رفض "جوهر اللالا" أن يستغل صلته بالسلطان في تحقيق ثروة طائلة وامتلاك ضياع واسعة، بل كان نظيف اليد، متحرجًا من المال الحرام، فصار يذكره الجميع بالسيرة الحميدة، وحينما أراد أن يبني مدرسة تضم كتّابًا ومسجدًا، بحث عن أرض قريبة من القلعة، فكانت جنوب شرق القاهرة الفاطمية في ميدان صلاح الدين، فوق الكتلة المنفصلة عن جبل المقطم، شمال مسجد الرفاعي، وهي بذلك غير منتظمة الشكل، صغيرة المساحة - 187 مترًا مربعًا - مما جعل مصممها يتفنن في بنائها، الذي جاء وفق نمط العمارة المتعامدة للمساجد، وألحق بها قبة مزخرفة حوت على ضريح صاحبها فيما بعد.
وتقع مدرسة ومسجد الأمير جوهر اللالا على بعد أمتار من مسجد قايتباي الرماح في درب اللبانة بالقرب من ميدان القلعة في القاهرة أنشأها الأمير جوهر الجلباني - نسبة إلى الأمير جلبان أو أحمد الجلباني - الحاجب، وهو المعروف بـ "اللالا"، وهى كلمة فارسية تعني "المُربي"، أي "مربي أبناء السلطان"، في عصر السلطان برسباي، وكان إنشاؤه لها عام 833 هـ - 1429م، وأتم بناءها عام 834 هـ - 1430م، وعندما توفي عام 842 هــ - 1348 م دفن تحت قبته.
ووضع جوهر شروطًا لانضمام أيتام المسلمين للتعلُّم في كتاب المدرسة، منها ألا يكون الأيتام قد بلغوا الحلم، ومن بلغ منهم يستبدل بيتيم غيره، أما إذا ختم القرآن قبل البلوغ وأراد الاشتغال بالعلم أجيب إلى طلبه على أن يصرف له المبلغ المقرر حتى يبلغ الحلم.
وينتمي الأمير جوهر اللالا إلى دولة المماليك الجراكسة، وأصوله تعود إلى أدغال الحبشة، اشتراه الأمير عمر بن بهادر طفلًا من أسواق مكة المكرمة، وحينما عاد إلى القاهرة أهداه لأخته زوجة الأمير أحمد بن جلبان الحاجب، فقامت بتربيته ثم أعتقته فصار اسمه "جوهر الجلباني"، وكان بناء المسجد بأسلوب الحجر المشهر أو استخدام مدماك من الحجر لونه أحمر والآخر أبيض أو أصفر، كما يتميز المسجد بوجود أكبر الإيوانات، حيث يطلُّ على الدار قاعة بعقد كبير من الحجر المشهر، ويعلو المسجد السبيل والكتاب.
ويغطي الصحن - دركاه أو دارقاعة - سقف خشبي تتوسطه شخشيخة، وإيوان القبلة مستطيل، وكسيت جدرانه بوزرات من الرخام، وفوق المحراب توجد طاقية من الجص، كما يعلو المنبر شباك جصي معشق بالزجاج الملون، والواجهة العمومية تتكون من المدخل الرئيس والقبة والمنارة ومصراعا الباب محليان بكسوة نحاسية وفي الطرف القبلي منها تقع المنارة والقبة وحجمها صغير متناسب مع جسم المدرسة وتعتبران من أصغر المنارات والقباب على الإطلاق.
وصحن المسجد مربع الشكل، أرضيته رخامية، ويغطى بشخشيخة مثمنة ويفتح على الصحن أربعة أبواب يفضي الشمالي منها إلى حجرة مستطيلة، والغربي إلى داخل المدرسة، والجنوبي إلى القبة الضريحية، والشرقي إلى الممر المنكسر الموصل بين المدخل الرئيس والصحن، ويحيط بالصحن أربعة إيوانات أكبرها إيوان القبلة كالعادة.
وتعلو الواجهة الرئيسة للمدرسة مئذنة يبلغ ارتفاعها 10.5 متر، ويمكن الوصول إليها من أعلى سطح المدرسة وتتكون من ثلاثة طوابق، ويفصل بين الطابق الأول والثاني شرفة خشبية ترتكز على أربعة صفوف من الدلايات، والطابق الثالث أسطواني الشكل بارتفاع 2.25 متر، ويفصل بينه وبين الطابق الثاني ثلاثة صفوف من الدلايات أو الحطات من المقرنصات، ثم تستدق الأسطوانة كلما ارتفعنا إلى أعلى، وتُتوّجه كرة دائرة يعلوها هلال من النحاس، والمئذنة مُجددة وليست من عصر الإنشاء، وغير محدد تاريخها.
الأكثر سردًا للمسائل الفقهية
القرطبي.. المفسر الأمين وصاحب "الجامع لأحكام القرآن"
هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأندلسي القرطبي، ولد في قرطبة ما بين أعوام "600 - 610 هـ"، وأقبل على العلم منذ صغره، حيث حفظ القرآن الكريم، وتعلم العربية والشعر، ودرس الفقه والقراءات، وبعدها انتقل إلى مصر، ودرس على أيدي علمائها، واستقر بها حتى توفي، وكرس حياته للعلم والمطالعة والتأليف، حتى وصفه مترجموه بقولهم: أوقاته معمورة ما بين توجه وعبادة وتصنيف، وإلى جانب تفسيره العظيم للقرآن الكريم الذي حمل عنوان "الجامع لأحكام القرآن"، وضع القرطبي الكثير من المؤلفات المهمة، مثل: التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، والتذكار في أفضل الأذكار، والأسني في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، والمقتبس في شرح موطأ مالك، واللمع اللؤلؤية في شرح العشرينيات النبوية.
وبدأ القرطبي تفسيره بمقدمة لبيان فضائل القرآن وآداب حملته، وما ينبغي لصاحب القرآن أن يأخذ نفسه به، ثم أوضح مقصده من التفسير قائلًا: لما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع الذي استقل بالعام والفرض، رأيت أن أشتغل به مدى عمري، وأن أكتب فيه تعليقاً وجيزاً يتضمن نكتًا من التفسير، واللغات، والإعراب، والقراءات، والرد على أهل الضلالات، مبينًا ما أشكل منها بأقاويل السلف ومن تبعهم من الخلف.
والتزم القرطبي في تفسيره الأمانة العلمية، والموضوعية في الإفادة من أسلافه، فقال: وشرطي في هذا الكتاب إضافة الأقوال إلى قائليها، والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله.
وكان ينتقل القرطبي من تفسير المفردات اللغوية وإيراد الشواهد الشعرية، إلى بحث اشتقاق الكلمات ومآخذها، إلى تصريفها وإعلالها، وإلى تصحيحها وإعرابها، وإلى ما قاله أئمة السلف فيها، وإلى ما يختاره هو أحيانًا من معانيها، ونقل عمن سبقه في التفسير، مع تعقيبه على ما ينقل عنه، مثل ابن جرير، وابن عطية، وابن العربي، وأبي بكر الجصاص.
وفي تفسيره كان يذكر مذاهب الأئمة ويناقشها، ويمشي مع الدليل، ولا يتعصب لمذهبه المالكي، وقد دفعه الإنصاف إلى الدفاع عن المذاهب والأقوال التي نال منها ابن العربي المالكي في تفسيره، ويعتبر تفسير القرطبي من أكثر التفاسير سردًا للمسائل الفقهية وأجمعها، واعتمد أيضًا في تفسيره على الحديث، وقد سرد في هذا التفسير ما يزيد على 6500 حديث، وقد تكلّم في بعض الأحيان على بعض الأحاديث ووصفها بالضعف، ويمتاز هذا التفسير عما سبق من تفاسير أنه لم يقتصر على آيات الأحكام، والجانب الفقهي منها، بل ضم إليها كل ما يتعلق بالتفسير.
وتوفي القرطبي عام 671 هجرية.
المؤمنون يعلمون أنه حق من الله
البعوضة الضعيفة.. مثال لتحدي الكفار والفاسقين
يضرب الله تعالى الأمثال للناس من كبيرها لصغيرها دون حياء أو تحفظ، وهو بديع السماوات والأرض ذو القوة والعلم، فيضرب البعوضة ذلك الكائن الصغير الضعيف مثلًا، وأن المؤمنين يعلمون بأن القرآن هو الحق المبين من رب العالمين، متحديًا للكفار والفاسقين، يقول تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ"، "سورة البقرة: الآية 26".
لطالما نظر الإنسان إلى البعوضة على أنها مخلوق تافه، فهي من أصغر ما يشاهده بعينه المجردة وفي حياته اليومية، ولكن الله سبحانه يذكرها في كتابه العظيم ومن دون أي استحياء، فأما الجاهلون بأسرار البعوض فيقولون، ماذا أراد الله بهذا مثلًا، وأما من يعرفون حدودهم، فلا ينكرون ما يجهلون فيعلمون أنه الحق من ربهم.
وخص الله البعوضة بالذكر فـي القلة، فأخبر أنه لا يستحيي أن يضرب أقل الأمثال في الحق وأحقرها وأعلاها إلى غير نهاية في الارتفاع جوابًا منه لمن أنكر من منافقي الخلق ما ضرب لهم من المثل بموقد النار والصيب من السماء، فالله لا يتحفظ من ضرب البعوضة كمثل، فهو على علم بأن ما يكمن فيها من آيات ومعجزات ما لا يتصوره البشر، وما لا يمكنهم الوصول إليه إلا بطلب العلم وتطور الأجهزة.
وضرب الله المثل بالبعوضة على صغر حجمها، لأنه خلق فيها جميع ما في الفيل مع كبره وزيادة، فأراد أن ينبّه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعته، والآية بصدد بيان قدرته وعظمته وصفاته الجمالية والجلالية، وأنه لا يستحي أن يستدل على قدرته وكماله وجماله بخلق من مخلوقاته، سواءً كان كبيرًا وعظيمًا كالسماوات والأرض، أو صغيرًا و حقيرًا كالبعوضة.
ويوجد نحو 2700 نوع من البعوض في العالم، وأنثى البعوض هي التي تتغذى على الدم لأنه ضروري لنضج البيض، في حين أن الذكر يتغذى على عصارة النباتات ورحيق الأزهار.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر