ظهر زعيم تنظيم "داعش" أبو بكر البغدادي لأول مرة منذ يوليو/تموز 2014 في مقطع مصور بعث فيه رسالة إلى العالم مفادها أن التنظيم لا يزال موجوداً وقيادته حية وعازمة على تكثيف هجماتها حول العالم. ورحّب البغدادي، الذي كانت آخر رسالة صوتية له في أغسطس/آب 2018، بالمنتسبين الجدد إلى "دولة الخلافة"، في مالي وبوركينا فاسو وسريلانكا.
أما الفيديو الأخير فأشار للمرة الأولى، إلى أن للتنظيم وجوداً في تركيا من خلال عرض البغدادي ملفاً كان يحمل عنوان "ولاية تركيا". ومما لاشك فيه أن ظهور زعيم التنظيم "يعزز الروح المعنوية لدى مقاتليه وأنصاره"، وخاصةً أنه حرص على الظهور بمظهر القوي والواثق من قوة التنظيم حالياً ومستقبلاً.
دفع ظهور البغدادي مؤيدي التنظيم إلى إطلاق حملة تجديد ولائهم له في مواقع التواصل الاجتماعي، وغير كثيرون صورة بروفايلاتهم في صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي واستبدلوها بصورة البغدادي الجديدة. ونُشر المقطع المصور للبغدادي في 29 أبريل/نيسان الماضي عبر تطبيق تلغرام، ومدته 18 دقيقة، من قبل مؤسسة "الفرقان"، التي تختص بنشر رسائل التنظيم ومقاطع الفيديو النادرة والمهمة الخاصة. إذاً ما الذي نستنتجه من هذا الفيديو؟
التوقيت والإعداد
يعود تاريخ إنتاج الفيديو إلى شهر شعبان 1440 هجري، الذي بدأ في 6 أبريل/نيسان وينتهي في 6 مايو/أيار 2019، أي قبل بداية شهر رمضان، وهو الشهر الذي يصعّد فيه الجهاديون عادة هجماتهم وحملاتهم الدعائية.
وفي الشريط المصور، يتحدث البغدادي عن الأحداث الأخيرة، مما يؤكد أن رسالته سجلت خلال شهر أبريل/نيسان الماضي. إذ يأتي على ذكر فوز بنيامين نتنياهو برئاسة الوزراء في إسرائيل بولاية رابعة والإطاحة برئيسي السودان والجزائر إثر احتجاجات شعبية. وجرت هذه الأحداث جميعها في أبريل/نيسان.
ولكنه علّق على هجمات سريلانكا التي جرت في 21 أبريل/نيسان أيضاً، والتي أعلن تنظيم "داعش" مسؤوليته عنها في رسالة صوتية، يبدو أنها أضيفت إلى الشريط المصور، مما يشير إلى أن الفيديو تم تصويره قبل تفجيرات عيد الفصح. كما أن الفيديو لا يشير إلى مكان التسجيل لأسباب أمنية كما هو واضح. إلا أن إعداده تم بعناية فائقة.
قوات سورية الديمقراطية تأسر أمريكيين يقاتلان مع تنظيم داعش ويُظهر الفيديو البغدادي وهو يستقبل مسؤولي التنظيم ويناقش معهم شؤون "الخلافة". وقد يكون ذلك المكان الذي يجلس فيه البغدادي والرجال الملثمون الثلاثة، خيمة. وكان عنوان الفيديو هو "في استقبال أمير المؤمنين، الخليفة إبراهيم بن عواد البدري الحسيني القرشي البغدادي، حفظه الله".
تم تصوير هذا الفيديو وهو يتحدث إلى ثلاثة من رجاله ليظهر، كما يبدو، بمظهر القوي الذي ليس على قيد الحياة فحسب، بل لا يزال يلعب دوراً حيوياً في إدارة شؤون "الخلافة" ومستقبلها. كما أن السترة التي يرتديها البغدادي والبندقية التي بجانبه، هي للدلالة على أنه ليس مجرد قائد، بل زعيم ومقاتل.
ويقول مراسل بي بي سي للشؤون الأمنية، فرانك غاردنر، إن مظهر البغدادي والإعداد المتقن للفيديو، يذكران بمقاطع الفيديو التي ظهر فيها زعيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن. وقارن الباحث الأمني، كول بونزيل، مستوى وإعداد شريط الفيديو مع ذلك الذي أعد في عام 2006 من قبل أبو مصعب الزرقاوي، الزعيم "لتنظيم الدولة الإسلامية" في العراق آنذاك. وتُقدم للبغدادي "تقارير شهرية" من مختلف فروع التنظيم، ويتفحصها بشكل عابر، وهذه لفتة أخرى للإشارة إلى انخراطه في إدارة التنظيم.
انتشار عالمي
أراد التنظيم من خلال الفيديو، الظهور ليس بمظهر القوي الذي عانى من خسارات إقليمية فحسب، بل الواثق من قدراته على الاستمرار في جذب منتسبين جدد وشن هجمات دامية حول العالم. وظهر ذلك من خلال ترحيب البغدادي بالمنتسبين الجدد إلى "الخلافة" وعلى الأخص في مالي وبوركينا فاسو.
وكان التنظيم قد أعلن عن وجوده هناك لأول مرة، في أواخر مارس/آذار، عندما وجه البغدادي تحية لمن سماه بـ "أخونا أبو الوليد الصحراوي"، في إشارة محتملة لقيادة الصحراوي لفرع التنظيم في تلك المنطقة.
جماعة "خراسان"
في أكتوبر/تشرين الأول 2016، اعترف تنظيم "داعش" بأن الصحراوي بايع البغدادي وتعهد بالولاء له. وكان الصحراوي وقتها قائداً لجماعة جهادية تابعة لتنظيم القاعدة في منطقة الصحراء. وعلى الرغم من أن البغدادي لم يشر إلى أحدث فروع التنظيم، الموجودة في أفريقيا الوسطى، والتي أعلنت في أبريل/نيسان بعد الهجمات في جمهورية الكونغو الديمقراطية، فقد شوهد وهو يتصفح ملفاً يحمل اسم هذا الفرع.
كما أشار إلى مبايعة جماعة متشددة جديدة له في خراسان، دون توضيحات إضافية، لكنه أشار فقط إلى انشقاقها عن مجموعات أخرى. ويستخدم التنظيم مصطلح "خراسان" للإشارة إلى أفغانستان وباكستان. وأعلنت جماعة خراسان مسؤوليتها عن الهجمات التي حصلت في كشمير الخاضعة للإدارة الهندية، وعن هجوم واحد في إيران في يناير/كانون الثاني 2015.
تغيير نموذج "دولة الخلافة"
بارك البغدادي هجمات المسلحين في سريلانكا وأشاد بانضمامهم إلى "داعش"، وأشاد بهجماتهم الأخيرة هناك وحثهم على الوحدة. ومن المثير للاهتمام، أن المشهد الأخير في الفيديو الذي يظهر فيه أن البغدادي يتصفح ملفاً كُتب عليه عنوان "ولاية تركيا"، التي لم يعلن عن وجودها هناك سابقاً، الأمر الذي أسعد أنصاره متوقعين نشاطات للتنظيم في تركيا.
وتضمنت الملفات التي كان يطلع عليها البغدادي في الشريط المصور، ملفات "تونس" من دون ذكر كلمة "ولاية" في مقدمتها، إذ يعمل التنظيم على تعزيز وجوده هناك من أجل تأسيس موطئ قدم له في تونس. ويدعو البغدادي أثناء نقاشه أمور التنظيم مع ثلاثة من المسؤولين في التنظيم، مضاعفة الجهود وتكثيف الهجمات ضد من يصفهم بالصليبيين والمرتدين وأولئك الذين يساعدونهم".
ومنذ أن خسر التنظيم آخر معاقله في شرقي سوريا في بلدة الباغوز، حرص على تعزيز وجوده العالمي، معلناً للمرة الأولى وجوده في مالي وبوركينا فاسو وجمهورية كونغو الديمقراطية ، فضلاً عن أول هجوم له في سريلانكا في نفس يوم ظهور البغدادي. كما زعم التنظيم شن هجوم في بنغلاديش، وقد فشلت المجموعة في النمو بعد الهجوم الدامي على مقهى في يوليو/تموز 2016.
ومن الناحية الاستراتيجية، طلب البغدادي من مسلحي التنظيم الاستعداد لحرب طويلة الأمد مع أعدائهم، وأمرهم بخوض حربٍ من شأنها أن تستنزف قدرات العدو. وبدا البغدادي في رسائله إلى أنصاره أقل عزماً في اتباع النموذج القديم "لدولة الخلافة" التي اتبعت سياسة الاستيلاء على أراض والتمسك بها، ويميل أكثر إلى تنفيذ عمليات إرهابية على مستوى العالم من خلال توسيع علاقاته مع المتشددين في جميع أنحاء العالم.
هجمات سريلانكا
جاء تعليق البغدادي على هجمات سريلانكا في شكل مقطع صوتي نُسب إليه، مما يشير إلى أن التسجيل الصوتي تم بعد إعداد الفيديو الخاص به. ويبدو أن البغدادي حرص على الاستفادة من هجمات سريلانكا، إذ أشاد بالذين قاموا بتلك الهجمات قائلاً: "إنهم أزعجوا الصليبيين في عيد الفصح، انتقاما لإخوانهم في الباغوز"، مضيفاً بأن تلك التفجيرات ليست إلا "جزءاً من الانتقام الذي ينتظر الصليبيين ورجالهم".
وجاء ترحيب البغدادي بـ هجمات سريلانكا بعد أن علم بوجود ضحايا أمريكيين وأوروبيين. ولم يقدم البغدادي أي معلومات إضافية حول مدى ضلوع التنظيم في تلك التفجيرات. وفي أعقاب خسارته للباغوز في سوريا في أواخر مارس/آذار الماضي، أطلق التنظيم حملة عسكرية جديدة للانتقام لمقاتليه الذين قتلوا هناك تحت اسم "حملة الانتقام".
الباغوز
خصص البغدادي جزءاً كبيراً من رسالته على خسارة تنظيمه للباغوز. إذ حاول التقليل من حجم هزيمته هناك من خلال تسليط الضوء على محاربة مقاتلي التنظيم "بشجاعة" حتى النهاية. وتحدث بشكل مستفيض عن ما سماه "صمود" أتباعه في الباغوز، وكيف أن هذا الصمود بلغ درجة النصر وألهم أتباع التنظيم في أجزاء أخرى من العالم المثابرة والمضي قدماً". ووجه تحياته إلى قادة التنظيم البارزين الذين شاركوا في معارك بلدتي الباغوز وهجين المحاذيتين للحدود العراقية.
وأتى على ذكر أسماء العديد من الأشخاص الذين قتلوا في تلك المعارك، وهو أمر لا يقوم به التنظيم عادة، حتى لو كان المذكورون أمواتاً. ومن بين "الأمراء" أي القادة المحليين في "الولاية" الذين كانوا في الباغوز وهجين، "عبد الرحمن العنكري التميمي" من السعودية، وخلفه "أبو هاجر عبد الصمد العراقي الطالبي" الذي يوحي اسمه بأنه عراقي ، ويليه "أبو الوليد السيناوي" الذي يشير اسمه إلى أنه مصري من سيناء، ثم "عبد الغني العراقي"، وأخيراً "أبو مصعب الحجازي من السعودية".
وأثنى على جهود مقاتلي التنظيم في معارك شرقي سوريا من جميع الرتب والمستويات من مسؤولين دينيين وإداريين وعاملين في مجال الإعلام، وكان من الواضح من أسماء الكثيرين منهم أنهم أجانب. ومن بين الأسماء التي ذكرها من وصفهم بـ "فرسان وسائل الإعلام"، أبو عبد الله الأسترالي من أستراليا، وخلاد القحطاني من السعودية وأبو جهاد الشيشاني من الشيشان وأبو أنس فابيان الفرنسي الذي يعرف أيضاً باسم فابيان كلاين وشقيقه أبو عثمان المعروف أيضًا باسم جان ميشيل.
ونسب الفضل إلى أبو ياسر البلجيكي وأبو طارق العراقي وغيرهم في توفير الخدمات اللوجستية والتنظيمية اللازمة للمقاتلين لأداء وظائفهم. وعلى النقيض مما قاله أتباعه عن "الحصار الخانق" والظروف المأساوية في الباغوز، فقد ظهر البغدادي بصحة جيدة بشكل عام.
احتجاجات البلدان العربية
وجاء على ذكر الاحتجاجات الكبيرة في الجزائر والسودان والتي أدت في أبريل/نيسان الماضي إلى الإطاحة برئيسي البلدين. وعلى عكس تنظيم القاعدة الذي امتدح وأثنى على الاحتجاجات في البلدين، في محاولة واضحة منه لاستغلال الأحداث، قال البغدادي : "لا فائدة من اقتلاع جذور النظام السابق، فقد يظهر طغاة جدد أسوأ من الأنظمة القائمة، وركز على أن الجهاد العنيف هو السبيل الوحيد للمضي قدماً".
هل تعيد احتجاجات السودان والجزائر إحياء الربيع العربي من جديد؟
"اتحاد"
أراد البغدادي إظهار فروع التنظيم في الشتات على أنها تعمل كجسم واحد. وعلى الرغم من أن ملاحظاته كانت مصممة بشكل واضح لتصوير التنظيم على أنه قوي ومتماسك، فقد كان يقصد بها نفي التقارير التي تحدثت عن الانقسامات الداخلية التي ابتلي بها التنظيم عقب خسائره الإقليمية واتهامه بسوء الإدارة والتطرف الشديد.
وفي ما يتعلق بالباغوز، قال البغدادي إن حملة الانتقام التي شنتها فروع التنظيم حول العالم، والتي قال إنها بلغت 92 عملية في ثمانية بلدان مختلفة هي بهدف إظهار "وحدة" أعضاء التنظيم. وحث أنصاره في سريلانكا وأفريقيا على الالتزام بالوحدة في أقوالهم وأفعالهم. والجدير بالإشارة، أن بعض وسائل الإعلام الرئيسية كانت قد ذكرت سابقاً أن البغدادي نجا من محاولة اغتيال من قبل مقاتلين أجانب في التنظيم. كما انتشرت وثائق أخرى حول بروز انقسامات داخل صفوف التنظيم.
قد يهمك أيضاً :
ظهور "مُفاجيء" للبغدادي يُجدّد سيناريوهات عودة "داعش" وخبراء يعتبرونه "عاجزًا"
أبو بكر البغدادي يظهر في فيديو جديد لأول مرة منذ 2014
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر