إنه في الواقع لشرف كبير وتجربة سريالية أن يكون المرء سفيرا. قد يستدعي الأمر في بعض الأحيان أن تستفيق وتتأكد أنها ليست أضغاث أحلام بل واقع حقيقي من فرط جمال التجربة. وقد شهدت على هذا في الشهر المنصرم أثناء زيارة لطالما كنت أتوق إليها.
جاءت السيدة ماري بيرد بمعية زوجها المثقف واللطيف أيضا، البروفيسور روبن كورماك، لزيارة المغرب. وتعتبر السيدة ماري واحدة من أفضل خبراء المملكة المتحدة (وبالتالي العالم برمته) في التاريخ الروماني. وقد أتت لتسبر أغوار الآثار الرومانية في المغرب لمعرفة ما إذا كان بوسعنا إقامة برنامج تبادل ثقافي بريطاني-مغربي قائم على تلك التجربة المشتركة. وفي سياق متصل، كانت السيدة ماري تقوم ببعض الأبحاث لبرنامج تلفزيوني مرتقب حول الطرق الرومانية-"كل الطرق تؤدي إلى روما"-لكن يبدو أن الطرق في المغرب ربما كانت على هيأة أنهار وسهول تجتاحها الفيضانات على امتداد المغرب وصولا إلى الجبال، بما يجعل المسالك العادية مستحيلة الاستخدام. وهذا وحده كفيل بجعل التاريخ الروماني للمغرب فريدا برسم المنطقة كلها.
ولكن قبل الخروج إلى الميدان، انصرفنا لزيارة متحف علم الآثار في الرباط. كنت قد بلغني أنه متحف عادٍ، لكن الواقع فند ذلك جملة وتفصيلا. إنه متحف في غاية الروعة، يزدان بتماثيل برونزية ورخامية في غاية الأناقة من مواقع رومانية من مختلف أنحاء المغرب. كانت التحفة الرئيسية برأسين برونزيين لجوبا وكاتو من وليلي، ما من شأنه أن يرفع من شأو أي معرض روماني في أي مكان في العالم.
بطبيعة الحال، كان علي مرافقة السيدة ماري لزيارة وليلي وليكسوس. إنني بالتأكيد شغوف بالآثار الرومانية، ولكن قضاء بعض الوقت بصحبة خبراء استثنائيين من طينة السيدة ماري والبروفيسور كورماك في هذه المواقع الرائعة، زعما بأداء الواجب، هو بحق امتياز كبير ومتعة حقيقية، علاوة على كونه فرصة تعلمية سانحة.
لقد كانت وليلي وماتزال كما عهدتها في منتهى الجمال. وأوصي من لم يتمكن بعد من زيارتها حتى الآن بالقيام بذلك. فعلى الرغم من أن الموقع لا يقع على قمة التل، إلا أنه يشرف على المناطق القروية المحيطة به، مع إطلالات ممتدة على امتداد السهول فوق مشاهد لم تشهد على تغيير كبير منذ أن جلس الرومان هناك في غرف الطعام الفاخرة ليحدقوا بها (وإن لم يكن الرومان متحمسين للمشاهد الخارجية، فقد كانوا يفضلون ساحاتهم وحدائقهم الداخلية). أنا شخصيا أحب التجول في المواقع الرومانية ووضع يدي على الحجارة وتخيل القصص التي يمكن أن ترويها لو أتيح لها التحدث...
تعج وليلي بالكثير من الحجارة. فقد تمكن الرومان من التشييد على أكثر من 60 هكتارا من الأراضي على مر السنين، والكثير منها لم يتم كشفه بالكامل بعد. فبات من الصعب معرفة ما هو أصلي وما تم ترميمه على مر الزمن، ولكن ما تم الكشف عنه إلى غاية الآن مثير للإعجاب بحق. فهناك المنتدى ومجمع المعبد، وقوس النصر المهيب، بالإضافة إلى منازل بقيت محفوظة على نحو جيد وأقبية وحمامات. بيد أن لب الانبهار بالنسبة لي هو الفسيفساء. لقد رأيت فسيفساء عظيمة في الأردن وسوريا، لكنها لا تضاهي بأي حال تلك الموجودة في وليلي؛ فالألوان ما زالت على حالها تسر الناظرين بتفاصيلها المثيرة للإعجاب. حسبك هذا لجعل زيارتك جديرة بالاهتمام.
انطلاقا من وليلي، توجهنا صوب مدينة مولاي إدريس التاريخية لتناول وجبة الغذاء. كنت قد سمعت الكثير عن مولاي إدريس ولم أجد الوقت الكافي لزيارة ذلك المكان. إنها جوهرة صغيرة. لم تطلها جحافل السياح على نحو كبير، فقد احتفظت بسحرها الأصلي. جدران خضراء، شوارع متعرجة. ممرات ضيقة حيث تمر الحمير فقط. لا توجد مركبات خلف أسوار المدينة. صعدنا على امتداد الأدراج المتعرجة، فوق المنحدرات الحادة، بمحاذاة المنازل المعلقة فوقنا. وصلنا أعلى المدينة حيث تقع شرفة مطلة على المشهد العام للمدينة، التي نشأت على التل فوق المسجد المخصص لمؤسس المغرب الحديث. عجبنا كيف تكاثرت هذه المنازل على التل دون أن تندفع إلى الأسفل في اتجاه فناء المسجد. إلا أن هذه المنازل على تعددها تمكنت وبطريقة ما من إيجاد مساحة لتنغرس في التلة وتتشبث بها.
قضينا الليلة في شفشاون. وحيث إنه سبق لي أن كتبت بالفعل عن تلك المدينة الزرقاء الغامضة الرائعة في مدونة سابقة، فلن أصيبكم بالضجر من التكرار ولا يسعني إلا أن أدعو من لم يزرها بعد أن يذهب إلى هذا المكان للتجول والتمتع والتيه واستحضار الأحلام. يمكن قضاء بعض الوقت في استكشاف فناء أزرق عميق واحد تلو الآخر، أو تخيل التواريخ والمكائد التي يمكن لهذه الشوارع أن تكشف عنها، مثل الأحجار الرومانية في وليلي، لو أمكنها الحديث. ومن شرفة مقهى "كلوك" الجديد، شاهدنا أفول اليوم ونحن نحتسي كوكتيلات عصير الفواكه على أنغام فرقة كناوة. كانت تلك نهاية سحرية ليوم ممتع للغاية.
في اليوم الموالي، سافرنا إلى ليكسس، الأكروبول الروماني الوحيد في المغرب. انتقلنا خارج مدينة العرائش الرائعة، مرورا بنهر اللوكوس المتعرج. عبرنا أحواض الملح التي بقيت على حالها منذ قرون ومليئة بمياه البحر التي غمرتها عند كل مد وجزر، لينتهي بنا الحال أمام المدخل المهيب للموقع.
فعلى الرغم من أن فندق ليوبيوس لم يبق على حاله كما الشأن لوليلي، إلا أنه ما يزال يستحق الزيارة. فالحي الصناعي القديم والمسرح فريدان بطريقتهما الخاصة. في مكان ما أسفل النهر المتعرج ربما انتصب هناك في وقت من الأوقات ميناء بائد–لعل التنقيب الأركيولوجي يمكن أن يميط عنه اللثام! لكن الذاكرة التي بقيت عالقة في ذهني ليست تلاوة كلمات يوليوس قيصر في المسرح المتهاوي على أهميتها، أو التجول بين أنقاض المعبد، أو التساؤل عما كان يجول بخاطر الرومان عند بناء ليكسوس، بل ذلك المشهد الاستثنائي من أعلى التل.
فبسبب التعرجات الشاهقة من التل، التي ترتفع عن مستوى سطح البحر تقريبا بشكل عمودي إلى ما يقارب 100 متر، اضطر الرومان لإحضار المياه إلى البلدة في أعلى التل عبر قناة مائية بادت منذ أمد طويل. ومن قمة التل، تقدم ليكسوس أروع إطلالة بدرجة 360 على هذا الجزء من المغرب، حيث تهيمن بشكل كامل على المنطقة المحيطة، بما في ذلك البحر والوادي وسهول الفيضان النهرية – وبالتالي بات من السهل معرفة الدواعي المغرية للرومان باستخدام الأنهار كطرق.
وذكّرني هذا المشهد والآثار الممتدة بأن الرومان لم يكونوا مجرد عابري سبيل، بل، كما كان الشأن في المملكة المتحدة على الحدود الشمالية لإمبراطوريتهم المتعثرة، عاش الرومان وازدهروا في المغرب لبضعة قرون على هذه الحدود الجنوبية. ومجددا، أدركت على التو أن ما يجمعنا أوسع وأكثر مما يفرقنا.
*السفير البريطاني بالمغرب
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر