قال الاقتصادي نجيب أقصبي إن التقرير العام للنموذج التنموي الجديد المقترح من طرف اللجنة التي ترأسها شكيب بنموسى، يتضمن تشخيصا سطحيا ومغلوطا ولا يتجاوز الخطوط الحمراء رغم الدعوة الملكية لتقديم الحقيقة حول الوضع ولو كانت قاسية.
وأشار الأستاذ الجامعي، في هذا الحوار مع هسبريس، إلى أن اللجنة الملكية تجنبت طرح السؤال حول الاختيارات التي اعتمدها المغرب منذ خمسين سنة وأقر الجميع بفشلها، وهو ما نتج عنه تشخيص غير دقيق وغير عميق.
وفي نظر أقصبي، فإن تمويل النموذج التنموي المقترح عبر المديونية يطرح إشكالا كبيرا، خصوصا أن الهامش المتاح حاليا يبقى ضعيفا، وهو ما يجعل كل المشاريع المقترحة ضمن هذا النموذج أمام سيناريوهين: أن تبقى حبرا على ورق، أو المساهمة في إغراق البلاد في المديونية.
بداية، ما هي ملاحظاتكم بخصوص التقرير العام للنموذج التنموي الذي قدمته اللجنة الخاصة إلى الملك محمد السادس الأسبوع الماضي؟
أولاً، نحن أمام تقرير قيل لنا في البداية إنه سيطرح للنقاش وهو ما لم يتم، بحيث أُنجز من طرف لجنة عينت من طرف الملك. وبغض النظر عن أعضائها الذين نقدرهم ككفاءات وأشخاص، فنحن أمام وثيقة رسمية تستدعي العديد من الملاحظات.
من الناحية المنهجية، يتحدث التقرير عن الديمقراطية ودولة الحق والقانون والديمقراطية التشاركية، لكن المشكل الكبير أننا أمام منتوج وضعته نخبة لا أحد انتخبها أعطت تقريرها للملك وتمت دعوة الجميع إلى الانخراط في تنفيذ توصياته، وهو ما يجعل من التقرير قرآنا منزلا.
والملاحظ أيضا أن 90 في المائة من الأحزاب السياسية لم تفصح بعد عن برنامجها الانتخابي لأنها كانت تنتظر تقرير اللجنة، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل حول معنى العملية الانتخابية المقبلة ما دام أن البرنامج والمنتخبين محددان سلفا.
ملاحظة أخرى أود الإشارة إليها هي أن التقرير لم يتضمن أي تقييم حقيقي، فأي تقرير طموحه هو تقديم رؤية وبدائل يجب أن ينطلق من تحديد الداء قبل الدواء وتقييم التجربة، والمتصفح لمضامين الوثيقة لا يجد أثرا لتقييم تجربة العقود الماضية قبل القول بما يجب أن نقوم به في الخمس عشرة سنة المقبلة.
فحتى على مستوى النموذج التنموي كمصطلح لم يتم شرحه ولا تفصيل المقصود به، بل تم تقديمه هكذا دون أي سياق أو تعريف يتيح للمواطنين فهم نوع الوثيقة التي قدمت لهم بعد قرابة سنتين من العمل.
هذا النوع من التقارير يجب أن يعتمد المقارنة مع بعض التجارب الدولية، سواء الناجحة أو الفاشلة، للبناء عليها، وهو ما لم يحضر، وهذا يدل على أن هناك غيابا لإرادة المقارنة مع دول أخرى.
لدي ملاحظة تتعلق بالشكل والمضمون في الوقت نفسه، تتجلى في كون التقرير يتضمن إما لغة الخشب أو أسلوبا محتشما لا يسمي الأشياء بمسمياتها، وكأن أعضاء اللجنة منذ البداية وضعوا في لا شعورهم خطوطا حمراء، رغم أن الملك في بداية تكليف اللجنة دعا إلى قول الحقيقة ولو كانت مؤلمة، لكن ذلك لم يتم.
هل هذا يعني أن اللجنة في نظركم اعتمدت الرقابة الذاتية؟ وأين تجلى ذلك؟
الرقابة الذاتية ينتج عنها تشخيص لا يرقى إلى المستوى وبدائل مقترحة غير ناجعة، فالمعيقات التي أوردها التقرير وقال إنها تعتري النموذج التنموي الحالي تشير إلى عدم انسجام الرؤية والسياسات والتكلفة المرتفعة لعوامل الإنتاج وضعف الانفتاح على فاعلين جدد، وتم التلميح بشكل محتشم إلى الريع حتى أصبحت هذه الكلمة دون معنى، إضافة إلى معيقات القطاع العام، ومشاكل القضاء… نعم هذه مشاكل لكن ليست كبيرة.
لكي نقدم بديلا يجب طرح السؤال حول الاختيارات التي وضعها المغرب منذ خمسين أو ستين سنة، والحديث عن فشل النموذج التنموي الحالي هو حديث عن فشل هذه الاختيارات التي يمكن تلخيصها في الرهان على اقتصاد السوق والقطاع الخاص والاندماج في العولمة، أي الرهان على التصدير والطلب الخارجي.
يجب طرح السؤال لماذا لم نستطع منذ ستين سنة أن نبني حقيقة اقتصاد السوق أي اقتصادا تسوده المنافسة الحرة والتعددية والشفافية؟ فعوض ذلك لدينا اقتصاد الريع، وهي كلمة تعني في حقيقة الأمر نقطة الربط بين المنظومة السياسية والمنظومة الاقتصادية، لأن المنظومة السياسية تعزز السلطة عبر الريع الاقتصادي وتبني تحالفات طبقية، إذ لا يكفي القول إن هناك ريعا، بل يجب الإجابة على سؤال لماذا منذ ستين سنة والريع يتزايد؟ وفي الواقع لا يتم الحديث عن محاربة الريع، بل تتم الإشارة إلى أن بعض القطاعات يجب أن تعرف انفتاحا وتخضع للضبط أكثر.
نفس الشيء بالنسبة لاختيار الاندماج في العولمة، هل من المعقول أننا منذ ستين سنة نعتمد سياسات تشجع القطاع الخاص عبر الدعم والقروض والتحفيزات ورغم ذلك لم يقم هذا القطاع بالدور المنوط به؟
تم الحديث عن السيادة لكن تم إفراغها من مضمونها، بحيث لم يتم تعريفها والمقصود بها وما الذي يجب القيام به في هذا الصدد؛ ففي النظريات الاقتصادية، نجد أن السيادة لها مفهوم اعتماد اختيارات تعطي الأولوية لتلبية الحاجيات الداخلية قبل الخارجية، أي الطلب الداخلي قبل الخارجي، وهذا يعني تغيير السياسات في المجال الطاقي والفلاحي كي يكون لكلمة السيادة مضمون، وهذا ما لم يتم الحديث عنه في تقرير اللجنة.
في نظري، التشخيص المتضمن في التقرير سطحي ولا يرقى إلى الإشكاليات العميقة وتشخيص الداء في الاختيارات الأساسية، وليس هناك إرادة للتقرب من هذه الاختيارات لأنها خطوط حمراء، وليس هناك إرادة لتقييم التجربة؛ فمنذ عشرين سنة نجد أن السياسات التي تؤثث الاقتصاد المغربي هي أربعة: المشاريع الكبرى، المخططات القطاعية، اتفاقيات التبادل الحر، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وهي سياسات لم يرد بخصوصها تشخيص دقيق كما هو مطلوب.
هل من المعقول ألا يتم القيام بتحليل موضوعي لسياسات المشاريع الكبرى مثل الطرق السيارة والقطار فائق السرعة والطاقات المتجددة؟ هذه الأخيرة أثير حولها الكثير من الجدل لأن الاختيار التقني المعتمد فيها سيكلف الدولة 800 مليون درهم سنويا خلال عشرين سنة، وهذه كارثة.
الشيء نفسه بالنسبة لاتفاقيات التبادل الحر؛ فالجميع يُقر، وعلى رأسه الحكومة، بأنها تعرف مشاكل، لكن لم يتم الحديث عنها في التقرير، نحن في حالة عجز مع كل الدول التي نرتبط معها باتفاقية التبادل الحر.
الأمر سيان بالنسبة للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية؛ إذ لم يتم التطرق إليها رغم أن هناك اعترافا رسميا بمشاكلها، لذلك أعتبر أن التشخيص مغلوط وجزئي ومنحرف وسطحي.
ماذا عن المشاريع المقترحة في التقرير كبديل لما هو قائم حاليا؟
التشخيص المغلوط والمحاصر لا يمكن إلا أن يعطي بدائل محدودة ومحاصرة من كل جانب؛ فمثلاً، حين نقرأ ضمن الحلول المقترحة في الاقتصاد أنه يجب تحرير المبادرة الخاصة وبث روح المقاولة من خلال مناخ أعمال شفاف وتحسين التنافسية للنسيج الاقتصادي وتوجيه الاستثمار الخاص نحو القطاعات الرائدة… هذا الأمر يشبه المثل القائل “تمخض الجبل فولد فأرا”؛ فباستثناء الحلول المقترحة بخصوص الاقتصاد الاجتماعي، فإن الحلول الأخرى نعتمدها منذ أربعين سنة، وفي 2021 نعيد الإشارة إلى الحلول المقترحة نفسها.
أما حين نقرأ عن رافعات التغيير، مثل إصلاح الجهاز الإداري والرقميات والتمويل ومغاربة العالم والشراكة الدولية، فهنا تبرز بشكل جلي نتائج الرقابة الذاتية والتشخيص المغلوط الذي تم العمل به؛ بحيث لم يتم الحديث عن أي إصلاح سياسي ولا إصلاحات اقتصادية جذرية ولا إعادة النظر في الاختيارات الكبرى. هذه هي المشاكل الكبرى. أما الأخرى، فهي مشاكل صغيرة.
ما رأيكم بخصوص مقترحات تمويل النموذج التنموي الجديد عبر اللجوء إلى الاستدانة؟
التمويل هو امتحان المصداقية؛ فإذا أردنا أن نمول بصفة ذاتية في إطار السيادة، يجب القيام بإصلاح ضريبي من خلال نظام جبائي يعبئ الموارد المالية من الاقتصاد، لكن ورغم أن الجميع يقر بأن النظام الضريبي الحالي غير ناجع وغير عادل وغير منصف ودعت توصيات المناظرة الوطنية للجبايات سنة 2019 إلى إصلاحه، فإن تقرير اللجنة لم يرق حتى إلى هذه التوصيات ولم يتم تبنيها رغم أنها لم تكن ثورية.
الملاحظ أن التقرير العام تضمن خمسة أسطر حول موضوع الإصلاح الضريبي وتمت تسمية ذلك بالإجراءات، وهي تظهر أنها تسير في اتجاه مطالب الاتحاد العام لمقاولات المغرب، ومنها خفض سعر الضريبة على الشركات.
بما أن الجميع متفق على أهمية واستعجالية الإصلاح الضريبي، فقد كان من الضروري الإشارة إليه في التقرير لتوفير إمكانيات التمويل، لكن ما تمت الإشارة إليه هو المديونية كحل مقترح. أمر غريب أن يكون لدينا نموذج تنموي في أفق 2035 يقترح الاستمرار في الغرق في المديونية.
هذا الأمر يطرح إشكالا كبيرا لأن الإمكانيات في هذا الاتجاه جد محدودة لأن معدل المديونية حاليا تجاوز 100 في المائة من الناتج الداخلي الخام، خصوصا مع ما تمت مراكمته في سنة 2020، سواء المديونية الخارجية أو الداخلية، وهو ما يطرح السؤال حول الهامش المتاح حاليا للاستمرار في المديونية.
وبما أنه ليس هناك أي إصلاح ضريبي ولا سياسة نقدية حقيقية، وفي ظل هامش مديونية محدود، نحن أمام سيناريوهين، الأول: مشاريع التقرير ستبقى بلا تمويل كاف، والثاني: في حالة إيجاد تمويل لكنه عبر الدين، فإن البلاد ستستمر في الغرق في المديونية.
ما الذي يجب على النموذج التنموي أن ينبني عليه في نظركم؟
التشخيص أولا كان عليه أن يفهم أسباب فشل الاختيارات ويذهب إلى عمق الإشكالية، وهي في نظري اقتصادية سياسية، هذا يعني أن البديل كان يجب أن يبدأ بتشخيص موضوعي وحقيقي وعميق لهذه الخيارات الفاشلة.
ثانيا، يجب أن يرقى التقرير إلى مستوى الرؤية، أي إعادة النظر في كل ما تم الإقرار بفشله، فمن الحماقة الاستمرار في سياسات فاشلة. فالمخططات مثلاً تطرح مشكل الانسجام، هذا يعني أن البديل هو إعادة الاعتبار للمخطط الوطني الشامل والكامل، وهو توجه عالمي يوفر نظرة كاملة وشاملة لتجاوز مشاكل عدم الانسجام والتضارب.
الإقرار بأننا نسجل عجزا في جميع اتفاقيات التبادل الحر، يجعل من الحماقة الاستمرار فيها، بل يجب إعادة النظر فيها وإعطاء مضمون للسيادة عوض وضع العربة أمام الحصان من خلال توقيع اتفاقيات للتبادل الحر دون دراسات مسبقة ولا مفاوضات جدية ولا علاقة لها بالواقع الاقتصادي للبلاد.
ما وقع للمغرب أنه وقّع اتفاقيات للتبادل الحر ثم بدأ يبحث عما يمكن تصديره، في المقابل نجد أن شركاء المغرب استفادوا كثيرا من فتح السوق المغربية، على غرار تركيا التي اغتنمت الفرصة واستطاعت غزو السوق الوطنية.
فالحقيقة المرة أن المصدرين المغاربة كان بإمكانهم دخول السوق التركية بدون حواجز جمركية منذ سنة 2006، في المقابل لم يكن للمصدرين الأتراك هذا الامتياز الكامل إلا سنة 2015، ومع ذلك استطاعوا غزو السوق المحلية.
في نظري، يجب دراسة الواقع التصديري للبلاد وإجراء الإصلاحات الضرورية لخلق عرض تصديري متنوع ومنافس، آنذاك ستكون اتفاقيات التبادل الحر مربحة، وذلك لن يتأتى إلا بتحقيق السيادة الحقيقية التي تبدأ بإصلاحات لتعزيز النسيج الاقتصادي الداخلي وعلى أساسه يتم التوجه نحو الخارج، وليس العكس.
البدائل واضحة حين يكون لدينا تشخيص حقيقي، لكن مع الأسف منذ البداية فرضت اللجنة على نفسها الرقابة والخطوط الحمراء وبقيت في سطح الأشياء دون النفاذ إلى العمق.
قد يهمك ايضاً :
"الشامي" الإقلاع الاقتصادي يحتاج ثورة مقاولاتية حقيقية في المغرب
اجتماع يقارب ملاءمة التعليم المغربي مع النموذج التنموي
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر