بيروت - غيث حمّور
يرى الخبراء السينمائيون أنّه على الرغم من مرور أكثر من أربعين عاماً على فيلم "المرآة" للمخرج الروسي أندريه تاركوفسكي، مازالت اللغة السينمائية التي استخدمها خلاله عصيّة على الكثير من المخرجين، رغم التطور التكنولوجي الكبير الذي شهدته الساحة السينمائية على صعيد الأدوات والمؤثرات والخدع السينمائية المستخدمة.وقدّم مخرج فيلم "اليوم المضيء"، أو ما أسماه تاركوفسكي فيما بعد
"المرآة" عام 1974، رؤية خاصة على صعيد اللغة السينمائية والتكنيك المستخدم، حيث حمّل الفيلم بعداً فلسفياً عميقاً، تضمن قدرة كبيرة على ولوج العالم العاطفي للرجل البالغ، والطفل الصغير، على حدّ سواء، وعلى المستوى البصري فقد حيّر التكنيك السينمائي الذي استخدمه تاركوفسكي العديد من المهتمين، فاختلف النقاد كثيراً على ماهيته، وأدوات صياغته، واعتبره البعض معقداً وغير مفهوم، فيما اعتبره البعض الآخر بسيطاً وقريباً من الواقع، فيما كان المخرج الإيطالي الشهير ميخائيل أنجلو أنتونيوني من أشد المعجبين بهذا الفيلم، وطلب على إثره لقاء تاركوفسكي.
وتدور أحداث الفيلم عن رجل يبدأ في معاصرة ذكرياته من جديد، ليعيد شريط حياته بداية من الطفولة مروراً بالمراهقة، ويرى ما قامت به الحياة من تدمير وتخريب لمعظم حياته، وعلاقاته الاجتماعية مع والدته وأخوته، ولاحقاً مع زوجته، فيما يربط بين الماضي والحاضر مرآة معلقة على جداره، شهدت قصة حياته، ومازالت تعيدها من جديد كلما نظر إليها، وهي (المرآة) الأداة الرئيسية في اللعبة الفنية.
وتعتمد الأفلام السينمائية الجديدة على التقنيات المتطورة في تقديم نتاجها الفني، ويعتبر وجودها غالباً تقليلاً من دور المخرج، مع بعض الاستثناءات، حيث يحوّله إلى مدير تصوير، بحيث يعتمد نجاح الفيلم على نجاح هذا المدير، ما يفرز سؤالاً مهماً "هل تصنع الأفلام السينمائية بموهبة المخرجين أم بالقدرات التقنية والفنية"، ويأتي جواب هذا السؤال من المخرج الروسي تاركوفسكي، الذي يؤكّد عمله أن المخرج الموهوب والمهموم بالفن كقضية لا يحتاج لتقنيات كثيرة ليثبت موقفه الفني والنقدي، وهو أساس الإبداع ومحركة الأساسي، معتبرًا فيلم "المرآة" هو صورة حقيقية لهذا الواقع، دون وجود تقنيات وعوامل أخرى مساعدة، حيث قدّمت معظم مشاهد الفيلم على صعيد التكنيك والصورة بشكل احترافي كبير، تضاهي وتتفوق في كثير من الأحيان على ما يقدّم في الوقت الراهن، على الرغم من أنّ الأدوات السينمائية المستخدمة في الفيلم لا ترتقي إلى ما يستخدم الآن، وهذا ما يبرز حرفية تاركوفسكي، وقدرته على تقديم صورة مشهدية مميزة وخارجة عن المألوف.
ومن أهم المشاهد التي صوّرها تاركوفسكي في هذا الفيلم مشهد حريق المنزل في البداية، رغم أنّ مشاهد الحرائق موجودة في كثير من الأفلام، ويستخدم في تنفيذها الخدع السينمائية والمعالجة على الكمبيوتر، ولكن المشهد الذي صوّره تاركوفسكي جاء وكأنه ينفذ في وقتنا هذا، مع استخدام أحدث التقنيات والخدع، والفرق الوحيد أنه صوّر دونها، وعلى العكس نفذ باستخدام المعدات العادية، ورغم ذلك حافظ تاركوفسكي على الصورة المقدمة، وتفاصيلها التي تنافس الصورة السينمائية في عام 2014، دون إهمال البعد النفسي والفلسفي في مجريات الفيلم، عبر رصد ردود فعل الشخصيات التي شهدت هذا الحريق.
وعلى جانب آخر، جذب مشهد "السرير"، في نهاية الفيلم، انتباه الكثير من المتابعين والنقاد السينمائيين، ومازال يعتبر من المشاهد الخالدة في تاريخ السينما، ويدّرس في الأكاديميات السينمائية على أنه من أفضل المشاهد التي صوّرت بتقنيات متواضعة، فالكيفية التي قدم فيها المشهد بوجود السرير والممثلة مارغريتا تيروخوفا تطير فوقه، يخطف الأنفاس، ويؤكّد تفوق موهبة تاركوفسكي على كل التقنيات الجديدة، ببساطته التي تحمل الكثير من القدرات الاستثنائية السينمائية لمخرجه.
ويوضح الخبراء السينمائيون أنّ الأفلام السينمائية تعتمد عادةً على بناء قصصي وحركي، وشخصيات تحمل طباعاً مختلفة، ونهايات سعيدة أو حزينة، أما فيلم "المرآة" لتاركوفسكي، الذي كتبه بالتعاون مع أليكساندر مسشيرين، فقد خرج من هذه النمطية المعتادة، ليدخل عالم الفلسفة، عبر سيرته الذاتية شديدة التعقيد والسهولة معاً، فلم يعتمد الجوانب الدرامية التقليدية، حيث خلق أجواءه الخاصة على صعيد الصورة، التي مزجها بألحان باخ، وبيرسيل، وبيرغوليزي، وأشعار لارسيني تاركوفسكي، التي قدمت بصوت مؤلفها، ليكوّن تناغماً مشهدياً ينتقل بين الصورة والرمز بطريقة سلسة، محوّلاً كلّ تفصيل صغير من الصورة إلى رمز يحمل دلالاته الخاصة الموت، والحياة، والخلود، والحب، والخطأ، والصواب، ويبني طريقة للتواصل، تعتمد الصورة والمشاعر، وتلغي الحواجز بين الأشخاص الذين يقفون على جوانب متعاكسة في "المرآة" ليتوحدوا في بوتقة واحدة من الأحاسيس، معتمداً على المبدأ الأول للعلاقات الإنسانية في القدرة على فهم الآخر ومسامحته على أخطائه غير المقصودة.
ويلفت الخبراء إلى أنّه على الرغم من شيوع الطريقة التي استخدمها تاركوفسكي، على مستوى السرد السينمائي، عبر استحضار الماضي وعكسه على الحاضر، في صورة فواصل الزمنية، إلا أنه مزجها بحسه الخاص، وأضاف عليها تجربته الحياتية الخاصة، عبر تسلسل تاريخي خاص ومميز، بغية أن يجعل المشاهد يشعر بجمال العالم في محيطه، عارضاً القيم الحقيقية للعالم، دون تنميق أو تزيين، مرسخاً القيم الروحية والأخلاقية، عبر "المرآة"، الشاهد الأول على كل ما يدور، حيث منح تاركوفسكي كل حدث من الأحداث وكل ذكرى من الذكريات جواً متفرداً، وأضاف بعداً فلسفياً خاصاً لكل شخصية من شخصياته، وجعل الربط بين الأحداث والذكريات من جهة، والشخصيات من جهة أخرى، محكوماً بشخصيتين أساسيتين في الفيلم بطريقة ذكية، الأولى شخصيته هو، والتي لم تظهر على الشاشة، رغم أنها اقتصرت على الصوت، حيث استطاع توظيفه بشكل احترافي، مظهراً أهمية الأحاسيس والانفعالات التي ينتجها الصوت دون الحاجة إلى الجسد، أما الشخصية الثانية كاترينا، والتي قامت بدورها الممثلة مارغريتا تيروخوفا، واستطاعت عبر أدائها الدقيق والمدروس تكوين صورة حقيقية لواقع المرأة، ومعاناتها الحياتية، وما ساعدها في ذلك اللقطات المبدعة التي التقطها المخرج عبر "المرآة"، العامل المشترك الأساسي في خط السرد السينمائي للفيلم، فيما عكست الحوارات التي جمعت الشخصيتين المكنونات والهواجس الشخصية للمخرج، بصورة كبيرة، والتي تمثلت في أنّ الإنسان مسؤول عن حياته في الماضي والمستقبل، وأنَّ ما يقدمه لا يمكن أن يكون له وحده، فالآخر جزء من وجوده، ودورة الحياة تكتمل باكتمال جميع عناصرها، وأهم هذه العناصر العلاقة التي تربط الإنسان مع الآخر.
ويعتبر أندريه تاركوفسكي من أهم المخرجين الروس، ومن أبرز المخرجين الذين مرّوا على تاريخ السينما، ورغم قلة إنتاجه السينمائي، الذي يتمثل في سبعة أفلام، مقارنةً مع غيره من عظماء السينما، إلا أنَّ أفلامه تركت بصمة واضحة في عالم الفن السابع، وأصبحت تدرّس في غالبية الأكاديميات السينمائية في العالم.
وكانت انطلاقة تاركوفسكي الحقيقية كانت مع فيلم "طفولة إيفان"، في عام 1962، حيث أخذ على عاتقه مواصلة الفيلم بعدما أوقفت مؤسسة السينما "موسفيلم" عمل المخرج أبالوف فيه، فأعد سيناريو جديد للفيلم عن قصة للكاتب فلاديمير بكومولوف، وحصد الفيلم في مهرجان البندقية السينمائي لعام 1962 الجائزة الأولى "الأسد الذهبي"، وكذلك فاز بجائزة النقاد البولونية في العام 1963، كما فاز الفيلم بأربعة جوائز عالمية أخرى، ومع بداية العام 1968 انشغل بالإعداد والتخطيط لفيلم مغامرات علمية، بالاستناد للرواية العلمية الخيالية "سولاريس"، للكاتب البولوني ستانيسلاف ليم، وأنهى تصويره عام 1971، حيث عرض في مهرجان "كان"، لاعتباره الفيلم السوفييتي الرسمي، وحصل على جائزة النقاد، وكذلك حصل على جائزة مهرجان لندن، وجوائز أخرى.
وشهد العام 1974 النقلة الكبيرة في مسيرته مع فيلم "المرآة"، الذي اعتبره العديد من النقاد أفضل وأنضج ما قدّم تاركوفسكي للسينما العالمية، وفي العام 1977 قدّم فيلم "ستالكر"، المأخوذ عن قصة "نزهة على الطريق الجانبي" للكاتبين الأخوين أركاديا وبوريس ستروكاتصي.
وقدّم في عام 1983 فيلم "الحنين، نوستالجيا"، الذي صوّره في إيطاليا، وآخر أفلامه "التضحية" أو (القربان)، صوّره عام 1985 وعرض في مهرجان "كان" السينمائي، وحصل على جائزة اتحاد النقاد العالمي، كما حضّر لمشاريع عدة، منها إخراج رواية "ذئب البراري" للكاتب الألماني هيرمان هيسه، ورواية "المعلم ومارغريتا" لبولغاكوف، ورواية "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي، وفيلم قصير عن حياة "كافكا"، وكذلك "أفلام" حياة وأعمال الكاتب الألماني الكلاسيكي هوفمان، لكنه لم يستطع أن يحقق ذلك حيث قضى تاركوفسكي نحبه بداء السرطان، عام 1986، في باريس، ودفن هناك.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر