عندما يتردد اسم "ناشيونال جيوغرافيك" يذهب فكر المتلقي إلى الصحاري والبحار والغابات والسباع تفتك بفريستها بعنف، لكن بعد سنوات من عرض وثائقيات عن الطبيعة، ها هي "ناشيونال جيوغرافيك" تضيف الفن والثقافة إلى عوالمها وتقدم سلسلة "عبقرية بيكاسو" 2018 من إخراج كينيث بيلر. سلسلة تحكي سيرة بيكاسو (1881- 1973) الذي رسم لوحة عن عنف أشد. عنف بشري. فبينما رسم لوحة "غيرنيكا" اشتكى من نقص منسوب الغضب والشراسة في لوحته لأنه لم يكن في موقع القصف ليحسّ بنار القنابل على اللحم. تثار هنا علاقة الفن والواقع وشروط الإبداع، إذ كيف يرسمُ أو يكتبُ بصدق وعمق عمّا لم يعشه؟
فجأة ثارت معركة في مرسم بيكاسو بين عشيقتيه المتناحرتين. وهكذا شحنت معركة الجميلات حوله طاقته الإبداعية للرفع من القيمة الجمالية والدلالية للوحته. لاحقا حين ساءت علاقته بإحدى تينك العشيقتين رسم لها بيكاسو بروتريه برأس قريب من رأس بغل. فهل هكذا تبدو العشيقة السابقة الشهيرة دورا مار؟
تغيرت العلاقة فتغيرت بفعل ذلك النظرة والألوان المستخدمة في بورتريهات سابقة. دورا مار سوريالية، وحسب بيكاسو كل السورياليين ينتهون مجانين. وهذه غمزة عن سالفادور دالي الذي يَعتبر نفسَه عبقريا أكثر من بيكاسو. هكذا تتغذى اللوحة على التجربة الجياشة في الفن الراديكالي.
كان هذا تحولا أساسيا في بداية القرن العشرين، حين قوضت الطليعية الأوروبية فكرة الفن للفن. وفي هذا السياق يقول ديفيد هوبكنز: "بحلول بداية القرن العشرين التزمت العديد من الحركات الفنية الرئيسية... بالطعن في أي فصل بين الفن والتجربة العارضة للعالم الحداثي" (الدادائية والسريالية ص: 16).
جاء في موسوعة "لالاند" الفلسفية أن "الطبيعة قوة منتجة بلا رؤية" (ص: 96). وعلى العكس من ذلك فالإنسان المثقف يملك رُؤية. من هنا أهمية المنظور. ومنه ولد الفن في كهوف ألتاميرا وفي الرواية والسينما والرسم الحديث.
في الدقيقة العشرين من الحلقة الأولى يوبّخ معلم الرسم طلبته في أكاديمية الفنون الجميلة في مدريد، ويردد بغضب: "لن تكونوا أبدا فنانين حقيقيين إن لم تستوعبوا قواعد المنظور الخطي. لن تكونوا أبدا فنانين حقيقيين إن لم تتعلموا لغة الجبْر. لن تكونوا فنانين إن لم تتعلموا النسخ بشكل صحيح...".
رفض بيكاسو المنظور التقليدي سليقيا في مدريد، رفض النّسخ ورفض المنظور الخطي، فاتهم بأنه يرى الأشياء بمنظور خاطئ. السبب؟ كان شعار بيكاسو هو أن يرسم حسب ما يراه وليس حسب خطوط الجبر. للسخرية من مخالفي بيكاسو يقول رسام شاب لعشيقة بيكاسو: لديك خطوط متناسقة. فتجيبه: أنا امرأة لا سفينة.
في باريس، وفي الحلقة السادسة من السلسلة سيتم تجاوز السليقة للتنظير لكسر المنظور الخطي (la perspective linéaire). هنا يدعو الرسام جورج براك إلى التحرر من نقطة التلاشي (vanishing point) وكسر المنظور الخطي الذي تشكل منذ أربعة قرون، أي منذ فيليبو برونولوسكي (1377-1446). كسر المنظور الخطي يعني تحدي قواعد الخط والضوء والشكل واللون... كان ذلك بمثالة زلزال في تاريخ الفن. كانت تلك لحظة ميلاد التكعيبية.
حين رأى هنري ماتيس اللوحات عرف أن جورج براك (1882-1963) يتعاون مع بيكاسو. كان التنافس شديدا بين الفنانين كما هم دائما. وقد ساهم ماتيس في تجديد الرسم بأسلوبه المرتكز على اللون، بينما ركز بيكاسو على خطوط غريبة تكسر الألفة مع اليومي.
ما سبب التحول؟ لم يعد الرسام يرسم الأشياء كما هي لأن الفوتوغرافيا تغني عن ذلك. عليه تقديم الجديد. في اللقطة الموالية من السلسلة سيلتقي بيكاسو بالشاعر والناقد الفنيد غيوم أبولينير، الذي سيشرح له كيف يتخلى عن الظّرف ويخرق القواعد ليتجاوز هنري ماتيس. هكذا فتحت ملاحظات الناقد آفاقا جديدة للرسام.
تعرض الطالب بيكاسو للتوبيخ في مدريد لأنه لم يحترم الرسم الخطي والخطوط المستقيمة ونسخ أعمال العظام، بينما صقلت باريس وعيه بتمرده الفني، فأعلن أنه يرفض رسم لوحة تحكي حكاية. للإشارة فبالتوازي والتزامن ظهر هذا التمرد الفني على المنظور التقليدي أيضا في الرواية مع جيمس جويس وفيرجينيا وولف.
وهنا تلتقي الفنون. في الأفلام والروايات لا تثمر كثرة الأحداث والمواد سردا ساحرا. لذا لا بد من حضور نغمة وروح وتقنية تعكس رؤية تجديدية. الشيء المرسوم والمصور لا يصنع اللوحة. فما الذي يصنع اللوحة والرواية والفيلم إذن؟
يصنعها المنظور. يتغير حجم الأشياء كلما ابتعدت عن عين من يشاهدها. وفي ذلك التغيير يظهر ويتجلى امتداد المكان الذي تقف فيه الشخصية، وتصنعه أهمية وجهة نظر العارض.
لقاء وتلاقح الفنون مُهم للناقد. فبدون فهم تاريخ التشكيل لا يستطيع الناقد السينمائي القادم من الأدب أن يتجاوز تلخيص الحكاية والتعليق على المضمون. بيد أن قراءة وتحليل اللوحات هو المدخل الكبير لقراءة الأفلام أسلوبيا لا موضوعاتيا فقط.
في السلسلة يعتبر بيكاسو نقاد الفن جثثا تتحلل لأنهم يهاجمون هنري ماتيس رائد المدرسة الوحشية، ويظنون أن الانطباعية تمثل مستقبل الفن. لاحقا اكتشف بيكاسو أنه يحتاج النقد الذي يقدمه له غيوم أبولينير لكي يطور عمله ويفتح آفاقا جديدة.
تفتح السلسة آفاقا فنية كبيرة لمن يشاهدها، فهي غنية بدروس الفن. مثلا الخطوة الأولى للتشكيل هي الرسم بالقلم على الورقة دون تلوين. المهم الدقة في التفاصيل. ليس شرطا أن يملك الفنان أسلوبا أصيلا منذ البداية. يمكن تعلم الصباغة من هنري ماتيس، لكن من يريد تعلم رسم الخطوط يجب أن يدرس بيكاسو. تطبيقيا يشرح بيكاسو لحبيبته على ظهرها العاري كيف تتحرّر يدُها حين ترسم. صار الظهر لوحة. هكذا تلتقي المرأة واللوحة في حياة بيكاسو.
ما هو إحساس رسامة شابة حين تلقي برأسها على صدر بيكاسو؟ تشعر بالدوار. لسير الناجحين جاذبية هائلة لأنها تلهم الحالمين بالشهرة والثروة.
في علاقته بالنساء أدرك بيكاسو أن الرغبة تستهلك نفسها بينما الفنان بحاجة للتجاوز بالبحث عن نساء جديدات.
يحصُل للفنان في رحلته الطويلة للوصول إلى المجد أن يقف على حافة ليقفز في الخواء. الرسام الذي يحب البنات أكثر من اللوحات يتحطم كما حصل للصديق كارلوس كاساجيماس الذي انتحر وخلده بيكاسو في لوحة زرقاء.
قد يكون الحب الشديد خطرا يدمّر صاحبه. كان لبيكاسو طريق آخر، وقد لقبه صديقه بـ"ليوناردو دافنشي المواخير". هنا يتحرّر جسد الرسام من رغباته.
كان العمل هو الصديق الأول لبيكاسو مهما تغيرت النساء والأمكنة والصداقات. كان ذكيا في اختيار الذين سيلهمونه، وهو صارِم يرمي بكل من لا يلهمُه خلفه. يشرح أنه وصل المجد بالعمل. يحتاج الفن العمل باستمرار لوقت طويل ليل نهار، تحمل عزلة هائلة تستثمر فيها طاقة الجسد والروح. ويضيف أن حبّ العمل الفني يُضعف التأثير السلبي للعزلة والوحدة وثقل الزمن. العزلة والزمن هما وقود الإبداع. يتحقق الإنجاز الفني بتضافر الموهبة والعمل.
النتيجة انتصار بيكاسو على إكراهات حياته. صار يبيع بأسعار عالية، خاصة حين جاءت الأمريكية جيرترود شتاين لتقتني لوحات الفن الجديد وتمهد لنقل عاصمة الفن العالمي من باريس إلى نيويورك.
في ضبط إيقاع حياته أدرك بيكاسو أن العاطفية الزائدة في اللوحة متجاوزة، وهو لا يرسم ديكورات، ويغضب حين يطلب منه رسم لوحات لا تسد شهية من يراها. يريد أن يعبر لا أن يبيع. لأن من يرسم فقط بغرض الربح من لوحاته يمارس الدعارة الفنية.
من هنا ولدت أزمة فناني حي مونمارتر في باريس. يعيش شاعر ورسام في غرفة فيها سرير واحد، يعانيان الجوع. لكنهما لن يبدعا إلا ما يحبانه. حينها أدرك الرسام أنه لا يوجد أسوأ من أن يكون المرء رساما إلا إن كان شاعرا مثل ماكس جاكوب الحساس الذي يتصرف كعراف متجاهلا ظروفه الاقتصادية.
هكذا تقدم السلسلة وثائقيا دراميا فيه سيرة (بيو بيك) عن رسام في منعطف الفن الغربي. تؤرخ السلسلة لمرحلة لأن كل فناني باريس الكبار يظهرون فيها.
بعد موجة المسلسلات العاطفية التي ترهن ربات البيوت في مطابخهن ظهرت سلاسل ثقافية ذات محتوى يستهدف طبقة معينة. في السلسلة كمية معلومات تحتاج مجلدا لعرضها. سلاسل لها ميزانيات ضخمة وفرت ظروف تصوير احترافية وجلبت أنطونيو بانديراس ليؤدي دور بابلو بيكاسو. ممثل سينمائي يلعب دورا هائلا في سلسلة. أدى دوره ولعب بالجسد والصوت والنظرة.
ثراء الشريط البصري لا حدود له. في السلسلة حوارات موجزة تضع المتفرج في صورة نهاية قرن وبداية آخر، فيها فلاش باك يجعل خطوات البداية مبرّرة لأنها أدّت إلى مجد مذهل. ذهاب وإياب مستمر بين زمن التعلم وزمن المجد. فلاش باك يبين صحة الاختيارات. هكذا يفسر الحاضر خيارات ووقائع وصدمات الماضي.
هكذا كسر المخرج المنظور الخطي في السرد ليتلاءم مع أسلوب بيكاسو في الرسم.
قد يهمك ايضا
افتتاح معرض رامبرانت وفيرمير في"اللوفر أبو ظبي"في 14 شباط
مدينة "هال" تتوّج بلقب "عاصمة الثقافة البريطانية"
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر