في شهر رمضان الكريم ينسحب الطعام من الموائد في النهار، فيعوّض نفسه بأكثر من صورة، وحيثما أمكنه أن يفعل.وهكذا تنبعث وصفات من الراديو، وبرامج تُبث على القنوات التلفزية، وصفحات خاصة بمختلف "المشهيات" تنشرها الجرائد والمجلات، وصور لأطباق شهية تملأ مواقع التواصل الاجتماعي، كما أن الطعام بات موضوعا يثار في المكالمات الهاتفية بين الأهل والأحباب..
ولا يعود هذا الطعام إلى نفسه من جديد إلّا بحلول مائدة الإفطار في الشهر الفضيل.
جريدة "هسبريس" الإلكترونية ارتأت أن تتحف قرائها خلال شهر رمضان المبارك بحلقات من كتاب "ديوان المائدة" للشاعر والكاتب المغربي المتألق سعد سرحان، وهو يقدم صورا غير مألوفة للطعام .. شهية طيبة:
المائدة 1
حجر الزاوية
الطعام للجسد كالعقيدة للروح والفن للوجدان... به ولأجله ظل الإنسان على قيد الوجود منذ الطريدة الأولى حتى آخر ما تفتقت عنه الصناعات الغذائية من تعليب وتلفيف وتبريد... لذلك ظل في صلب اهتمام كل نشاط أو إبداع بشري.
فالهندسة المعمارية تضعه في حسبان تصاميمها إذ تفرد له معظم البيت: المطبخ، المرحاض، غرفة المعيشة ومخزن المؤونة. أما الهندسة المدنية فقد انتبهت منذ القدم إلى مركزية الطعام، فخصته بأهم الشرايين في قلب المدن العتيقة: سوق الجزارين، سوق الخضار، وسوق العطارين... وهي الأسواق التي لها نظائر مصغرة في باقي الأحياء والتجمعات السكانية نظرا لكونها الأسواق التي تصب في الأطباق. وإذا أضفنا إليها محلات البقالة والمقاهي والمطاعم والمحلبات والأسواق الممتازة وأهراء الجملة وباعة التقسيط... سنجد أن الطعام قد احتكر معظم المدينة. وبعيدا عن المدار الحضري، فإننا لا نجد سوى الحقول والوديان والضيعات والحظائر... وهي المهود الأصلية لكل طعام. ولذلك فخارج البيت أو داخله، داخل المدينة أو خارجها، يبقى الطعام سيد المكان. ولعله كذلك منذ لعنة التفاح التي زَجَّت بالإنسان في الأرض، فإذا هو يسعى لأجل بطنه مثلما سعت على بطنها تلك الأفعى. وهو السعي الذي كان وراء ظهور ما يسمى الآن بالعمل. لذلك فإن الطعام والعمل مدينان لبعضهما بدين يؤديه الإنسان لهما معا.
إن العضلات التي شَيَّدت الأهرام والأبراج والمعابد والجسور والسفن، وقارعت السيوف في الحروب، وركبت الأهوال من أجل الاستكشاف، وحطمت الأرقام القياسية في الجري والسباحة، وسجلت الأهداف في المباريات... ما كان لها أن تفعل لولا الطاقة التي تستمدها من الطعام.
وإن العقول التي أبدعت الإبرة والعَجلة والمفتاح وحبة الدواء والهاتف والزراعة المغطاة... وأركبت الإنسان بساط الريح فالطائرة، قبل أن تُسفر له عن الوجه الحقيقي للقمر وأترابه في درب التبانة... هذه العقول التي تجترح المعجزات كل يوم وهي تحقق مخطوطة الميتافيزيقا كأنجح ما يكون التحقيق... ما كان لها أن تفلح في ذلك لولا رصيدها من المادة الرمادية وما تتغذى عليه من طعام.
لهذا، ولكثير غيره، فإن الطعام هو حجر الزاوية في صرح الحضارة البشرية، البشرية التي ما كان لها أن تستمر وتتكاثر وتزداد نضارة... لولا الطعام وما يضخه في أصلابها من ماء.
أما بالنسبة لباقي الكائنات، فيكفي بعضها مجدا أنها تُحَوّل طعامها إلى عنبر وحليب، وعسل وطيب... ولنا فقط أن نتأمل كيف يصير العشب في البرية مِسْكًا في دم الغزال.
فهل، بعد كل هذا، يحتاج الطعام إلى شفيع يُدخله جنة الأدب، وهي أقل رحابة من جنانه؟
هندسة التضاريس
تاريخ الطعام هو تاريخ الصيد والزراعة وتربية المواشي... لذلك فإن الأرض، بتضاريسها المختلفة، كانت المسرح الذي شهد فصوله. ولعل ذلك ما يفسر الشبه الكبير بين خيرات الأرض وبين الأرحام التي تخلَّقت فيها. ففي اليابسة، تجد الأغصان والأشواك والأحجار ما يقابلها عند الأيائل والقنافذ والثمار. وفي البحر، لن نحتاج إلى كثير من الخيال لنرى في الأرخبيل البعيد، مثلا، قطيعًا من حوت العنبر.
في الأسواق الشعبية، تُعرض الخضار على شكل تلال، والقطاني والحبوب على شكل كثبان، واليقطين على شكل جبال، واللحوم والفواكه على شكل أكوام... فإذا هي أسواق ذات تضاريس تتردد فيها مواويل الباعة إذ يعلنون عن بضائعهم، ويتخللها القصب والدُّوم في سلال وقفف الزبائن.
وفي البيوت العتيقة التي كانت تخصص غرفة للمؤونة، يتم تخزين الطعام في الخوابي والدّنان والأوطاب وأكياس الخيش وهلم جِرارًا... وهي المواعين المصنوعة من الجلد أو القصب أو الطين، ولا يفوقها شبها بالتضاريس سوى الأثافي والحطب.
حين يصل الطعام إلى المائدة، بعد رحلته الشاقة من رمضاء الطبيعة إلى نار المطبخ، يكون ولاؤه للتضاريس قد اكتمل تماما. ولنا فقط أن نتأمل قصعة الكسكس لنرى جبلا بركانيا مكلل القمة مبلول السفح.
ثم بدأت التضاريس تتراجع لفائدة الهندسة.
لقد أصبح للفلاحة والصيد البحري وزارة وصية تقوم بشؤونهما من تشريع قوانين وإصدار رخص وإنشاء معاهد ومراكز بحوث، وظهر خبراء الفلاحة ومهندسو الزراعة والبياطرة، وانتشرت الجرارات وآلات الحصاد، وحلت الأسمدة الكيماوية محل الروث، وبدأت البيادر تختفي بعد أن صار التبن يُحفظ على شكل مكعبات. هذا الرغد طال الزرع والضرع والشجر. فظهرت الزراعة المغطاة وباتت الحظائر غير الحظائر وانتشرت فواكه لم تكن في البستان. وقد لا ننتظر طويلا قبل أن نستقدم من اليابان زراعة السطوح والبطيخ المكعب. أما بخصوص الصيد البحري فيكفي أن نلاحظ كيف أصبحت الصنارة على الشاطئ مجرد علامة استفهام حول ما يحدث في أعالي البحار.
أما في الأسواق الممتازة، فالهندسة سيدة المكان، بدءًا من العربات المدفوعة حتى الأكياس البلاستيكية المستطيلة، مرورًا بالأروقة والرفوف حيث تعرض السلع على شكل مجسمات اعتيادية، وحيث لا وجود للباعة ومواويلهم. فالسلع تقدم نفسها بالأرقام من سعة ووزن ومدة صلاحية وسعر طبعا. أما الإعلانات فهي صامتة تماما، وتتكفل بها لوحات مكتوبة وأخرى ينتابها الضوء.
وما إن تصل هذه البضائع إلى البيت حتى تجد في انتظارها خزانة المطبخ والثلاجة والمُجَمِّد... وهي أجهزة ذات رفوف وخانات صُمِّمت خصيصا لها. وقبل الشروع في الطبخ لا بد من مراجعة هذا الكتاب أو ذاك، حيث تقدم الوصفات بالغرام والملعقة والكأس والمكعب... بعد أن كانت ربات البيوت قديما يعتمدن على ذاكراتهن، ويسمحن لأكفهن بتقدير المقادير، فإذا لأطباقهن لذة تؤكل على إثرها الأصابع.
حين يصل الطعام إلى المائدة، بعد رحلته الشيقة من السوق الممتاز إلى الميكروأوند، يكون إخلاصه للهندسة كأوضح ما يكون الإخلاص. ولنا فقط أن نتأمل البيتزا والغراتان وأضرابهما.
رحلة الطعام من التضاريس إلى الهندسة لا تزال مستمرة. ويقينًا أنها لن تنتهي أبدًا، إذ أيُّ طباخ هذا الذي يستطيع أن يُهَنْدِسَ اللحم بالخرشوف، وهو طبقٌ طاعنٌ في التضاريس؟.
قد يهمك ايضا
الملك محمد السادس يعطي تعليماته لانطلاق عملية توزيع الدعم الغذائي لرمضان
شاهد: لقطات ترصد الأجواء من الحرم في أول أيام رمضان
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر