يستعد مركز "باربيكان"، الذي يعد أكبر مركزًا للفنون التعبيرية في أوروبا، لإقامة معرضًا لاستضافة المنزل الياباني، في غابة فسيحة غرب ساسكس، في مصنع الفحم الموجود في الغابة، والذي يمتلكه المهندس المعماري الياباني، تيرونوبي فوغيموري، وتستند مدخنة المصنع الطويلة المتفحمة على بيت خشبي صغير رابض فوق عارضة خشبية، تنطلق من داخلها ألسنة من النيران الشديدة، وتتساقط ألسنة النيران على الأرض محدثة صوت ارتطام قوي، لتخلف ورائها سحابة من الدخان.
يقول المهندس المعماري والمؤرخ الياباني تيرونوبي فوغيموري، صاحب السبعين عامًا: "لا يمكن أن يستخدم أي مهندس ماهر تلك المواد"، عندئذ يحاول فوغيموري وضع بعض الورق في دلو من البنزين ثم يضيف مبتسمًا: "ولهذا السبب أنا أحب استخدامها".
وحقق فوغيموري، شهرة كبيرة في اليابان بعد أن شيد مبانٍ صغيرة تحمل تصاميم خادعة لا تحذوا حذو التصاميم المعتادة، فهي مصنوعة يدويًا وتشبه إلى حد كبير أعشاش الطيور المصنوعة من الخوص أو القش أو حتى المواد العضوية التي تكتنز بها الغابات، لقد شيد فوغيموري مقهًا صغيرًا لنفسه في مدينة ناغانو اليابانية، وذلك فوق جذعين من جذوع الأشجار، وذلك لأنه فيما يقول فوغيموري-إذا بُني على جذع واحد سيكون مهددًا بالانهدام، أما إذ بني على ثلاثة فسيكون مستقرًا جدًا ومملاً للغاية. ثم شيد مقهًا آخرًا أطلق عليه اسم "قارب الطين الطائر"، معلق بالأسلاك على غرار جراب البذور العائم، تحمل تصاميمه روح عوالم السحر، فهي لها أسقفًا كبيرة للغاية ومداخن متزعزعة تتخللها فتحات صغيرة ونوافذ على شكل الكوة، كأنما حول منازل الرسوم المتحركة اليابانية "المانغا" إلى حقيقة.
ويعد مصنع الفحم الموجود في الغابة، والذي يمتلكه المهندس المعماري الياباني، ضمن خطة استعداده لإقامة معرضًا في مركز "باربيكان"، لاستضافة المنزل الياباني، فقد كان يستعد لهذا المعرض منذ عام 1945، وهو يعكف الآن على تشييد مقهى في المعرض باستخدام الجدران الخشبية المتفحمة والتي تعد بمثابة علامة مميزة له، وعند زيارة المعرض سيدخل الرواد عبر بوابة منخفضة، ثم يسيرون في رواق متعرج عبر التلال المعشبة للوصول إلى مقصورته السوداء، والتي تستند بشكل مميز على قدمين ولها باب صغير أعلى السلم، ويقول فوغيموري عن هذا الأمر: "المنزل الصغير أو المقهى لا يمكن الدخول إليه إلا وأنت زاحفًا أو راكعًا حتى تظهر احترامك لحفل الشاي".
يتميز المنزل المعروض في مركز "باربيكان" بجدران خرسانية كثيرة العقد وهي تعكس تناقضًا صارخًا مع الألواح الخشبية المتفحمة المزدانة بجلد التمساح الأسود، لطالما تم استخدام شعائر "ياكاسوغي" اليابانية القديمة، في ختم الأخشاب لحمايتها من التعفن والمطر، وذلك قبل اختراع الطلاء المانع لتسرب الماء، وتتجلى هذه الشعائر البدائية في تصميم فوغيموري، الذي حاد عن الطراز الكنسي المعماري التقليدي، وعن هذا يوضح فوغيموري قائلاً إن "تاريخ العمارة أقدم بكثير من تاريخ المهندسين المعماريين"، مشيرًا بذلك إلى أنه استفاد من خبرته كمؤرخ، وأضاف: "لقد وضعت قاعدة وهي أن عملي لا ينبغي أن يكون بمثابة مرجعًا في تاريخ العمارة".
يشعر فوغيموري بالغبطة لأنه كما يصف نفسه "هاو محترف"، فهو يخلق تصميماته بمساعدة حفنة من الأصدقاء، تضم روائيين ورسامين وكاهنًا وناشرًا فضلاً عن شركة "غومون" الشهيرة، ولحسن حظ الشركة أن أسمها مستوحى من حقبة "غومون" التاريخية في اليابان، وهو ما أخذه المصمم الياباني في الاعتبار، لقد استخدم هؤلاء الفنانين أدوات أساسية لإضفاء شعور الدفء ولمسة النحت على تصاميم فوغيموري، بيد أن لمستهم الخفيفة على تصاميمه هي ما زينتها بالتفاصيل الفريدة والغريبة، مثل نبتة الكراث المزروعة على الأسطح والكتل الفحمية الموضوعة بين ثنايا سقوف الجص.
إن فوغيموري قد حصل أولى بعثاته في سن الـ44، وهو ضمن 40 مهندسًا معماريًا سيعرضون أعمالهم في هذا المعرض الطموح، الذي يضم أكثر من 200 عمل وتصميم، ويكشف عن فن العمارة الياباني الرائع الذي احتل مكانة مرموقة بين فنون العمارة الأخرى على مدار العقود السبعة الماضية، كما سيعرض المعرض أعمالاً تعكس روح التفاؤل اليابانية فيما بعد الحرب العالمية الثانية، ووعود الإنتاج الضخمة التي ذاعت في "يابان ما بعد الحرب"، بالإضافة إلى ردود الفعل التي اتخذت ضد اليابان الجديدة الشجاعة، والتوق إلى الحرفية والتقاليد اليابانية، والتجارب البيئية لحقبة السبعينيات وتليها أحلام الاقتصاد العملاق في الثمانينيات.
ولطالما كانت المنازل الخاصة في اليابان تربة خصبة لأفكار جديدة، وهذا يعزوا إلى ارتفاع الطلب على المساكن الجديدة، ناهيك عن أن جزءًا كبيرًا من النسيج الحضري قد تعرض للطمس جراء الحرب العالمية الثانية، والكوارث الطبيعة التي تتعرض لها البلاد، لذا فإن المنازل هناك تعتبر مكان إقامة مؤقت لفترة لا تتجاوز الـ30 عامًا، لذلك فهي تحافظ على استمرارية وتيرة البناء في اليابان، وتعمل على تعزيز الابتكار بصورة دورية.
وتقول القيمة الفنية على مركز باربيكان، فلورنس أوستند: "قد تبدو فكرة المعرض غريبة بالنسبة لنا نحن الغرب، ولكن في اليابان يعتبر المنزل أحد الأشياء القابلة للزوال، فما ما أكثر اليابانيين الذين يهدمون منزل أسرهم ثم يعيدون بناء منازلهم الخاصة بسبب ضريبة الميراث، وليس هناك موقفًا شبيهًا بذلك الموقف في سبيل حفظ التراث".
وأضافت أن "العديد من المنازل التي يستضيفها المعرض لم تعد قائمة"، ويعتبر المنزل في اليابان أحد الوسائل للتعبير الذاتي لعدم وجود سوق للمنازل المستعملة، وهو أحد الأسباب التي جعلت اليابان تضم أكبر نسبة من المهندسين المعماريين في العالم أجمع، إن المعرض متخم بالخنادق الخرسانية الشفقية والفوانيس المضيئة الشفافة، والمنازل التي تدير ظهرها عن المدينة، ومنازل أخرى تحاول إعادة روح المدينة داخلها وفتح مسرح الحياة المحلية ليراها الجميع.
وفي السبعينيات، صمم عاشق الكوسمولوجي، كيكو موزونا، منزله على طراز "الكون المتداخل"، بأن صمم سلسة من مكعبات مختلفة الحجم ذات فتحات مثلثة لبناء ما أسماه "صندوق ضد المسكن"، في حين قام المصمم المعماري، كازوماسا ياماشيتا، بتصميم منزلاً لأحد مصممي الغرافيك، من خلال التلاعب بفكرة الواجهة عن طريق ترتيب نوافذ المنزل وإدخال بقعة من الضوء إلى المنزل.
الاختراعات الأخرى جاءت نتاجًا للضرورة، فعندما انتقل تاكاميتسو أزوما إلى طوكيو مع عائلته في الستينيات، كان في مقدوره فقط شراء قطعة أرض مثلثة بمساحة 20 متر مربع، لذا قرر تشييد برج طولي مذهل بداخله غرف فوق بعضها، بينما صمم الديكور الداخلي في مساحة واجدة مستمرة حول درج حلزوني.
وفي معركة ملحمية بين الإنسان والمدينة، صمم راقص البوتو السابق، كيسوكي أوكا، منزل أحلامه في طوكيو على مدار العقد الماضي، مدفوعًا بالرغبة في بناء المنزل بطريقة "ارتجالية" مثل الرقص، فنراه يصب الألواح الخرسانية في قبو منزله باستخدام مجموعة متنوعة من الأدوات المنزلية لتزيين القوالب.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر