ظهرت الأهمية القصوى للنسيج الفلاحي في الاقتصاد الوطني، مع تفشي فيروس "كورونا" المستجد في المملكة المغربية، ذلك أن الاقتصاد العالمي كله أصبح يتحدث عن مفهوم أوحد، وهو المخزون الغذائي، ما جعل المواطنين يدركون حيوية هذا القطاع في تدبير معيشتهم اليومية.ومع ذلك، أعادت الجائحة تحديد أولويات الفلاحة المغربية، إذ تطرق إلى ذلك الطاهر السرايري، أستاذ التعليم العالي في معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة بالرباط، في مقال معنون بـ"إعادة ترتيب أولويات الفلاحة المغربية في عهد ما بعد جاﺋحة كوفيد-19"، موضحا أدوار القطاع الفلاحي المغربي، متطرقا بالتفصيل إلى فرص تكيفه مع العالم الجديد.
وإليكم المقالة:
دوار الفلاحة التي لا تقدر بثمن
مع ظهور الجائحة، لما اضطر الجميع إلى أن يحترم تدابير الحجر الصحي، برزت أهمية الفلاحة بصفة ملموسة: مخزون الطعام الذي جمع بسرعة داخل المنازل أصبحت له قيمة تتجاوز بكثير أسهم أكبر الشركات، وأدرك الرأي العام الوطني الأدوار الأساسية التي تقوم بها الفلاحة، كتموين الأسواق،وتهيئة المجالات الطبيعية ومنح فرص الشغل لملايين العمال.
وفي هذا الصدد، مع توقف جل الخدمات وعودة العمال إلى قراهم الأصلية، تحتم على الكثير منهم الاشتغال مجددا في القطاع الفلاحي للحصول على أجر ولو محدود. ومع تمديد الحجر الصحي لأكثر من شهرين، تمكنت الساكنة من معاينة الأهمية القصوى لمجهود الفلاحين في تلبية حاجياتها: بدونه، لما توفر القوت اليومي.
هذه المعطيات تقترب من أطروحة عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي الشهير دايفيد ﯕرايبر، التي تركز على فكرة التكاثر الحالي لوظائف بدون فائدة، فيما أهم المهن التي تضمن مكونات العيش اليومي (الأكل، الصحة، التعليم، الخ)، أضحت الأقل دخلا شهريا. وهذا ينطبق بكل وضوح على القطاع الفلاحي، حتى إن كان يشغل حسب الإحصائيات الرسمية أكثر من 40% من اليد العاملة، إلا أنه لا يوفر سوى فرص عمل غير مستقرة، غالبيتها شاقة وبأجور هزيلة لا تفوق 100 درهم يوميا
بالإضافة إلى ذلك، وفي غياب تغطية اجتماعية معممة تضمن التطبيب والحصول على أجر بعد التقاعد، تبقى الرغبة المؤكدة عند غالبية المستخدمين هي مغادرة تلك الأشغال. حتى أبناء الفلاحين، في جل الحالات لا يريدون مواصلة جهود آبائهم، لأنهم يدركون الصعوبات المتعددة التي يواجهها هذا القطاع، مقابل دخل غير مضمون، خاصة في ظل ندرة المياه الخانقة.
ندرة المياه وتثمينها غير المضبوط
إن أكثر من 80% من مساحة المغرب تتمركز في مناطق ذات مناخ قاحل أو شبه قاحل (أي لا تتجاوز فيها التساقطات المطرية معدل 400 ملم سنويا)، وهذا يعني بأن ندرة المياه تؤثر سلبا على الفلاحة، حيث تستهلك أكثر من 80% من المقادير المستعملة سنويا في المغرب. تحليل تأثير نقص الماء على الفلاحة يتطلب التركيز والدقة لأن هذا المورد ليس متماثلا. له أصول متنوعة (مطر، مياه سطحية وجوفية، إلخ)، ينبغي الاهتمام بها.
فضلا عن ذلك، فإن سيناريوهات تغيير المناخ في المغرب تتكهن بارتفاع آثار ندرة المياه في السنوات القادمة، مما يعني هشاشة أكبر بالنسبة للساكنة التي تمارس الفلاحة. وسيلاحظ هذا بالخصوص في المناطق التي لا تتوفر على إمكانيات للري، التي ما زالت تمثل أكثر من 80% من المساحة الزراعية للبلاد. ويجب الإشارة إلى أن السقي مثّل منذ حقبة الحماية أهم محرك للتفكير في تنمية الإنتاج الفلاحي، إلا أن هذا المنطق وصل الآن إلى حدوده.
في الواقع، إرادة تشجيع الري عرفت ذروتها بعد إطلاق مخطط المغرب الأخضر، حيث وصلت الإعانات الممنوحة لمشاريع الاستثمارات في هذا المجال إلى 80 حتى 100% من الأموال المستعملة. في سياق ندرة المياه السطحية، تسببت هذه الحوافز في إفراط ملموس في استخدام المياه الجوفية دون مراعاة لاستدامة هذا المورد المشترك. هذه السلوكيات أثرت على منطق التنمية الفلاحية ككل.
إن ركيزة القطاع الفلاحي كانت دوما تتجلى في الزراعات المطرية (الحبوب، القطاني، الأعلاف) التي ما زالت تستعمل لتقييم أدائه السنوي، إلا أنها اليوم أصبحت تعتبر جزءا من الماضي. في المقابل، الزراعات المسقية تحظى باهتمام أكبر، لأنها تجسد رمزا من التحكم التقني والاستثمار المهم، مانحة أصحابها مرتبة اجتماعية عالية، تقديرا لمساهماتهم في المجهود الوطني للتصدير ولخلق فرص الشغل. إلا أن هذه التطورات تحمل في طياتها انحرافات خطيرة، لأنها أدت إلى نضوب المياه الجوفية في بعض المناطق. وأكثر من هذا، أدت أيضا إلى حالات من الإنتاج الزائد لبعض الفواكه والخضر، ما تسبب في عكس الهدف المنشود، أي الزيادة في تثمين الماء. مثلا، صعوبات بيع الحوامض في السنوات الخمس الأخيرة، المترتبة عن الزيادة في الإنتاج واتساع المساحة المسقية بالتنقيط، بالموازاة مع قدرة تنافسية ضعيفة للإنتاج الوطني في الأسواق الدولية، أدت إلى قلع الأشجار في بعض الضيعات.
إن حاجيات المزارع المسقية الجديدة وصلت إلى مستويات قياسية أرغمت السلطات في بعض المناطق على أن تبلغ الفلاحين بأن المخزون الموجود في السدود لن يستعمل للسقي، لضمان تموين الحواضر بالمياه. سيناريو مماثل يسجل في مناطق الواحات، حيث توسيع المساحة المسقية في مجالات صحراوية تأتى كله بفضل المياه الجوفية التي تستعمل خاصة في زراعة البطيخ الأحمر. ونتج عن ذلك نفس الإشكالات، أي انهيار في مستوى المياه الجوفية وظهور صعوبات حقيقية في تلبية الحاجيات من الماء لعدة قرى ومدن صغرى.
أكثر من هذا، تحقيق الربح المتوخى من البطيخ الأحمر لم يعد مضمونا، لأن أحيانا وفرة الإنتاج أو محدودية الطلب المحلي لن يعوضها التصدير. كل هذه الحقائق لا تمنع أولئك الذين استغلوا بإفراط المياه الجوفية من مواصلة الضغط على السلطة العمومية لمواكبة أنشطتهم، مثلا بمطالبة إعانات جديدة عن الضخ بالطاقة الشمسية، وذلك لا يمكنه إلا أن يزيد في استنزاف الموارد. وكل ذلك من شأنه أن يقصي أغلبية الفلاحين (لأن من ليست له إمكانيات مالية كافية لحفر في مستويات أعمق قد غادر) في ما يعرف بمنطق تفرد الأرباح (لما تكون الأسواق إيجابية) وتشارك الخسائر، حيث إن هؤلاء الفلاحين لا يريدون الاعتراف بمسؤوليتهم في ظاهرة نضوب المياه الجوفية.
اتساع رقعة السقي أصبح اليوم يعتبر حجرا أساسيا لغالبية الفاعلين في القطاع الفلاحي، وأدى بكل التفكير الاستراتيجي إلى أن يتمحور حول الزيادة في الإنتاج إلا عبر كميات أكبر من ماء الري. قليلة هي الأصوات التي تتفوه بتصورات مغايرة لهذا الفكر الفريد، المرتكز على نظرية الميزة النسبية التي ترغم المغرب على تصدير دائما كميات أوفر من الفواكه والخضر المنتجة أساسا بمياه جوفية غير متجددة مع استعمال يد عاملة رخيصة. في الوقت الذي يستورد فيه أهم حاجياته من البضائع الغذائية الأساسية مثل الحبوب، القطاني، الزيوت النباتية، السكر، فواكه جافة، جبن، تمر، إلخ. أسوأ من هذا، التفكير الفريد يتجاهل الآثار التي يسببها، مثل تصحر مناطق بأكملها ينوه بنموذج تنمية زراعية لا يتماشى مع متطلبات التحديات التي كشفت نقابها جائحة "كوفيد-19".
تطوير فلاحة مغايرة: متنوعة ومرتكزة على الأمطار والدوائر القصيرة
إن التفشي المباغت للجائحة وتداعياتها المتعددة (الصحية، الاقتصادية، المالية) حتم التفكير في عالم أكثر توازنا، يعطي الأولوية للبشر على الاقتصاد، مع بروز أفكار مرتبطة بتحسين أداء منظومة التربية والتعليم، بديمومة اختيارات الاستهلاك، إن لم نقل التوفير والتضامن. هذه المثل العليا يجب توظيفها في عالم مختلف يسمح لأجيال المستقبل بالعيش في كوكب لا زالت فيه الحياة ممكنة، رغم تحديات الضغط السكني وتغيير المناخ.
لكل هذه الأسباب، تمثل الجائحة فرصة حقيقية يجب اغتنامها بالنسبة للفلاحة المغربية. ولهذا يجب القيام بتقييم موضوعي لخيارات الماضي، لاسيما تلك المرتبطة بمخطط المغرب الأخضر لتصميم نموذج آخر. حان الوقت للاعتراف بأن الاستهلاك المفرط للمياه الجوفية لم يعد شعارا مناسبا. إن تحسين وتثمين الماء يجب من الأساس أن يولي اهتماما بالغا لأصل هذا المورد. لهذا وجب تصحيح السياسات العمومية مع مراعاة المعرفة العلمية في هذا المجال، وإعطاء الأولوية لمياه الأمطار. ويعني هذا بأن في جل المناطق يجب إعادة الاهتمام بالزراعات التي لا تتطلب إلا التساقطات الموسمية: الحبوب، القطاني، وتربية المواشي المرتكزة على الأعلاف والمراعي الطبيعية. ويجب مراجعة الإعانات والتفكير الاستراتيجي نحو المياه المطرية، مع تقنين صارم لاستعمال المياه الجوفية.
وفي هذا الصدد، يبدو بأن مقارنة تثمين الماء من طرف الزراعات المسقية والمطرية غير معقولة لكل الأسباب السالفة الذكر، ذلك أن الزراعات المطرية تنتج أيضا مخلفات مثل التبن وحصيدة الحبوب ذات منفعة هائلة بالنسبة للماشية. ولا يجب الاستخفاف بدور البهائم في صمود الضيعات الفلاحية، خاصة العاﺋلية منها، لمواجهة الأزمات، سواء كانت اقتصادية أو مناخية.
إن التفكير في الزيادة في الإنتاج الوطني من الحبوب لا يمكن أن يصاحب بالزيادة في مساحة هذه الزراعات في المناطق السقوية، بل بتحسين المردود في المناطق التي تعتمد بالأساس على المطر، حيث النتائج المتوسطة لا زالت ضعيفة حتى في السنوات الإيجابية، إذ لا تتجاوز 25 قنطارا في الهكتار. تعني هذه الأفكار إعادة النظر في برامج الدعم التكوين والبحث العلمي، من أجل توطيد العلاقات بين الزراعات والإنتاج الحيواني المستعمل للمطر.
كما يجب تشجيع فلاحة متنوعة لا تستهلك إلا القليل من المتدخلات الخارجية (ماء الري، مبيدات، أسمدة، وقود أحفوري، إلخ)، تدور كل مخلفات الزراعات والفضلات الحيوانية وتسوق منتجاتها في دوائر قصيرة، أي أسواق القرب. وتجسد هذه التدابير فلسفة مغايرة تماما للنموذج الذي تم اعتماده من طرف مخطط المغرب الأخضر، الذي قام على ضيعات فلاحية كبيرة (ما يسمى الدعامة الأولى) مختصة في الأشجار المثمرة أو الأبقار الحلوب، مع استنزاف الفرشة المائية في العديد من الأحيان.
ويلاحظ بأن أغلبية الضيعات التي زرعت أشجارا مثمرة مجهزة بالري بالتنقيط للتصدير (حوامض، زيت الزيتون، الأفوكادو) مستفيدة من إعانات عمومية
مهمة، تبين من بعد عن هشاشتها أمام أي طارئ صحي، (ظهور مرض(، مناخي (جفاف، فيضان، صقيع، برد)، أو اقتصادي (انهيار الأثمان). كل هذه المعطيات تحتم من الآن فصاعدا إعطاء أهمية قصوى لمفهوم السيادة الغذائية، الذي همش من طرف فكر التبادل الحر الذي جعل المغرب في وضع التبعية الغذائية.
رقم واحد يكفي لتوضيح الحالة الراهنة: أكثر من 200 كيلوغرام من الحبوب الأساسية تستورد سنويا لكل فرد، من قمح صلب وطري، شعير وذرة. من أجل مراعاة خصوصية الفلاحة والتغذية، يجب تشجيع بكل الوسائل المتوفرة الإنتاج المحلي كي لا يكون المواطن المغربي عرضة لتقلبات الأثمان في الأسواق العالمية، ما سيساعد في الحد من استهلاك الطاقة الأحفورية اللازمة لنقل ملايين الأطنان من الطعام من إلى البلاد، التي تساهم لا محال في تزايد تأثير الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
خلاصات
من أهم الاستنتاجات التي خلفتها جائحة "كوفيد-19" في المغرب، هناك الاعتراف بالأدوار الأساسية للفلاحة؛ وهذا أدى إلى وعي المواطن بمساهمة الفلاحين في التموين السلس للأسواق بالمواد الغذائية. ومع ذلك، لاحظ المواطن أهمية المواد الغذائية المستوردة التي أقنعته بمدى التبعية الغذائية الحالية للمغرب. هذه البضائع المستوردة تصل إلى قيمة 1300 درهم لكل فرد سنويا، وتمثل كمية هائلة من المياه الافتراضية (أي الماء الذي استعمل في بلادها الأصلي من أجل إنتاجها)، التي تساهم أيضا في تجاوز محن ندرة الماء في المغرب. هذه المواد الغذائية المستوردة ساعدت عدة عائلات على تحمل فقدان أجورهم إثر تفشي الجائحة، إذ كانت بأثمان نسبيا في المتناول.
لكن ماذا قد يحصل إذا ارتفعت الأثمان في الأسواق الدولية كما كان الحال في2008 ؟. وبما أن الجائحة قد تفشت في سنة جافة، ستكون عواقبها على الاقتصاد الوطني وخيمة مع تأثير على المدى البعيد، لكن ذلك لا يجب أن يشكل ذريعة للعودة إلى ردود الفعل القديمة التي تؤمن بتمديد المساحة المسقية مع تعبئة إلى أقصى الحدود للموارد المائية، حتى غير التقليدية (معالجة مياه الصرف الصحي وتحلية مياه البحر).
على العكس تماما، حان الوقت لفتح نقاش وطني هادئ ومسؤول لاستعمال الماء في القطاع الفلاحي، وإن كان الثمن هو مراجعة الطموحات، مع الاعتراف بأن الحقائق العلمية يجب أن توظف لاتخاذ القرار السياسي الأنجع.
قد يهمك ايضا
وزارة الصحة المغربية تكشف عدد الحالات النشطة والحرجة وتوزيعها الجغرافي
"الصحة العالمية" ترد على بخاخ الأنف الملحي والقضاء على "كورونا"
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر