عن عمر يناهز 96 عاما، توفي عبدالرحمان اليوسفي، الوزير الأول في حكومة التناوب، ليلة الجمعة 28 ماي، ووري الثرى بمقبرة الشهداء بجانب قبر صديقه عبدالله إبراهيم، رئيس الحكومة في 1959. حالته الصحية تدهورت في ظل الحجر الصحي الذي فرضته جائحة كورونا، بعد صعوبات صحية في الجهاز التنفسي، وهو الذي عاش برئة واحدة منذ الخمسينات، فتم نقله إلى مستشفى الشيخ خليفة بالدار البيضاء، الذي أمضى فيه بضعة أيام قبل أن يفارق الحياة.
مرت عليه 48 ساعة الأخيرة من عمره في المستشفى، وهو في حالة جد حرجة، وشاءت الأقدار أن توافيه المنية في ظل الأزمة الصحية التي يعيشها المغرب والعالم، والتي فرضت إعلان حالة الطوارئ الصحية وفرض الحجر الصحي. ومثلما عاش في صمت وتواضع، فقد مات في صمت بجنازة متواضعة لم يحضرها سوى عدد محدود من الشخصيات: إدريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، والحبيب المالكي، رئيس المجلس الوطني للحزب، وفتح الله ولعلو، القيادي الاتحادي السابق، وإدريس جطو، رئيس المجلس الأعلى للحسابات.. وزوجته، وابنة أخيه. مات اليوسفي تاركا وراءه تاريخا حافلا، بعضه معروف، وكثير منه لازال طي الكتمان، وخاصة ما يتعلق بالفترة التي عاش فيها اليوسفي بالخارج، وعلاقته بالفقيه البصري، ونشاطه في الجزائر، لكن أبرز تتويج عاشه هو قيادته لتجربة التناوب، والعلاقة التي نسجها مع الراحل الحسن الثاني، والتي أفضت إلى انتقال سلس للعرش سنة 1999. فكيف كانت حياة اليوسفي؟ وما هي أبرز المحطات التي عاشها؟
ولد اليوسفي في 8 مارس 1924، بحي الدرادب بطنجة، في المدينة القديمة، حيث عاش طفولته، وتلقى تعليمه الأولي، وكانت تلك الظرفية تتميز بحرب الريف التي قادها عبدالكريم الخطابي، وكانت طنجة تحت نظام دولي. وحسب مذكراته، التي أعدها عباس بودرقة، فإن والده محمد اليوسفي ينحدر من منطقة الفحص، نواحي طنجة، هاجر إلى جبل طارق، حيث عمل في إحدى القنصليات الأجنبية، قبل أن يعود إلى طنجة للعمل في شركة بنكية جزائرية، ثم في شركات أخرى. كان والده يتقن لغات عدة وله دراية بالشريعة الإسلامية، فاشتغل وكيلا لدى القضاء للدفاع عن الناس أمام المحاكم في النزاعات المدنية، وبهذا كان يُصنف والد اليوسفي ضمن البورجوازية الصغيرة في المدينة. أما والدته فاطمة الفحصي، فتنحدر من المنطقة عينها لزوجها. وكان والد اليوسفي متزوجا من امرأة ثانية. كان اليوسفي أصغر أشقائه وهم: السعدية، عبدالسلام، خدوج، محمد، مصطفى، عبدالقادر وزهرة. أما الإخوة من الأب، فهما إدريس وأمينة. وقد توفوا جميعهم، وكان آخرهم إدريس الذي توفي سنة 1998. في 1955 خضع اليوسفي لعملية جراحية في مدريد استأصل خلالها إحدى رئتيه، وفي نهاية الثمانيات أصيب بمرض السرطان، فتمت إزالة 25 سنتيما من قولونه. كما أكتشف فيما بعد أنه مصاب بداء السكري. توفي والده في 1937 وهو في سن 13، بالتزامن مع حصوله على الشهادة الابتدائية، فاضطر للسفر إلى مراكش وهو صغير السن لاستكمال دراسته، قبل أن ينتقل للدراسة في مدرسة مولاي يوسف بالرباط، والتي ستشكل أول محطة اتصال له مع الحركة الوطنية، حيث جرى استقطابه للعمل الوطني من طرف المهدي بنبركة.
تولى اليوسفي رئاسة حكومة التناوب ما بين 1998 و2002، بعد سنوات طويلة من الصراع السياسي، إذ طرحت تساؤلات كثيرة حول ما جرى في مفاوضات التناوب وسبب موافقته على بقاء إدريس البصري في حكومته. ومنذ اعتزاله العمل الحزبي، بعد إعفائه من رئاسة الحكومة في 2002، اختار اليوسفي العيش في صمت مكتفيا بالتقييم السياسي للتجربة في محاضرته الشهيرة في بروكسيل سنة 2003، التي اعتبر فيها أن التناوب التوافقي لم يفض إلى الديمقراطية، واختار منذ ذلك الحين أن يكرس حياته في السنوات الأخيرة لأنشطة مختلفة، ويعيش رفقة زوجته متنقلا بين شقته في حي أنفا بالدار البيضاء، وشقته في “كان” بفرنسا، مع الحرص على زيارة أصدقائه، وقضاء المناسبات معهم.
وفي 2016 عانى من وعكة صحية صعبة، فتدخل القصر لتأمين علاجه في مستشفى الشيخ خليفة، وخصصه له ممرضة تتابع حالته الصحية طيلة النهار.
ومن القصص التي تروى أنه بعد خروجه من المستشفى بعد تلك الوعكة، كان عليه أن يخضع لفترة نقاهة بعيدا عن الزيارات، فتم نقله بمبادرة من أصدقائه للعيش في إقامة في حي الرياض بالرباط، يملكها حمزة كديرة الاتحادي، رئيس هيئة الصيادلة، ولم يكن يعرف إلا العدد القليل من الناس أنه يقيم في الرباط، ولم تزره حينها إلا دائرة ضيقة من الأصدقاء، منهم عباس بودرقة وحسن نجمي..
الملك يقبل رأس اليوسفي
خلال وعكته الصحية زاره الملك محمد السادس مرتين في مستشفى الشيخ خليفة، إحداها كانت مفاجئة وبدون ترتيبات، فقد فاجأ اليوسفي بالزيارة وبتقبيل رأسه، في إشارة إلى مكانته الرمزية والتاريخية.
ورغم اعتزاله العمل السياسي الحزبي، إلا أنه بقي متابعا لما يجري. ويروي اتحادي ممن كانوا قريبين منه، أنه كان يتألم للحالة التي آل إليها الاتحاد من بعده، لكنه كان يلزم الصمت، وفي الوقت عينه لم يتردد في تقديم المساعدة للحزب، فعندما زاره عبدالواحد الراضي، رفقة حسن نجمي في بيته، لإخباره بقرب صدور مذكراته، بدا مبتهجا، وتوجه للراضي قائلا: “عليك أن تنشر هذه المذكرات قبل الانتخابات”، التي كانت مقررة في 2016، وأضاف: “الساحة ليس فيها خطاب سياسي اتحادي”. وبقي منفتحا على المبادرات الوطنية لحزب الاتحاد، ولهذا عندما ألقى الملك محمد السادس خطابا في الذكرى 43 للمسيرة الخضراء دعا فيها إلى تشكيل لجنة مشتركة وخلق آلية سياسية للحوار مع الجزائر بروح بناءة، استجاب عبدالرحمان اليوسفي للمشاركة في ندوة نظمها الاتحاد الاشتراكي في وجدة حول المصالحة مع الجزائر في دجنبر 2018.
وعندما اندلع الربيع العربي في 2011، خرج اليوسفي عن صمته في حوار نادر مع موقع العربي الجديد في 2015، قائلا إنه عاش الربيع العربي منفعلا بأحداثه، “وكأني أنتظره منذ زمن بعيد، وأنا الذي قضيت عمري في العمل السياسي، وجربت المعارضة والحكم، وعشت زمنا طويلا في المنفى (15 سنة)”، مضيفا “لقد هزتني رياح الربيع العربي، ولكني لم أتفاجأ بها، كنت أخمّن دائما أن الشعوب العربية ستصحو قريبا لتأخذ مصيرها بيدها”. ويروي عباس بودرقة أنه خلال الربيع العربي، استشار القصر اليوسفي حول كيفية التعامل مع الأحداث، فكان رأيه هو احترام نتائج الانتخابات وعدم تكرار أخطاء الماضي.
حرصه على تفقد أصدقائه
كان البرنامج اليومي لليوسفي منظما بدقة، فهو مداوم على قراءة الصحف والمجلات وتتبع الأخبار وحضور اللقاءات الثقافية والندوات والمعارض، وقد حضر المعرض الدولي للكتاب الأخير في فبراير الماضي الذي شهد توقيع كتاب إدريس الكراوي عن “عبدالرحمان اليوسفي.. دروس من التاريخ”.
ومن خصال اليوسفي التي برزت في سنواته الأخيرة، حرصه على تفقد أصدقائه القدامى، خاصة خلال مرضهم، أو لحضور جنائزهم، ومن الأمثلة على ذلك، حرص على الزيارة اليومية لسعيد بونعيلات، المقاوم المعروف رحمه الله، حين أصيب بوعكة صحية في 2017، واتصل شخصيا بالقصر لتوفير الرعاية الصحية له في مستشفى الشيخ خليفة، وكان يزوره يوميا في قسم الإنعاش بعدما دخل في غيبوبة، وبقي معه على هذه الحال إلى أن وفاته المنية بالمستشفى.
بدون أبناء
عاش اليوسفي حياته بدون أبناء، وكانت رفيقة دربه هي زوجته “هيلين”، وقد حكى اليوسفي قصة تُعرفه لأول مرة على زوجته بالصدفة في سنة 1947، بمناسبة انتهاء السنة الدراسية، حيث كان مقررا أن يشارك في مسرحية في حفل التخرج، ليلعب فيها دور نادل مقهى، فتوجه صوب خياط لتحضير بذلة النادل، ولم يكن هذا الخياط غير والد هيلين الذي تعرف عليه وعلى ابنته، فخطبها لمدة عقدين ولم يتمكنا من الزواج بسبب الاعتقال الأول سنة 1959، ثم الاعتقال الثاني في سنة 1963، ثم، أيضا، بسبب تفاعلات قضية المهدي بنبركة.. وفي سنة 1965 قررت عائلة هيلين مغادرة المغرب بصفة نهائية واستقرت بمدينة “كان” بالجنوب الفرنسي. وفي سنة 1968، أي بعد إحدى وعشرين سنة من التعرف على هيلين وعائلتها، جرى عقد الزواج ببلدية الدائرة السادسة لمدينة باريس. وبعد وفاة اليوسفي، بقيت هيلين الوحيدة من عائلته رفقة ابني شقيقه.
قد يهمك ايضا
"بوطالب للثقافة" المغربية تستحضر مناقب الراحل عبد الرحمان اليوسفي
جاك لانغ يؤكد أن اليوسفي رجل عظيم يتمتع بنفوذ دولي
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر