نال أبناء المملكة المغربية العالم على عطف خاص واهتمام استثنائي من المؤسسة الملكية، سواء المغفور له الحسن الثاني أو الملك محمد السادس وهو عطف تجلى في اللقاءات المباشرة لكل من المغفور له الحسن الثاني، ومن خلال إنصاته لكل مشاكلهم والعمل على إعطائها ما يستحقها من حلول استعجالية أو إستراتيجية والحرص على مشاركتهم الرمزية في كل الأحداث والاحتفالات الدينية والوطنية؛ فحضورهم كان ضروريا في احتفالات عيد العرش وحفل الولاء والدروس الحسنية وغيرها.
وهكذا، سار الملك محمد السادس على نهج سلفه، حيث أضاف إلى الإنصات والعناية المولوية الخاصة خلق مؤسسات جديدة إلى جانب مؤسسات أخرى كانت قائمة في عهد المغفور له الحسن الثاني كوزارة الهجرة مثلا أو مؤسسة الحسن الثاني.
وهي مؤسسات ذات طبيعة تنفيذية أو ذات صبغة اجتماعية أو وظيفة استشارية، استفادت كثيرا من تراكمات ملف مغاربة العالم، سواء على صعيد التسميات أو المصطلحات؛ وهي التي عبرت عن طبيعة كل المراحل المهمة التي عاشها مغاربة العالم، بحيث إن الدارس لـ"كرونولوغية" التسميات يقف على مدى التطابق والتعبير عن طبيعة المرحلة التاريخية التي ميزت مغاربة العالم..
ويكفي أن نسرد هنا فقط جردا بسيطا لبعض تسميات مختلفة لمغاربة العالم، انطلاقا من العمال بالخارج إلى العمال والتجار بالخارج إلى الجالية المغربية المقيمة بالخارج والمغاربة المقيمين بالخارج، وصولا إلى تسمية مغاربة العالم.
وقد واكب كل هذه التسميات العديد من البرامج المرافقة أو الموازية، كان الهدف منها هو تبسيط الإجراءات الإدارية بالخارج أو لها علاقة بالمحافظة على علاقات الهوية والارتباط والانتماء إلى الوطن الأم أو برامج المساعدة الاجتماعية والمرافقة الروحية في المناسبات الدينية بدول المهجر وغير ذلك...
لكن مغاربة العالم هم في الوقت نفسه مغاربة وطنيون محبون لبلدهم المغرب حتى النخاع، ومدافعون عن مقدساته الوطنية ووحدته الترابية وعن مذهبه السني المالكي الوسطي... ويسهمون في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد ومصدر مهم للعملة الصعبة...
وهم في الوقت نفسه ينتمون إلى أكثر من دولة، ويتكلمون أكثر من لغة، وشربوا أكثر من ثقافة، ويتعاطفون مع أكثر من توجه فكري وسياسي بدول إقامتهم حتى وصل العديد منهم إلى مراكز القرار، سواء بالحكومات دول الإقامة أو ببرلماناتها أو بمؤسساتها المالية والاقتصادية ومستشارين كبار في البورصة أو بمعاهدها الكبرى وجامعاتها المرموقة وبمراكز البحث الكبيرة أو في محطاتها الإعلامية الكبيرة أو على رأس عُمُديات مُدنها..
كل هذا جعل من مغاربة العالم بالفعل "جيش المغرب الاحتياطي" المقيم بالخارج، ورأسماله اللامادي وسفراءه بالخارج.. كما جعل منهم مواطنين بمواصفات خاصة أو مواطنين " فوق العادة"..
لقد كان لمغاربة العالم موعد مع حسنات العهد الجديد، حيث شكل الحديث عنهم وعن مشاكلهم وعن استراتيجيات تدبير ملف الهجرة والمهاجرين حيزا مهما في كل الخطب والرسائل الملكية باعتبارهم مواطنين كاملي المواطنة أولا وأخيرا..
وقد ظهر الاهتمام الخاص لجلالة الملك محمد السادس بمغاربة العالم منذ أول خطاب للعرش في 30 يوليو/ تموز 1999.
"ومن الأمور التي سنوجه لها اهتمامنا الخاص قضايا جاليتنا القاطنة بالخارج، والتفكير الجدي في تذليل الصعاب التي تعترض طريقها والعمل على حل مشاكلها وتمتين عرى انتمائها للوطن الأم"..
وسيستمر الاهتمام بملفات الجالية المغربية بالخارج وبمشاك..
وهنا أيضا نستحضر خطابي المسيرة لسنتي 2005 و2006، حيث تم التأكيد على توسيع انخراط المهاجرين في تدبير الشأن العمومي من خلال الانخراط في المؤسسات المغربية المختلفة..
ويدخل في هذا الاتجاه أيضا الفصول 13 و14 و15 والمتعلقة بالديمقراطية التشاركية أي مشاركة فعالة للمجتمع المدني في تدبير الشأن العام عبر الإعداد أو التقييم أو المتابعة في شكل عرائض أو ملتمسات في مجال التشريع؛ وهو ما يتطابق مع ما جاء به الخطابين السالفين فيما يتعلق بتوسيع مشاركة الجالية في الشؤون الوطنية..
وأخيرا الفصل 163 والخاص بمجلس الجالية: "يتولى مجلس الجالية المغربية بالخارج على الخصوص، إبداء آرائه حول توجهات السياسات العمومية التي تمكن المغاربة المقيمين بالخارج من تأمين الحفاظ على علاقات متينة مع هويتهم المغربية وضمان حقوقهم وصيانة مصالحهم، وكذا المساهمة في التنمية البشرية والمستدامة في وطنهم المغرب وتقدمه".
إن الفصل 163 جاء مزيجا بين فقرات من خطابي المسيرة لسنتيْ 2005 و2006، وأيضا من ظهير تأسيس مجلس الجالية رقم 1.07.08 الصادر في 21 ديسمبر/ كانون الأول 2007.
وعليه، فإننا نخلُص إلى أن مكتسبات الجالية الدستورية هي نتيجة تطور طريقة اشتغال الدولة المغربية على موضوع الهجرة والمهاجرين من جهة، والاستشراف الجيد للخطابات الملكية في موضوع قضايا مغاربة العالم.
كما أن القُدرة على القراءة الصحيحة والاستباق الذي تميزت به الخطابات الملكية هي التي ستجعل خطاب 17 يونيو/ حزيران 2011 يخصص فقرة مهمة للمشاركة السياسية لمغاربة العالم، حيث حسم كل الجدل وجميع حالات الاستعمال السياسوى لتوقيت المشاركة السياسية بقوله: "أما فيما يتعلق بمواطنينا المقيمين بالخارج، فإنه سيتم تخويلهم تمثيلية برلمانية، متى نضجت الصيغة الديمقراطية لذلك؛ علما بأنهم يتمتعون بحق الانتخاب في مجلسي البرلمان".
إن التسلسل والتدرج السلس للخطب الملكية في التعامل مع قضايا مغاربة العالم يدل على أن إطلاق البرامج أو خلق المؤسسات التنفيذية أو الاستشارية ليس بالحدث الارتجالي أو للاستهلاك الإعلامي فقط، بل هو نسق وتوجه مبني على تصور واضح واستشراف قوي؛ لكن قراءة الخطب الملكية الموجهة لمغاربة العالم لا تكتمل بدون الحديث عن خطاب العرش في يونيو/ حزيران 2015، لأنه مثل بالفعل زلزالا للدبلوماسية المغربية بالخارج وصفعة موجهة إلى الإدارة المغربية بالخارج.
وقد جاء مضمون هذا الخطاب القوي جوابا عن كل الانتقادات التي وجهها الفاعلون ومغاربة العالم بصفة عامة على تردي الخدمات المقدمة بالقنصليات والسفارات المغربية بالخارج وعلى سوء الاستقبال وسوء المعاملة أو احترام الآجال والعراقيل الإدارية.
كما تعمد الخطاب إلى ذكر بعض التفاصيل الدقيقة في العمل القنصلي كتلك للحالة المدنية، من خلال سرد مشكل تسجيل الأسماء وتصحيح الأخطاء وغيرها.
ومن جهة أخرى، فقد تعمد الخطاب الإفصاح عن مصدر كل تلك الانتقادات والتي تلقاها الملك محمد السادس مباشرة من أفراد الجالية المغربية في لقاءاته المباشرة في جولاته بالخارج، حيث وقف جلالته على انشغالاتهم الحقيقية وتطلعاتهم المشروعة.
لقد استحق خطاب العرش يوم الخميس 30 يوليو/ تموز 2015 لقب "الزلزال الدبلوماسي"؛ لأنه تم تحديدهم بكل وضوح "البعثات القنصلية المغربية بالخارج" وأضاف بانشغال بعض القناصلة بقضاياهم الخاصة وبالسياسة على خدمة الجالية..
وكما عودتنا هندسة كل الخطابات الملكية بتضمنها، بالإضافة إلى التشخيص الموضوعي والواقعي، توجيهات لتصحيح وضعيات غير قانونية وغير مقبولة؛ وهو ما جعل الخطاب يتوجه إلى وزير الخارجية وتكليفه بتصحيح هذه الوضعية أولا، من خلال وضع حد لكل الاختلالات والمشاكل التي تعرفها بعض القنصليات، وإنهاء مهام كل من يثبت في حقه التقصير أو الاستخفاف بمصالح الجالية أو لسوء المعاملة.
وثانيا، من خلال موضوع اختيار القناصلة واشتراط التوفر على الكفاءة والمسؤولية والالتزام بخدمة أبناء الجالية..
ولتكون الغاية من كل هذه "الهزة الدبلوماسية" هي تحسين التواصل مع الجالية وتقريب الخدمات منها وتبسيط وتحديث المساطر واحترام كرامة وصيانة حقوق أفراد الجالية..
ولم يقف الخطاب عند هذا الحد، بل إنه طالب بالتعامل بكل الصرامة اللازمة مع كل من يحاول التلاعب بمصالح أفراد الجالية أو استغلال ظروفهم عند عودتهم إلى أرض الوطن أيضا.
كما عاد الخطاب إلى التأكيد على مشاركة مغاربة العالم في الحياة اليومية، من خلال الدعوة إلى تفعيل المقتضيات الدستورية الخاصة بإدماج ممثلي الجالية في المؤسسات الاستشارية وهيئات الحكامة "الفصل 18" ومجالات الديمقراطية التشاركية "الفصول 14 و15 من الدستور".
وجدد الدعوة لبلورة استراتيجية مندمجة تقوم على التفاعل والتنسيق بين المؤسسات الوطنية المختصة بقضايا الهجرة وجعلها في خدمة مصالح مغاربة العالم، مُشيرا في هذا الصدد إلى الاستفادة من التجربة والخبرة التي راكمها مجلس الجالية، بما فيها إقامة مجلس الجالية يستجيب لتطلعات مغاربة العالم..
إن خطاب العرش 30 يوليو/ تموز 2015 اعْتُبر إجابة واضحة من جلالة الملك محمد السادس على كل انتقادات مغاربة العالم، ورغبتهم في إدارة ترقى إلى تطلعاتهم وتستجيب لرغباتهم المشروعة... وهو نابع من حرص جلالته على رعاية شؤون أبناء الجالية وتوطيد تمسكهم بهويتهم وتمكينهم من المساهمة في تنمية وطنهم..
ومن جهة أخرى، فان مغاربة العالم وقضاياهم وانشغالاتهم وطموحاتهم ومشاكلهم كانت حاضرة دائما وبقوة في كل المحطات التاريخية، وحاضرة في كل الخطب التاريخية والمحطات والأحداث الدولية..
وهنا نسوق خطاب 20 أغسطس/ آب لسنة 2016 وما عرفته تلك السنة من أحداث إرهابية جبانة باسم الدين الإسلامي وباسم الجهاد، والتي كانت ساحتها هي بعض الدول الأوروبية، حيث يُقيم القسم الأكبر من مغاربة العالم، فأطلق أمير المؤمنين الملك محمد السادس عبارة "كلنا مستهدفون" ودعا مغاربة العالم إلى التشبث بالدين الإسلامي الوسطي والحفاظ على السمعة الطيبة للمغرب وللمسلمين والدفاع عن السلم والعيش المشترك داخل مجتمعات الإقامة، ولهم في نموذج التعايش بين الحضارات في الأندلس واحدة من النقاط المنيرة في التاريخ الإسلامي.
إن الخطب الملكية المتعلقة بمغاربة العالم شكلت لحظات تاريخية التحم فيها العرش المغربي بمغاربة العالم من خلال الإشادة بدورهم الفعال في التنمية والسلم المجتمعي والتطور المجتمعي والديمقراطي المغربي، وبادلته الجالية بكل مشاعر الحب والوفاء والولاء في كل محطات رحلاته وترحاله، في مشاهد تشقعر لها الأبدان وصور تُخلد الالتحام الروحي بين الملك محمد السادس ومغاربة العالم..
ولا غرابة من هذا العطف الخاص والاهتمام الاستثنائي من الملك لفائدة مغاربة العالم..
لذلك، فإن نشر خطاب ملكي واحد فقط حول الجالية أو خص مغاربة العالم في إحدى فقراته يعدّ غير مجدي وغير كاف؛ لأننا نرى أن مناقشة وتناول الخطابات الملكية لقضايا مغاربة العالم هي نسق كامل ومتكامل وهو تصور مبني على برامج إستراتيجية ورؤى استشرافية واضحة..
ومن هنا، فإن قراءة الخطابات الملكية في علاقتها مع مغاربة العالم يجب أن تُقرأ في شكل "كرونولوغي" وتطور تاريخي يضم مجموعة من الخطب قد تمتد لعشرات السنوات بدون أن نُحس بأن هناك فرقا أو تناقضا، بل هو تكامل وانسجام وتماهٍ.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر