الطقس كان ماطرًا عندما حللنا في مراكش، وكانت الأجواء تنبئ بعاصفة وشيكة لما كنا نشق طريقنا عبر الأرض المنبسطة على التخوم الشمالية لمدينة مراكش الساحرة، انهمر المطر ونحن نعبر طريقنا ببطء خارج المدينة نحو جبال الأطلس التي كانت تتراءى لنا عن بعد.
مع تهاطل المطر، انخفضت درجة الحرارة. في تلك الأثناء بلغت درجة الحرارة ذلك الصباح في الرباط 21 درجة، أما الآن، وفي ظل الجبال، باتت درجة الحرارة متدنية في حدود 8 درجات، لاسيما أن ذلك النسيم الحاد المصاحب للمطر كان يفاقم من شدة البرودة.
ركن فؤاد السيارة خارج مسكن الطالبات الأول. و الامطار تتهاطل بغزارة على الزجاج الأمامي للسيارة، أمسكت بمعطفي ومشيت خطاي في الوحل نحو باب المسكن، وقدماي تتخبطان في البرك.
هناك في الداخل، كان موقد نار يبعث ببعض الدفء، ولكنه لم يكن كافيا لأن ما من أحد تجرأ على خلع معطفه، كانت الفتيات منهمكات في إعداد الفروض المنزلية، بكل هدوء وتركيز، رفعن رؤوسهن في اتجاهي بتحية استقبال "أهلا وسهلا".
تداعت الكثير من الأفكار إلى ذهني دفعة واحدة...
مند عشر سنوات، أنشأ رجل بريطاني مؤسسة التعليم للجميع في أسني. تروم هذه المؤسسة الخيرية مساعدة الفتيات المنحدرات من الأوساط القروية الفقيرة والمعزولة للحصول على الفرصة لمواصلة تعليمهن بعد سن 12.
ويوجد عدد كبير من المدارس الثانوية في الأوساط القروية المحلية التي يسجل فيها عدد هائل من التلاميذ بما يتجاوز طاقتها الاستيعابية، وبالتالي أصبح الجدول الزمني يدار وفق نظام "التناوب".
فعلى الرغم من أن الدروس تنطلق على الساعة الثامنة والنصف صباحا، إلا أنه غالبا ما يقضي التلاميذ ساعات شاغرة خلال اليوم. وهذا كفيل بحمل الآباء القلقين إزاء ما تفعله بناتهم خلال تلك الفترات الشاغرة على منعهن من الالتحاق بالمدارس الثانوية نتيجة لذلك.
ومن ثم، انكبت مؤسسة "التعليم للجميع" على بناء مساكن للفتيات بالقرب من المدارس الثانویة القروية، بما يوفر لهن بيئة آمنة تمكنهن من العيش والعمل والدراسة، واللجوء إليها خلال ساعات الفراغ. تصل الفتيات صباح يوم الاثنين ويعدن إلى ديارهن بعد ظهر يوم الجمعة.
جدير بالإشارة أن نسبة النجاح بلغت مستوى هائلا: 83٪ من الفتيات اللواتي يستفدن من مساكن "التعليم للجميع" يلتحقن بالجامعة، وفي السنة الأولى من إقامة هذه المساكن، كانت مؤسسة "التعليم للجميع" تتضرع إلى الآباء للسماح لبناتهم بالإقامة في تلك المساكن. أما الآن بات الطلب يفوق العرض بشكل كبير.
لقد سبق أن جئت إلى هذه المساكن والمضاجع مساء ذلك اليوم البارد من شهر دجنبر. هي مساكن متينة مبنية بشكل جيد، تشتمل على مطابخ جيدة وفضاءات للدراسة وتناول الطعام، والنوم والدردشة، إلا أنها ليست فاخرة.
أثناء تجوالي في ممرات المساكن تبين لي جليا لِمَ ترتفع نسبة النجاح في هذه الأوساط. تنحدر الفتيات المقيمات في هذه المساكن من الأسر الأشد فقرا في القرى الأشد فقرا. فقد رأيت صورا لبعض منازلهن -عائلات بأكملها تعيش وتأكل وتطبخ وتنام في غرفة واحدة. ولم يسبق لأحد في الأسرة أن التحق بالمدرسة. لقد حظيت هذه الفتيات بفرصة هائلة للتعلم، فأمسكن بها بكلتا اليدين.
لقد أصابني جراء ذلك الحرج من المفارقة في المملكة المتحدة حيث نعتبر الولوج إلى التعليم الرسمي تحصيل حاصل، بل وغالبا ما نهدر تلك الفرصة. وأدركت مجددا مدى أهمية التعليم. فبدونه سيتكالب عليك سوء الطالع ولا سبيل لك إلى تحقيق الذات أو التنمية الذاتية أو الإسهام في المجتمع. وما لم تحصل الفتيات والنساء على تعليم كامل، فإن البلد يفقد على الفور 50٪ على الأقل من إمكاناته ومقدراته، مع ما يترتب على ذلك من خسائر اقتصادية وسياسية.
توقف المطر في منتصف جولتي في مساكن الفتيات، فذهبنا إلى السطح لنجده مغمورا بالأمطار الغزيرة في الوقت الذي انقشعت فيه الغيوم إيذانا بأمسية رائعة. كان المنظر أخاذا حيث كانت الثلوج التي تساقطت تزين قمة توبقال الذي كان ينتصب بكل بهاء في نهاية الوادي وفي وسط هبوب الريح.
عند العودة إلى الداخل، ألقينا نظرة على مختلف الغرف. بفعل الطلب المتزايد، تمت إعادة ترتيب الأسرّة ذات الطابقين، التي صممت أصلا لأربعة فتيات لتأوي الآن ست فتيات.
لم تكن الغرف تتوفر على التدفئة، وكنا نرى أنفاسنا تنبعث من أفواهنا أثناء الكلام، مجددا أصبت بالحرج عندما استذكرت السخانات الكهربائية لدينا في المنازل البريطانية وكيف اندرجت ضمن الكماليات العادية - لتتأبطها الفتيات تحت البطانيات كل ليلة.
ولما كنت أسير على طول الطريق البارد لزيارة مسكن آخر، تمسكت بمعطفي ملقيا إياه حول أذناي، وتمثل أمامي كيف أصبحت هذه الفتيات مصدر إلهام، ممتنات للفرصة التي قدمتها لهن مؤسسة "التعليم للجميع"، وكيف صرن عازمات على تحقيق أقصى استفادة من هذه الفرصة بكل جد ومثابرة. وعلى التو أصبحن أمامي نموذجا يذكرنا بعدم الاستهانة بأي شيء في الحياة.
أدركت حينئذ أن التعليم بنحو مستدام كفيل لوحده أن يمكن هؤلاء الفتيات (وآلاف أخريات مثلهن في مختلف أنحاء البلاد) من تحقيق أحلامهن ليصبحن طبيبات ومعلمات ومحاميات وقادة الغد: وقتئذ سيكون المستقبل حقا أكثر إشراقا.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر