شعر حسن نمر، وهو مصرفي متقاعد، بالتعب من التجول بين ماكينات متفرقة محاولا سحب ألف جنيه (نحو 35 دولارًا) باستخدام بطاقته المصرفية، دون جدوى لأن الماكينات فارغة دائما من النقد، وذلك على الرغم من وجود آلاف ماكينات الصراف الآلي التي تنتشر في أرجاء العاصمة السودانية الخرطوم. ومشكلة نمر ليست شخصية، فمنذ نهاية شهر فبراير (شباط) الماضي، يواجه حاملو أكثر من 3 ملايين بطاقة صراف آلي في السودان، الذي يبلغ عدد سكانه نحو 40 مليون نسمة، المشكلة نفسها، فدائما الماكينات فارغة من النقود، رغم دعم البنك المركزي لترويج الخدمات المصرفية الإلكترونية، مما دفع إلى نشوء سوق موازية يلجأ إليها المواطنون في المدن السودانية.
واستغلت بعض نقاط البيع والمتاجر والحوانيت الأزمة، وصارت توفر "خدمة" إتاحة النقد للزبائن مقابل "عمولة"، وانتشر مروجو الخدمة في الأسواق، ليُنحت في الشارع السوداني اسم جديد هو "تاجر السيولة"... ومع انتشار الظاهرة، وانفلاتها دون ضوابط محددة، كثرت الانتقادات في الشارع السوداني، مع ترجيحات بأن تتجه الحكومة لوقف التعاملات المصرفية الإلكترونية من أجل تحجيمها. وفي حين لم تعلن الحكومة تفاصيل هذه الممارسات، يتداول السودانيون على منصات التواصل الاجتماعي كافة مواقع وأماكن وعناوين المحلات التي توفر هذه "الخدمة".
ويروي نمر تجربته قائلًا "يوم الجمعة، ذهبت كالمعتاد لشراء احتياجات الأسبوع. ومنذ خروجي من حي الصافية حتى وصولي سوق بحري (وهي مسافة تقدر بنحو 3 كيلومترات) مررت بنحو 10 صرافات آلية، وكلها فارغة من النقد... حتى أخبرني أحد العاملين في خدمات الهواتف الجوالة بأنه يمكنه أن يحل مشكلتي". ويتابع: "دخلنا إلى محل في سوق بحري، وجدنا شخصا أمامه ماكينة نقاط البيع. أخبرني بأن سقف السحب النقدي ألف جنيه والعمولة المطلوبة 20 جنيهًا، فوافقت فورا لحاجتي الماسة للسيولة وقتها. مرر صاحب المحل البطاقة وتم خصم ألف جنيه من رصيدي وتسلمت به إشعارا، وسلمني صاحب المحل 980 جنيهًا".
وكثير من السودانيين أصبحوا يلجأون اضطرارا لتلك المعاملات، مع تباين نسب العمولات حسب "الاتفاق"، إلا أنها تصل في المتوسط إلى 20 في المائة من حجم العملية. ويقول نمر إن ما أرّقه هو "الإحساس بأنني في بلد لا تستطيع العيش فيه من دون هواجس ومخاوف مما سيحدث حتى وأنت تمتلك المال. وأحزنني عجز بنك السودان عن إدارة النقدية، مما أوصلنا لهذا المستوى".
ورغم علمه بأن "البنك المركزي يخاطب البنوك يوميا، بالالتزام بملء الصرافات الآلية"، فإنه يقول إن البنوك عندما تقدم طلبات سحب، يعتذر لها "المركزي" بعدم وجود أموال نقدية، لكنه أحيانا يمنحهم جزءا يسيرا من المبلغ المطلوب. ويتساءل في مرارة: "لماذا تتحمل البنوك السودانية الـ44 فشل (المركزي) في إدارة الأزمة؟". ويضيف: "لو اعترف (المركزي) بالأزمة، فعليه أن يغير في ضوابطه".
وبنك السودان المركزي سيعلن قريبا تحركا رسميا "عنيفا" لوقف تلك الممارسات، التي ذاع صيتها وسط المواطنين في معظم المدن السودانية التي يحمل قاطنوها بطاقات صراف آلي. ومنذ عامين، دشن "المركزي" الخدمات المصرفية الإلكترونية، مراهنا على نجاحها عبر نشر ثقافة الخدمات الإلكترونية ورفع وعي المواطنين. وصرف "المركزي" ملايين الدولارات على تأسيس هذه الخدمات، وعيّن شركة أميركية لذلك، وخصّص إدارة تحولت إلى "شركة الخدمات المصرفية الإلكترونية" التي تدير محول القيود المعني بنقل المعاملات المالية في البلاد إلكترونيا، خصوصا مع توقع البنك أن يتجاوز عدد حاملي البطاقات 5 ملايين شخص مع مطلع العام.
وتجربة أخرى تظهر عمق أزمة السيولة عايشها مواطن ورواها، حيث يقول: "كنت أجلس مع عدد من التجار... أحدهم قال إنه في أشد الاحتياج لمبلغ مليون جنيه (نحو 35 ألف دولار)، لكن لا توجد سيولة في البنك. فاتفق معه تاجر آخر على القيام بعملية سحب إلكتروني للمليون جنيه لكن مع إعطائه 850 ألف جنيه نقدا فقط... ووافق التاجران على العملية".
وأيضا مجدي عبد الرحمن، وهو صاحب بقالة، يشير إلى أنه تعرض لموقف شبيه، حيث كان يريد سداد مبلغ كبير لشركة المواد الغذائية التي يتعامل معها لكنه لا يملك السيولة، فاتصل بأحد المقربين وعرض عليه أن يسدد المبلغ نيابة عنه للشركة الموردة، مقابل أن يحصل على عمولة 20 في المائة. ويؤكد عبد الرحمن أن صديقه رحب بالفكرة، بل إنه منذ ذلك الوقت أصبح يعرض خدماته على الجميع مع استمرار أزمة الجنية السوداني.
والجميل الفاضل، وهو إعلامي سوداني، يتوقع أن يكون عدد "تجار السيولة" حاليا أكثر من ألف شخص، وذلك من بين نحو 10 آلاف نقطة بيع مرخصة داخل العاصمة الخرطوم؛ حيث يدخل المشتري إلى أي من تلك المحال وكأنه متسوق عادي، إلا أنه لا يشتري أي سلعة؛ بل يحصل على سيولة نقدية وسط أزمة تتسع كل يوم.
ورفض مسؤولون كبار في القطاع المصرفي في البلاد، التعليق على الإجراءات التي يستعد لاتخاذها من أجل السيطرة على الأزمة، ولكن يرجح أن تلجأ الحكومة السودانية بشكل مبدئي إلى وقف التعامل المصرفي الإلكتروني الذي يتم عبر منصات ومناطق البيع المنتشرة في المحلات التجارية والترفيهية وجميع الجهات المرخص لها بالخدمة، وذلك بعد ازدياد أعداد المستفيدين من الخدمة الفرعية التي يقدمها أصحاب نقاط البيع ورواجها.
وتسيطر الحكومة على الشبكة التي تدير الخدمات الإلكترونية ماليا ورقابيا، إلا أن "المركزي"، وفقا لمصرفيين وخبراء اقتصاد ومراقبين ومحللين، ليست لديه المقدرة الفنية لمراقبة حركة كل نقطة بيع في البلاد. كذلك من الصعوبة بمكان على البنك المركزي وفرقه الرقابية، وهي أصلا محدودة، أن يضبط حالات "تلبس"، لأن العمليات تتم غالبا في الخفاء.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر