بعنوان "حَجر"، يستكشف المخرج المغربي محمد مفتكر في فيلم قصير "ولادة جديدة" قد تتمخّض عن العيش الإجباري في قلب البيوت في زمن "كورونا".
بمشاهِد من داخل المنزل تنظُرُ ذاك الخارج الممنوع، المرغوب المتواري خلف السّتائر، وزجاج النّوافذ، والشبابيك الخشبية، ومشاهد تُبدِي مظاهر لم يألفها المغاربة فتجاوِرُ الكمّامات الملابس على الأسلاك في الأسطح، وأخرى تُسمع فيها تعابير لم تكن من قبل جزءا من معجمنا الجمعيّ.
وترافق هذا الفيلم القصير تأمّلات مسموعة كتبها مفتكر المأمور بالكتابة، ولو اختار إجابةَ الأمرِ بصدح يَصدُق الذّاتَ ويتماهَى، بتصرّف، مع الجوابِ النبويِّ المُلهَم في لحظة فارقة: ما أنا بكاتب.
ويكتب مفتكر عن الطفل الكامن فينا الذي كنّا نراه كلّ يوم، وعن الطّفل الذي كنّاه، وعن ذاك الطّفل الذي لم يخرج يوما من أصلابنا، وعن عزلتنا، وعزلة الآخرين، وعزلة الإنسان فينا وضعفه، وثقل الذّكريات.
كما يكتب مفتكر عن الرّجل الذي لم نبقَه بعدما قُتِلَ الطّفل فينا، وعن حركاته وأنفاسه، ويكتب عن ذاك الطّفل السجين، الذي كان يعشَق التّحليق.
وتجاور تأمّلات محمد مفتكر أيّامنا التي لا نستطيع التّمييز بينها، وحريّتنا التي لم تعد تتجاوز بضع عشرات من الأمتار المربّعة، وأصوات ترافقنا في حجرنا الإجباري، فمن صرير استكمال إعداد القهوة، إلى الأذان، مرورا بالإذاعات وهي تُخبِر وتُخبِرُ وتُخبِر بمستجدّات الجائحة، حتّى تتوارى في الخلفية، ملتحقة بباقي الأصوات التي تؤثِّث حياتنا، وتعيش معنا، دون حاجة إلى إيلائِها كبيرَ اهتمام.
في فيلم "حَجر" تتشابه الأيّام، وتجد الدرّاجة نفسها عالقة في سطح ضيّق، مع طفل مكمّم، ملٍّ، و"يمرّ الوقت ويمرّ ليعود"؛ فيختلط الماضي بالحاضر والمستقبل بالماضي...
ويستعير مفتكر من الشهور الماضية تعابير طفت على سطح ذاكرتنا الجمعية، من قبيل ما سُمِع في بعض حملات التّوعية: "نتعاونو كاملين أو نموتو كاملين". ولا يترك كاميراهُ محاصرة في البيت، وفضاءاته المعدودة المحدودة، بل يترك لها فرصة التطلّع إلى الخارج، حيث تُرى أضواء البيوت، ونوافذها التي تخفي قصصا أخرى مع "الحَجر الجماعي".
ويستكشف المخرج محمد مفتكر في فيلمه القصير "Confinement" حكاية واحدة تتكرّر في شخصين هما واحدٌ: الأب وابنه، اللذان وجدا نفسيهما عالقين في البيت، في زمن "الحجر غير المتوقَّع"، وتتشابه مصائرهما، فيتطلّع كلّ منهما إلى الخارج المفقود، ويتنقَّلان في حلقة مفرغة بين الغرف، والسطح، ويجلسان إلى نفسيهما مضطرَّين إلى التأمّل في دواخلهما بعدما طغتِ العادة، واستشرى الصّمت.
ويحسّ المشاهد بأنّ الحياة التي يعيشها المَحجور ساكنة، باهتة، دون ألوان.. فيتساءَل: ألهذا اختار مفتكر أن يعرضها بالأبيض والأسود، أو الرّمادي الذي بينهما؟..
وبعيدا عن الحاسوب، والتلفاز، وغرف المنزل والأنشطة التي ترافقها، نرى محمّدا مفتكر مقتعِدا عتبة بيته في وضعيّة الجنين، منتظرا الخروج إلى العالَم بعد هذا المخاض، في ولادة جديدة، يدعو إلى كتابتها، أي توثيقها والشّهادة عليها، حتى تظلّ شاهدة على ما نعيشه اليوم.
ويتأمّل الجنينُ العالَم المُنطَوِيَ فيه، ويرى منه العالَم الذي يشارِكُهُ النّاسَ، على صوت العصافير، التي تُذَكِّرُ بأنّ هناك عالَما خارج حيطاننا التي ألفناها، أقفاصِنا، وتُذَكِّرُ بأنّ هناك أملا في التّحليق من جديد.
قد يهمك ايضا
المغرب وحكومة سبتة المحتلة يتوصلان إلى اتفاق بشأن إجلاء المغاربة العالقين
المجموعة الأولى من المغاربة العالقين تغادر مدينة سبتة المحتلة
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر