الانتشار والشهرة خلال السنوات الأخيرة”.
وأضاف أحرشاو أنه “في انتظار ما ستفرزه فلسفة النموذج التنموي المغربي الجديد من إجراءات تطبيقية لتحقيق الإقلاع التربوي المأمول في مجالات تجويد التعلمات، وترسيخ الثقة في المؤسسة التعليمية ودورها في الارتقاء الاجتماعي، سنعمل من داخل السيكولوجيا، ولو بصورة مؤقتة، على استنطاق وتشخيص واقع ومآل العنف المدرسي بالمغرب”.
وقارب الباحث السيكولوجي الموضوع، في مقال له بعنوان “بعض مظاهر سيكولوجية العنف المدرسي بالمغرب”، من خلال ثلاثة محاور، أولها يهم “العوامل والانعكاسات”، وثانيها يخص “نماذج المقاربة والتفسير”، وثالثها يتعلق بـ”أساليب الوقاية والعلاج”.
وهذا نص المقال:
الأكيد أن العنف المدرسي، الذي يشكل ظاهرة كونية، كان ولا يزال يحظى باهتمام المربين والباحثين والآباء وأصحاب القرار. فمثلما هو عليه الأمر في معظم دول العالم، فإن هذه الظاهرة لا تمثل شيئا غريبا عند المغاربة، حيث إن أغلبنا لاحظ أوعايش أو مارس خلال محطات مساره الدراسي ومشواره المهني أحداث شغب وحالات عنف. لكن الجديد هو أن هذه الظاهرة عرفت في المغرب بعض الانتشار والشهرة خلال السنوات الأخيرة لاعتبارات عديدة أهمها:
– إقرار جهات رسمية وغير رسمية بانتشارها في المكان وتطورها في الزمان، نتيجة اتساع قاعدة التمدرس وظهور مشاكل وممارسات مشينة داخل الفضاء المدرسي وفي محيطه، مع إصرار بعض وسائل الإعلام على التضخيم من بعض أحداثها المعزولة باعتماد نوع من الخطاب التهويلي، الذي تغذيه مشاكل اقتصادية واجتماعية وتربوية للأحياء الهامشية.
– الاقتناع بأن العنف لا يشكل مفهوما فحسب، بل هو موضوع ثقافي يتغير حسب البلد والثقافة والمدرسة والتلميذ والمدرس والإدارة، وتحكمه مرجعيات ذاتية وموضوعية تصب كلها في ربطه بمختلف الأفعال والممارسات المؤدية إلى أضرار جسدية (ضرب، جرح، اعتداء…)، وإلى معاناة نفسية (احتقار، إهمال، إقصاء…) لأحد الأطراف المكونة للفضاء المدرسي.
– صعوبة تقديم صورة تقريبية حول حجم العنف المدرسي والتنبؤ بمستقبله في المغرب، بفعل تواضع البحث الميداني بهذا الخصوص، ومحدودية المعطيات الإحصائية المتوفرة، وبالتالي يبقى القلق الذي يراود المغاربة إزاء هذه الظاهرة مبنيا بالأساس على شعور حدسي لا تدعمه نتائج وخلاصات البحث العلمي الدقيق.
إذن، في انتظار ما ستفرزه فلسفة النموذج التنموي الجديد من إجراءات تطبيقية لتحقيق الإقلاع التربوي المأمول في مجالات تجويد التعلمات، وترسيخ الثقة في المؤسسة التعليمية، ودورها في الارتقاء الاجتماعي، على حد ما يؤكده أعضاء لجنة هذا النموذج في تقريرهم الأخير، سنعمل من داخل السيكولوجيا، ولو بصورة مؤقتة، على استنطاق وتشخيص واقع ومآل العنف المدرسي بالمغرب، من خلال التفصيل في محاور رئيسية ثلاثة:
أولها يهم العوامل والانعكاسات، حيث إن العنف المدرسي، الذي لا يجب شرطه بأي حتمية مطلقة تهم الجنس (ذكر- أنثى)، أو السن (طفل- راشد- كهل)، أو اللون (أبيض- أسود)، أو الوسط الاجتماعي (فقير- غني)، يشكل حصيلة أسباب متنوعة تحكمها سياقات متعددة تتراوح بين ما هو عائلي بمشاكله المختلفة، وما هو مدرسي بأطرافه المتعددة، وما هو مجتمعي بإكراهاته وتحدياته، ثم ما هو إعلامي ببرامجه ووسائله المتنوعة.
وثانيها يخص نماذج المقاربة والتفسير؛ إذ أن مواجهة العنف المدرسي في جذوره، وليس في أعراضه، استدعى لحد الآن اعتماد ثلاثة نماذج أساسية للتفسير: الأول تكاملي يجمع بين الأسباب السوسيولوجية الموضوعية العامة والأسباب السيكولوجية الذاتية الخاصة. والثاني اجتماعي يركز على طبيعة الرابط الاجتماعي والعلاقة التفاعلية بين الشخص ومؤسستي الأسرة والمدرسة وغيرهما. والثالث بيئي يعتبر المدرسة فضاء طبيعيا لظهور سلوكات عنيفة لدى بعض التلاميذ المراهقين بالخصوص.
أما المحور الثالث والأخير فيتعلق بأساليب الوقاية والعلاج، حيث يستدعي الأمر هنا، عملا بالقول المأثور “الوقاية خير من العلاج”، التمييز بين ثلاثة أبعاد أساسية:
الأول يهم لحظة ظهور المشكل، وكل ما يتطلبه ذلك من معلومات حول التوقيت الملائم للتدخل. وتتحدد استراتيجياته في العناصر التالية:
– ممارسة نوع من الوقاية العامة عبر تحسين الاشتغال المعرفي والاجتماعي لجميع التلاميذ، بإشراكهم في اختيار أنشطة التعلم وتدبيرها؛
– ممارسة نوع من الوقاية العلاجية عبر مواكبة التلاميذ أصحاب الصعوبات، وحَثّهم على تأمل وإعادة بناء أفعالهم وسلوكياتهم العنيفة المرتقبة؛
– تجويد الاشتغال العام للمدرسة وثقافتها باعتماد نظام داخلي يلتزم به الجميع، وتوفير فضاء مدرسي ملائم تحكمه قيم الحوار والتحفيز والتفاهم؛
الثاني يتعلق بتحديد محور التدخل الوقائي العام، الذي يمكنه أن يتجلى في شخص ما بهدف تقويمه، أو في فضاء المدرسة بهدف تصحيحه، أو في الأسرة كسياق اجتماعي ينشأ فيه هذا الشخص. وتتلخص أبرز خططه في الآتي:
– تقوية القانون الداخلي للمؤسسة، مع اعتماد عقوبات تتدرج حسب مستوى الشغب ودرجة العنف؛
– اعتماد فرق تربوية منتظمة من مهامها تجويد ظروف عمل الأساتذة، وتحسيسهم بمسؤوليتهم في تدبير القسم، والتواصل الفعال مع المتعلمين بعيدا عن المحاباة والمفاضلة والتمييز؛
– اعتماد أدوات ووسائل لمراقبة الفضاء المدرسي وحماية حرمته من كل تشويش أو استهتار أو شغب؛
الثالث يخص نجاعة التدخل الوقائي ومحتواه. ويتعلق الأمر بتحديد نوع التدخل الملائم لتفادي احتمالات حدوث مشاكل العنف، عبر اتباع خطط ووسائل من قبيل:
– التدخل المباشر في الفضاء المدرسي بهدف تحسيس مكوناته بخطورة العنف، مع اعتماد فريق تربوي لتدبيره، وبناء علاقات حميمية تقوّي لدى مختلف أطرافه شعور الانتماء والتعلق بالمدرسة
– استثارة السلوك الإيجابي لدى التلاميذ من خلال إشراكهم في تدبير الفضاء المدرسي، والحفاظ على أمنه، واقتراح المشاريع الفردية، فضلا عن تحفيز الأسرة على الانفتاح على المدرسة.
تبعا لهذا الاستنطاق السريع والتشخيص المقتضب من داخل السيكولوجيا لواقع ومآل العنف المدرسي بالمغرب، نرى ضرورة الختم بثلاث خلاصات أساسية:
– إن التعامل الجيد مع العنف المدرسي يستوجب الاحتكام بواقع هذه الظاهرة ومآلها إلى منطق البحث العلمي الذي يقربنا من وصفها وتفسيرها والتدخل لعلاجها.
– إن الاستراتيجية الوقائية الواجب اعتمادها هي التي تتوجه إلى مشكل العنف المدرسي في جذوره وليس في أعراضه.
– ضرورة إنشاء قاعدة للمعطيات حول العنف المدرسي من خلال إنجاز بحوث ميدانية تشمل مختلف أكاديميات المملكة، وتؤطرها مرجعيات نفسية واجتماعية وتربوية.
قد يهمك ايضاً :
المغرب أول دولة عربية تحصل على صفة "عضو شريك" لدى منظمة وزراء التربية لجنوب شرق آسيا
المغرب يستضيف المؤتمر الـ59 لوزراء التربية لدول وحكومات الفرانكوفونية في 2020
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر