تذهب التكلفة البشرية في الحرب الأهلية الوحشية في سورية، والتي طال أمدها، لما هو أبعد من عدد الخسائر، فقد فر الملايين من منازلهم بحثًا عن ملجأ لهم، كما أن سكان حلب في الشمال الغربي من البلاد يعيشون تحت الحصار، وسط الغارات الجوية السورية والروسية، التي تدمر منازلهم ومستشفياتهم، وتعوق الإمدادات الغذائية. ويعيش الصحافيون في المدينة والذين هم بمثابة أعيننا في الخطوط الأمامية، لنقل الصراع وسط مخاطر أن يتم اختطافهم وتعذيبهم وقتلهم أثناء تأدية واجبهم، ووفقًا للجنة حماية الصحافيين، فإن سورية هي أخطر مكان بالنسبة للحفي على وجه الأرض، بينما انخفضت أعداد وفيات الصحافيين منذ اندلاع الحرب في عام 2011، ولكن هذا ليس بسبب توقف الهجمات، ولكن لأنه لم يبق سوى القليل ليقتلوا.
وروى خمسة صحافيين تجاربهم من منفاهم في تركيا حسب تعبيراتهم الخاصة، وقال سامر الأحمد، صحافي في نسائم سورية إف إم، "يقتل الشباب ويتخلص من أجسادهم مثل الحيوانات، وعندما أسمع كلمة حلب أفكر في صديقي المحامي الذي يدعى إبراهيم مالكي، ففي مثل هذا الوقت من العام الماضي كنا زميلين معتقلين في زنزانة مزدحمة، حيث كنا ننام جنبًا إلى جنب، وكان طول الزنزانة 3 أمتار وعرضها 6 أمتار، ولكنها كانت موطنًا لأكثر من 20 سجينًا، وكنا اعتقلنا من قبل النظام واتهمت بإرسال أخبار إلى وسائل الإعلام المعارضة، واعتقل إبراهيم لكونه ناشط سياسي وفي مجال حقوق الإنسان، وبعد 20 يومًا من العيش معًا ونتبادل الحديث ونتشارك جلسات التعذيب، تعززت صداقتنا ولكن بعد وقت قريب تم نقلنا لأماكن مختلفة".
وأضاف "استمريت في التعرض للتعذيب، واتهمت بأنني إرهابي، وكان إبراهيم يشهد أسوأ كابوس له في زنزانة صغيرة في العاصمة السورية دمشق، وأخبرني فيما بعد أنه شاهد الشباب يموتون وتلقى أجسادهم مثل الحيوانات، وبعد مرور شهر تم إطلاق سراحي بعد دفع رشوة لضباط النظام، وبعد أسبوع سمعت أنه قد أفرج عن إبراهيم، لكن سرعان ماعاد النظام ليتحرش بي مجددًا، فلم يكن أمامي سوى الهرب إلى تركيا، وانتقل إبراهيم إلى سويسرا بعد أن أغلق النظام شركة القانون الخاصة به، ونتحدث سويًا كل أسبوع عبر سكايب، ودائمًا ما يقول أن ما يحدث في حلب يكسر قلبه ومحاولة الرئيس بشار الأسد لتدمير مدينته الحبيبة.
وأوضح جواد أبو المنى، رئيس تحرير سوريتنا، قائلًا "144 يومًا من التعذيب جعلوني عاجز عن الحركة، إن كل ما أتذكره عن اليوم الذي أطلق فيه سراحي أنني كنت واقفًا عند مدخل المستشفى العسكري في برزة في دمشق، وكنت أقف عاريًا بصرف النظر عن البطانية فبعد حوالي 144 يومًا من التعذيب أصبحت تقريبًا عاجز عن الحركة، وكنت انتقلت بين العديد من الدوائر الاستخباراتية، وقضيت آخر شهرين في قسم معروف بأنه "مجزر بشري" ولكن بعد يوم من وضعي فيه تقرر أنني لا أشكل تهديدًا على الأمن الوطني، ونقلت بعدها إلى المستشفى حيث عالجني الأطباء مجانًا، وخرجت مرهقًا وأدركت فجأة أن الجميع يحدق بوجهي حيث كان مظهري ورائحتي مثيران للشفقة، ولكنهم كانوا يبتسمون لي وكأنها كانت تحية خاصة وعلموا أن هذه هي فرصتي الثانية في حياتي وأنني قد ولدت من جديد، واحتاجت عيني مزيدًا من الوقت للتكيف مع ضوء الشمس، وامتلأت أذني بالضوضاء، لكن الشوارع كانت تفوح منها رائحة الجنة".
وواصل "كان أول ما رأيته هو رجل يبيع الماء، وأخذت الزجاجة الأولى وشربتها في ثواني معدودة، وأخذت الثانية وتبعتها الثالثة والرابعة، فقد كانت هذه أول مياه نظيفة أشربها منذ شهور، ورفض البائع أن يأخذ ثمنها فقد اعتاد على رؤية أشخاص مثلي، وسألني البائع "أين تعيش؟" وأخبرته أنني من روكندين وهي ضاحية في دمشق، فأوقف لي سائق ليقلني إلى المنزل ورفض السائق أيضًا أن يأخذ مقابل التوصيل فقد كان ابنه أيضًا معتقل.
أما الصحافي الثالث أحمد حاج حمدو، في شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية يقول "وقفت فوق الجثث وقررت التوقف عن تقديم تقارير عن التفجيرات، قررت أن أكون صحافيًا عندما اندلعت الحرب وكان قرارًا متسرعًا، وربما لم يكن قرارًا حكيمًا، نظرًا للاستهداف المستمر للصحافيين من قبّل طرفي النزاع، وعلى مدار أربعة أعوام قطعت رجلة طويلة إلى جامعتي لأتعلم كيف أكون صحافيًا، بينما كانت القذائف تسقط من حولي لكنني استمريت في طريقي للتعلم، وذات مرة قضيت أيامًا وأنا أختبئ بعد أن تلقيت تهديدًا بعد أن قمت بنشر تحقيق وذات ليلة نمت في المستشفى، واستيقظت على صراخ الجرحى، وأتذكر أنه وقع تفجير كبير، وقمت بتغطية الأحداث في ضواحي دمشق، ومعنا كاميرات لتغطية الحدث في أسرع وقت ممكن، وكان الدخان الأسود يعم المكان لدرجة أننا لم نكن نرى شيئًا وفجأة شعرت بأنني أقف على شيء لزج، فتجمدت في مكاني وأدركت أنها جثة شخص ميت، وكانت هذه هي اللحظة التي قررت فيها أن أتوقف عن تقديم أي تقرير يغطي التفجيرات، وبدأت أن أركز أكثر على القصص الإنسانية والتحقيقات".
وتابع "التحقت بشبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج) ونلت جائزة على واحدة من قصصي حول العصابات التي تزور الوثائق وتستولي على منازل عشرات الآلاف من الذين فروا من القتال، وبعدها ومنذ عام تم تجنيدي في الجيش الحكومي، وقررت الهرب إلى تركيا، واليوم أحاول أن أستجمع ذاكرتي وأنهي تعليمي في المنفى، والأمر في غاية الإحباط عندما تقدم تقرير عن السوريين من الخارج، ولكن لا يزال لدي بعض الاتصالات في الداخل يساعدونني في الحصول على المعلومات وأفضل هذا فضلًا عن الوقوف على الخطوط الأمامية للموت.
وسرد صادق عبد الرحمن، اسم ستعار استخدمه المحرر والكاتب في الجمهورية، قصته، قائلًا "النظام يمنع السوريين من أن يرووا قصصهم حتى بعد مغادرة البلاد"، قضيت أول ثلاثة أعوام من الثورة أتنقل بين المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وشاهدت أحزان الناس وخوفهم ووفاة أحبتهم، ولكن إقناعهم بالنقاش كان هو الجزء الأصعب، فالجميع خائف من الكلام، وحتى إذا وافقوا على الحديث معك، فإنهم يقولون فقط ما يجب عليهم قوله، وليس ما يريدون قوله، وحتى إذا كنت قادر على طمأنتهم بأنك لن تفصح عن أسمائهم وهويتهم، فيمكنك أن تشعر بخوفهم والارتباك الذي يأتي بين كلامهم، ولكن مع الوقت بدأ بعض الناس يثقون بي.
وأضاف "كنت استخدم أسماء مستعارة لأحمي هويتي، لذا كان الناس يرون مجرد شخص مجهول يتحدث مع شهود مجهولين، وعلى الرغم من أن هذا الوثائق لا تزال هامة فهذه ليست الطريقة المثلى للممارسة الصحافة، وذات مرة كنت أرغب في توثيق قصة لصديق كان قد اضطر للقتال بين صفوف النظام، ولم يكن مؤيدًا لهم، ولكنه لم يكن يؤيد الثورة أيضًا فهو فقط لا يريد أن يقاتل أحد وحاولنا توثيق قصته أثناء واحدة من عطلاته، لكن ذلك كان مستحيلًا فمجرد ترك المعلومات الشخصية هكذا لن يجعل للقصة معنى، لكن أي شيء قد يكشف عن هويتنا فهذا يضعنا في خطر، وبعد ثلاثة أعوام التقينا في إسطنبول حيث ضحكنا وبكينا وتبادلنا الحديث لساعات وكان يعد نفسه للسفر إلى أوروبا بعد أن نجح في الهرب من سورية، وعلى الرغم من أنه في المنفى إلا أن كتابة قصته كانت مستحيلة أيضًا، لأنها قد تورط أسرته وأصدقاءه الذين ساعدوه للمجيء إلى تركيا، بينما لا يزالون هم يعيشون في مناطق تخضع لسيطرة النظام الذي يمنع السوريين من رواية قصصهم حتى عندما يغادرون البلاد".
والصحافي الأخير رائد رزوق، رئيس تحرير مجلة زيتون، روى تجربته قائلًا "وصلنا لقرية تركية وأول يوم آمن منذ ثلاث سنوات، وفي أحد الأيام في شهر ايلول/سبتمبر الماضي، وبعد هجوم عنيف بالطائرات الهليكوبتر على منطقتي إدلب في شمال سورية، فقررت أنه حان الوقت للسفر مع عائلتي زوجتي وأطفالي إلى تركيا بحثًا عن الأمان، ووصلنا إلى الحدود في تمام الثامنة صباحًا مع أكثر من 50 عائلة أخرى، وانتظرنا بجوار أشجار الزيتون التي تبعد 500 متر عن الحدود ولم تكن لدينا جوازات سفر، فلم يكن مسموحًا لنا أن نعبر الحدود التركية بصورة شرعية ولم يكن أمامنا سوى دخول البلاد بطريقة غير قانونية، والتي سرعان ما عرفنا أنها ستشكل خطورة علينا، وباءت محاولتنا الأولى لعبور الحدود بالفشل وقتل بعضنا بالرصاص من قبل قوات الحدود التركية، وأصيب رجل في قدمه وصرخت النساء والأطفال".
واستطرد "بعد مرور هذا اليوم وبحلول المساء شعر الناس بالبرد والتعب، وأقنعت عائلتي أن نقوم بمحاولة أخرى لعبور الحدود، لكن الجنود الأتراك فتحوا النيران مرة أخرى، فانحنيت على أولادي وزوجتي لأحميهم من الرصاص الذي كان يمر فوق رؤوسنا وبكت ابنتي ذات الثمان سنوات وتوسلت إلى "خذني إلى المنزل فأنا لا أريد الذهاب لتركيا"، وبعدها هربنا إلى قرية صغيرة حيث وجدنا مسجدًا يمكننا البقاء فيه، وهناك وجدنا الكثير من الناس مثلنا، وفي تمام الساعة الثالثة صباحًا عدنا لنكرر المحاولة مرة أخرى فوجدنا حفرة عمقها 1.5 متر يمكننا الزحف من خلالها أمسك بزوجتي والرضيع البالغ من العمر ستة أشهر بيد، وفي اليد الأخرى أمسك بابنتي ذات الثمانية أعوام، حيث وصلنا لقرية تركية لنشهد أول شروق للشمس بأمان منذ ثلاثة أشهر.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر