بنواحي إقليم قلعة السراغنة، وسط الضيعات الزراعية المتلاصق بعضها ببعض، توجد على مساحة كبيرة ضيعة اختار أصحابها أن تكون مختلفة عن البقية. هذه الضيعة التي صارت حديث كل لسان، شاء مسيروها أن تكون خاصة بالنباتات العطرية الطبية البيولوجية، فلا مكان في هذه الضيعة للأدوية والمبيدات، فكل شيء بداخلها طبيعي. وحتى العاملون فيها من الزراعين والتقنيين صاروا متدربين وملتزمين بالنظافة، حفاظا على الزراعات التي تنتجها، واستجابة للشروط الصارمة آلتي تضعها وزارة الزراعة في وجه "دعاة البيو".
الزراعة البيولوجية تنافس الزيتون
على مستوى جماعة تملالت، وبالضبط بمنطقة زمران التابعة إلى إقليم قلعة السراغنة، اختار جمال زريكم، أحد الزراعين الكبار بالمنطقة، ألا يحذو حذو الزراعين في غرس أشجار الزيتون الذي تشتهر به المنطقة. إذ منذ ما يزيد عن عقد من الزمن ارتأى أن يقوم بزراعة النباتات العطرية الطبية البيولوجية. كان الرجل يدرك خطورة هذه المغامرة في بيئة ومحيط شعاره لا يعلو على معاصر الزيتون.
"عند بدايتنا في مجال الزراعة الطبية البيولوجية لم نكن نبحث عن الربح بقدر ما كنّا نبحث عن الاستمرارية ومواجهة التحديات التي تعترضنا، خصوصا أن هذا المجال لا يزال حديثا لدينا وليس مثل الزراعة التقليدية"، يقول جمال، قبل أن يضيف "كان لا بد من الصبر ثم الصبر للوصول إلى ما نحن عليه اليوم"، ويؤكد أن البدايات دائما تكون صعبة، خصوصا في مجال مثل هذا، مشيرا إلى أن التحديات لا تزال تواجهه حتى حدود اليوم، بالرغم من اكتسابه تجربة في الميدان.
وحسب جمال، فإن من يلج مجال زراعة النباتات العطرية الطبية البيولوجية، يجب أن يكون مستعدا للخسارة في أي وقت. "هناك مجهود كبير نبذله ونتعرض للخسارة كثيرا، وأحيانا لأسباب بسيطة، لكنها في غاية الأهمية في الزراعة البيولوجية، وهم ما تنتج عنه خسارة كبيرة"، يقول جمال.
وتحولت هذه الضيعة، بعد سنوات من اهتمامها بالزراعة البيولوجية الطبية، إلى قبلة للزراعين والمهتمين بالنباتات الطبية البيولوجية من أجل الاستفادة من طريقة العمل والتجربة في ميدان محفوف بالمخاطر ولا يلجه سوى المولعون بكل ما هو "بيو"، حسب الفلاح جمال دائما.
ضمان الاستمرارية
داخل هذه الضيعة الزراعية، عديدة هي المنتجات الطبية البيولوجية التي تقدمها، مثل النعناع، اللويزة، البابونج، الزنبوع، الزيتون، وغيرها، والتي يتم تصديرها نحو الخارج، خصوصا أنها صارت تتوفر على العديد من الرخص والشهادات التي تثبت ذلك. يقول صاحب هذه الضيعة البيولوجية إن العمل في هذا المجال يتطلب من صاحبه عناية كبيرة، ومن العاملين بالضيعة اهتماما كبيرا بالنظافة.
وإلى جانب الشروط الصارمة التي تفرضها القوانين المنظمة، والتي صارت تؤطر الزراعة البيولوجية، وكذا ما تتطلبه هذه النباتات من عناية كبيرة، يؤكد جمال أن العاملين بالضيعة صاروا اليوم يدركون أهمية النظافة، وينتبهون إلى الأمور الصغيرة التي قد تتسبب في خسارة المنتوج أو في عقوبات من لدن الجهات المختصة التي تزور المكان.
وما ساعد على استمرار هذا العمل، يضيف المتحدث نفسه، هو الدعم الذي تقدمه وزارة الزراعة، إلى جانب الإدارة الجهوية لمكتب الحوز، وكذا السلطات العاملية بإقليم قلعة السراغنة، التي تدعم، حسب قوله، التعاونيات الزراعية، وتساهم في توجيهها وإيلاء العناية بها من أجل ضمان استمراريتها.
أمام هذه التجربة التي راكمها جمال زريكم، في مجال الزراعة الطبية البيولوجية، وبالرغم من الخسارات التي يتعرض له بين الفينة والأخرى، فإنه يبدو عازما على مواصلة العمل في هذا المجال، بل الأكثر من ذلك، يسعى حاليا رفقة أحد شركائه إلى بناء معمل لتقطير الزيوت على مستوى إقليم الرحامنة.
مطالب المهنيين
الفاعلون في مجال الزراعة البيولوجية، البالغ عددهم حوالي 300 شخص، لا يأملون من السلطات المختصة، وعلى رأسها وزارة الزراعة، سوى تبسيط المساطر، حتى يساهموا في الإقلاع بهذا النوع من الزراعات ومنافسة الدول الأخرى، وعلى رأسها تونس التي تعد رائدة في هذا المجال.
وحسب جمال، وهو عضو بالجمعية البيمهنية، فإن مطلبهم يتمثل في تبسيط المساطر فيما يتعلق بهذه الزراعة وإيلائها اهتماما أكبر، وتشكيل لجنة خاصة على غرار التجربة التونسية حتى تكون مواكبة للملفات والنقط المتعلقة بهذه الزراعة.
وبعد إشارته إلى كون الجمعية والزراعين المنضوين تحت لوائها استفادوا من التكوينات واللقاءات التي تعقدها الوزارة، وكذا أهمية القانون الذي جاءت به الوزارة، لفت جمال الانتباه إلى ضرورة تكوين الشباب في هذا المجال من أجل مضاهاة الدول الأخرى.
وأضاف أن هذا القطاع صار أكثر تنظيما بعد صدور القوانين المتعلقة به، خصوصا ما ينص منها على العقوبات الزجرية لكل من يسيء إلى القطاع، غير أنه أكد على ضرورة مضاعفة عدد الموظفين لمراقبة وتتبع هذه الزراعة على الصعيد الوطني.
وبالنسبة إلى مولاي إدريس الجميلي، رئيس الجمعية الوطنية لمنتجي السلاسل البيولوجية، فإن قطار الزراعة الطبية البيولوجية بالمغرب وضع فوق سكته بعدما كان هذا المجال مهمشا ومحدودا، مشيرا إلى أنه أصبح بعد التعليمات الملكية وبعد خلق جمعية تضم جميع الفاعلين، بمن فيهم الباحثون والأساتذة والموزعون، مجالا واعدا ومنافسا.
وأكد الجميلي، في تصريحه لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن القانون رقم 3/12 الذي كان وراء تأسيس جمعيات بيمهنية، منها الجمعية الوطنية لمنتجي السلاسل البيولوجية، ساهم في الدفع بهذه الزراعة كثيرا.
وحسب المتحدث نفسه، فإن وزارة الزراعة والصيد البحري، ومن خلال عقد العمل معها، عملت على ضخ ميزانية للقيام بالأعمال والأبحاث، والمشاركة في المعارض الدولية مثل ألمانيا، إلى جانب عقدها لقاءات تواصلية وحوارية في إطار مخطط المغرب الأخضر.
وأكد رئيس الفيدرالية أن هذا الميدان ليس سهلا، غير أنه يرى ضرورة إعانة المستثمرين في هذا المجال على الإنتاج، وعلى اقتناء آليات خاصة بالإنتاج البيولوجي، إلى جانب الإعفاء من الرسوم الجمركية.
وأضاف الجميلي أن المغرب يمكنه أن يكون منافسا قويا للدول الأخرى، "ونحن نستبشر خيرا، ومتفائلون بأننا في السنوات القليلة سنتجاوز تونس بحكم الإمكانيات التي نتوفر عليها".
قطاع واعد
ترى وزارة الزراعة والصيد البحري أن هذا النوع من الزراعة يوفر فرصا هامة للتنمية المستدامة للزراعة في المغرب، لا سيما فيما يتعلق بتنويع الصادرات، وتثمين منتجات محلية محددة، والحفاظ على الموارد الطبيعية.
وحسب الوزارة، فإن المساحة المزروعة بالنسبة إلى الزراعة البيولوجية، تطورت بشكل ملفت من 4000 هكتار سنة 2010 إلى 9500 هكتار في 2017/2018، بإنتاج يقدر بحوالي 95000 طن مقابل 40000 طن سنة 2010.
ووفق المعطيات الرسمية الصادرة عن الوزارة، فإن الصادرات المغربية من الزراعة البيولوجية ارتفعت على مدى السنوات العشر الماضية من 6500 طن في 2005/2006 إلى 17000 طن اليوم، وهي توجه أساسا إلى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، خصوصا فرنسا وإسبانيا وبريطانيا وألمانيا.
وتعد جهة سوس ماسة أكثر الجهات التي تتركز فيها أحواض الزراعة البيولوجية بشكل أساسي بنسبة 30 بالمائة، متبوعة بأحواض جهة مراكش أسفي بنسبة 14 بالمائة، وجهة الرباط سلا القنيطرة بنسبة 12 بالمائة، ثم جهة الدار البيضاء سطات بنسبة 12 بالمائة.
قد يهمك ايضا
"OCP" تطلق مرحلة جديدة من آلية "المثمر لمتنقل" المخصصة للأشجار المثمرة
افتتاح النسخة الثامنة لمهرجان "ربيع تاملالت" بإقليم قلعة السراغنة
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر