يجلس نحو 35 طالبًا على مقاعدهم الخشبية، وينصتون إلى كل كلمة يقولها المدرس ويدونون كل ما كتبه بطباشيره على السبورة، خوفًا من أن يأتي ضمن سؤال في الامتحانات. المعلم يلقن الدرس، والتلاميذ يباشرون الحفظ، أما المكافأة الكبرى فمعدل عالٍ يضمن قبولاً في إحدى الجامعات بتخصصات مرموقة ومعدودة؛ مثل الطب والهندسة والمحاسبة والمحاماة، وهو نظام تقليدي موجود منذ نحو قرنين من الزمان، بدأ تزامنًا مع الثورة الصناعية لتغذيتها، حيث كان الهدف منه تخريج أكبر عدد ممكن من الإداريين والمحاسبين والمهندسين، وغيرهم من موظفي المهن التي كانت مطلوبة في سوق العمل حينها، هذا كله قبل عصر الإنترنت، عندما كان الطالب يعتمد على مناهج الكتب وشرح المدرس فقط، لكن، ومع الوقت، حاكت الشبكة العنكبوتية حبالها في جميع مجالات المجتمع.
وتطور المجتمع، وتطورت معه سوق العمل والمتطلبات والمهارات المتوقع من الخريج امتلاكها، وأصبحت سوق العمل أكثر تخصصًا وتطلبًا، مما خلق حاجة لأن يصبح الطالب، بدوره متخصصًا أكثر ويتعدى تعليم الحفظ والتسميع، ويتبنى مستوى أعلى من التفكير والتحليل والاستنتاج والإبداع وخلق حلول واتباع منهجية البحث العلمي. فلم تعد السبورة والطباشير والامتحانات القائمة على التسميع كفيلة بتأمين مستقبل واعد ووظائف لائقة للجالسين على مقاعد الصف الخشبية.
وأشارت دراسة للمنتدى الاقتصادي العالمي، صدرت في 2016، إلى أن التفكير النقدي من أكثر المهارات التي يحتاجها المجتمع وسوق العمل مع حلول عام 2020، ولمواكبة موجة التطور التكنولوجي، باشرت المنظومات التعليمية إدخال التقنية إلى داخل الصفوف، وتوظيف التقنية أمر ليس حديثًا جدًا، بل بدأ قبل أكثر من 15 عامًا. وقال المدير التنفيذي لمجموعة "غلوبال ليرنينغ" في دبي، الدكتور ميلاد السبعلي، إن التكنولوجيا باتت تستخدم كوسيلة لتحديث التعليم التقليدي الذي كان قائمًا على التلقين والحفظ، لأنه كان يخدم عصرًا آخر.
وأكد الخبير الدولي في مجال تكنولوجيا التعليم والتفكير النقدي أن توظيف التكنولوجيا في الصفوف يحتاج إلى فريق يطور محتوى إلكترونيًا ويحول محتوى الكتب إلى مواد تفاعلية سهلة المتابعة من قبل الطالب، الأمر الذي يشجع الطالب على التعلم الذاتي والتفكير النقدي والتحليل والاستنتاج، وبذلك يمكن القول إن إدخال التقنية إلى مجال التعليم ليس كافيًا وحده، والحاجة أصبحت ملحّة إلى تطوير المنظومة التعليمية لتواكب متطلبات سوق العمل، وقال السبعلي: "هناك أكثر من محاولة للتعديل، ويطرح البعض منها فكرة تحويل محور التعليم من المدرس إلى الطالب، لأن قدرات الطلاب تتباين، والآن مع توفر الأدوات الذكية الداعمة للتعليم والشرح، أصبح المدرس قادرًا على التماشي مع قدرات كل طالب، ومع هذا، نشأ التعلم المتمحور حول الطالب، وتحول دور المدرس من ناقل للمعرفة إلى محفز ومشرف ومسهل للتعلم التفاعلي والإبداع، وتم تطبيق هذه التوصيات على مستويات متعددة، ولكنها ما زالت في البدايات".
ووفق السبعلي، هناك دول عربية تبنتها أكثر من غيرها، وعلى رأسها الإمارات، حيث أوضح أن هناك أكثر من مبادرة في الإمارات لإدخال التكنولوجيا إلى التعليم وتطوير المنظومة، ومنها "مبادرة الشيخ محمد بن راشد للتعليم الذكي"، وهناك وزارة التربية والمؤسسات المعنية، مثل مجلس أبوظبي للتعليم، وهيئة تنمية المعرفة في دبي، التي تعمل على وضع معايير للمدارس لإدخال الأنماط الحديثة من التعليم ضمن عملية التدريس، وأصبحت جزءًا من التقييم السنوي للمدارس، كما يعد افتتاح المدارس المتقدمة للتعلم الذكي في الرياض نقلة نوعية للتعليم في المملكة وفي العالم العربي؛ إذ تقدم تعليمًا منافسًا بأبعاد تطبيقية وإعداد قاعدة علمية من المتعلمين يمتلكون مهارات المتعلم الباحث، مع مساعدتهم على اكتشاف مواهبهم وتنمية شغفهم بالعلم والتعلم، لكن إدخال التكنولوجيا ليس كافيًا، لأنها عملية تغيير كاملة تحتاج إلى استراتيجية تتواكب مع طريقة تطوير أساليب التعليم وتدريب المدرسين على طريقة استخدام التكنولوجيا أيضًا. ووفق السبعلي فإن استبدال لوح ذكي بالسبورة غير كافٍ لإجراء نقلة نوعية في منظومة التعليم، لافتًا إلى ضرورة تعديل المناهج وأن يطرأ التغيير على أكثر من محور، لكن المحور الرئيسي هو المناهج.
وأضاف الخبير التعليمي: "المناهج لطالما اعتمدت على التلقين أو الحفظ، ولا يواكب ذلك التغيرات، نحن في حاجة لمناهج تشجع الابتكار والتحليل، ويجب أن تبتعد عن الحشو، وتمنح الطالب مجالاً أكبر للتمرس في مهارات القرن الـ21، وعلى رأسها روح البحث العلمي، بات التعلم مستمرًا حتى في سوق العمل، والمهارات التي قد يوفرها له التعديل قد تضمن له عملاً لائقًا في المستقبل، وإحدى العوائق الأساسية التي تعرقل تعديل المناهج مفهوم الامتحان، خصوصًا في الصفوف التي فيها امتحانات رسمية، لا نستطيع تطوير المناهج دون تغيير مفهوم الامتحان، لأنه يعتمد على التسميع واختبار الكمّ الذي استطاع الطالب حفظه، بل يجب اختبار مدارك التفكير النقدي للطالب، وقدراته على إيجاد الحلول الإبداعية، ودمج الطلبة في سوق العمل".
وأكد تقرير أصدرته منظمة العمل الدولية، عقب انعقاد الاجتماع العربي الثلاثي عن مستقبل العمل، في بيروت، في الثالث من أبريل / نيسان الماضي، أن التغير التكنولوجي من المحركات الأساسية للنمو والتنمية، وأن التغيرات التكنولوجية الطارئة على سوق العمل ستؤدي إلى إلغاء بعض الوظائف، وخلق وظائف جديدة، وتعديل شكل بعض الوظائف الحالية، ويرافق هذه التغييرات سلسلة من التحديات للطلاب الذين سيدخلون سوق العمل، مما يجعل الحاجة ملحة لتحصنهم بمهارات تواكب أحدث متطلبات السوق، لتأمين فرص عمل لائقة لهم.
وفي هذا السياق، قال السبعلي: "اليوم سوق العمل بحاجة لخبرات ومهارات لم تكن موجودة قبل خمس سنوات، وستخلق حاجات مستقبلية أيضًا، على الطالب المقبل على دخول سوق العمل أن يكون مرنًا وجاهزًا للتأقلم مع التغيرات المستمرة، ومفهوم الأمية اليوم تغير إلى من يستطيع أن يتعلم، ويعاود التعلم من جديد، ومع دخولنا إلى العصر ما بعد الصناعي، عصر تطوير تطبيق من لا شيء وبيعه بالمليارات من خلال الإبداع بتوظيف التكنولوجيا، أتيحت للناس فرصة خلق قطاعات جديدة أو تطوير قطاعات موجودة، ومع أن هذا التحول لم يؤثر على الاقتصادات العربية بعد، لكن التغيير آت، مما سيضغط على مجال التعليم ويلح لتعديله، فالرأسمال البشري للدول يقاس بمعيار مدى تأقلم الناس مع التغييرات وقدرتهم على حل المشكلات والتحليل والبحث العلمي وإنتاج أفكار وحلول غير مألوفة.
ولفت السبعلي إلى أن هذه المعايير يجب أن تبدأ في المدرسة ثم الجامعة ثم سوق العمل". وأكدت دراسة أجرتها جامعة "كامبردج" البريطانية في عام 2016 أن 70 % من الخريجين يعتقدون أنهم يمتلكون مهارات جيدة للتفكير النقدي، بينما يعتقد 25 % فقط من المديرين أن هؤلاء الخريجين الجدد يمتلكون مستوى جيدًا من التفكير النقدي، مما يفتح باب التساؤل عن إمكانات الخريجين للاندماج في سوق العمل الجديدة والتأقلم مع متطلباتها.
وفي حال طبقت التعديلات على المنظومة التعليمية، فسيكون لها تأثير كبير يؤدي إلى تطوير الاقتصاد وخلق فرص عمل جديدة وتخريج مجموعة من الكفاءات الحديثة التي تخلق الوظائف، أو رواد أعمال بمعنى آخر، يبتكرون أفكارًا جديدة.
وأضاف السبعلي: "من يقتحم هذا المجال أولاً ويضع استراتيجية متكاملة للعناصر التي ذكرناها بطريقة تدريجية، فسيكون ضمن منظومة التأثير المباشر على الاقتصاد وعلى نمو قطاعات موجودة وإيجاد قطاعات جديدة، والدول التي ستبقى على الأنماط القديمة، ستعاني مستقبلاً من البطالة المقنعة أو البطالة الواضحة، لأن الخريجين لن يكونوا جاهزين لسوق العمل، مؤكدًا ضرورة تحويل التطورات الطارئة في العالم إلى فرصة لإعادة هيكلة التعليم وتجهيز جيل جديد من الخريجين لإحداث تحول استراتيجي نحو وضع أفضل".
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر