تونس - حياة الغانمي
عُرفت مدينة نابل منذ القدم بتميزها في صناعة الفخار والخزف والتطريز والنقش على الحجارة والسمار، ونابل هي عاصمة الخزف التي كانت في القرن التاسع عشر ميلاديا مركزا مزدهرا في حرف الفخار بنوعيه "الشواط" وهو الفخار غير المزين و"المطلي" والذي يتم تزيينه بالأصفر والأخضر والبني. والصناعات التقليدية في محافظة نابل نحتت جذورها مع الأجداد وتواصلت وتجددت مع الشباب لكن الحرفيين اليوم يواجهون عددا من الصعوبات.
"المغرب اليوم" قامت بجولة في مدينة الخزف وتنقلت في محلات صناعة الفخار لتتعرف على هواجس المهنيين وعلى مميزات حرفتهم التي اشتهرت في كل العالم، والملفت للانتباه في مدينة نابل هو أنه قد برع في هذا الاختصاص جيل من الخزفيين الذين رسموا سمات "الخزف الفني النابلي" ولا سيما خلال النصف الاول من القرن العشرين. لتنتشر التحف الفنية وأدوات الخزف في نابل معبرة عن موهبة وعن تراث أندلسي وعثماني وحضارات ألقت برسومها على الأواني، وبين جمال الأواني والمعروضات ومشاكل الحرفيين حكاية أخرى.
وعندما تدخل مصنع الفخار الصغير للسيد محمد تستقبلك أواني الفخار المصنوعة يمينا ويسارا، إنها أواني للطعام وأخرى للزينة أما أكثرها فهي "الحلاب" وأواني اللبلابي التي تعرف خلال هذه الفترة ذروة الإقبال عليها ويتواصل الاقبال الكبير إلى شهر فبراير/شباط بعيدا عن جمال الأواني المرصفة يمينا ويسارا تحدث محمد عن مجموعة من الصعوبات التي يعيشها الحرفيون في صناعة الفخار في نابل حيث ارتفعت أسعار المواد الأولية مثل الطين الذي ارتفع سعره من 200 دينار إلى 300 دينار وارتفاع سعر الغاز الذي كان بـ170 مليما في 2004 وأصبح اليوم بـ400 مليم، وتحدث عن وجود بعض العاملين في جلب المواد الاولية الذين قاموا برفع سعره.
وقد أشار السيد محمد إلى آنية تسمى "حلاب" مصنوع قائلا أن تلك القطعة تكلفتها تصل إلى 600 مليم ويقع بيعها بـ700 مليم في حين أنها وقبل الثورة كانت تكلفتها أريعمائة مليم وتباع بستمائة مليم أي أن هامش الربح قد تقلص بأكثر من خمسين بالمائة. وفسّر تراجع العائدات إلى التأثر بالأزمة الليبية فالسوق الليبية هي من أكبر الأسواق ورغم وجود السياحة الجزائرية فإن الترويج ليس كالعادة.
وفي المحلّ المخصص لصناعة الفخار تجد الأواني الفخارية وآلة "التمليس" والفرن المستقبل بحرارته الأواني اللينة الطينية، ويقول محدثنا إنه تعلم هذه المهنة منذ ما يزيد على الثلاثين سنة من أخيه ويضيف أن أغلب أهالي نابل كانوا يعيشون من الفلاحة وبعدها من صناعة الفخّار والسمار، وعند الحديث عن صناعة الفخار لا بد من الإشارة إلى أن هذه الصناعة تطوّرت باعتبار أن الآلات الميكانيكية تطورت بدورها، كما تطور الإقبال على الفخار ووصل إلى حد الطلب العالمي لهذا النوع من الصناعات التقليدية.
فالفخار الذي كان منسوبا إلى عائلات معروفة في نابل، تطور وأصبح مطلوبا في عدد من البلدان الأخرى على غرار مصر التي تم افتتاح قرية في الفيوم تسمى قرية تونس لصناعة الفخار، لكن المشكلة أن المهنة تشكو حسب المهنيين من صعوبات كثيرة جعلت عددا من صغار صناع الفخار يغلقون محلاتهم، ورغم ذلك قد تجد من هو في سن السادسة عشرة من عمره ويعمل في محل لصناعة الخزف، وتجده يرفرف على آلة التمليس ساعيا إلى الإبداع في صناعة القطعة التي يريد بكل تفنن وبراعة.
وفي محل العم ابراهيم استقبلنا بأواني مزركشة رصفها بعناية فائقة في محله، وبكثير من المحبة لمهنته تحدث عن الفخار العربي والفخار المورد والأواني المصنوعة من "الطفل" العادي، وقد افادنا أن اصحاب المحلات يعانون صعوبات كثيرة حيث تراجعت المداخيل وارتفعت أسعار المواد الأولية وتضرر الكثير من صغار الحرفيين. تخوفات كثيرة يعيشها أهالي صناعة الفخار كما رواها الكثير من أصحاب المهنة ممن زرناهم لكن المنتجات المعروضة في المدينة العربي والمحلات ما زالت تؤكد أن نابل عاصمة الفخار بلا منازع.
ورغم الصعوبات التي يعيشها قطاع صناعة الفخار إلا أن هذه المهنة التي يمتهنها أكثر من 25 ألفا في نابل تبقى محظوظة مقارنة بصناعات أخرى حدثنا عنها الأهالي بالمدينة العربي مثل صناعة الحصير والسمار وأنواع من صناعة الخزف وحتى التطريز أما السبب الأساسي فهو نقص اليد العاملة والمقبلين على تعلم الصنعة ومنافسة الصناعات الآسيوية والمستوردة ، ويُذكر أن بلديّة "نابل" كانت قد قررت فتح متحف خاص بقطاع الصّناعات التقليديّة يُعرّف بصناعة الفخار والخزف والحصير وإبراز خصوصيّاتها الفنيّة.
وتهدف هذه الخطوة التي تقوم بها البلديّة إلى مزيد من تنشيط القطاع السّياحي وتطويره في انتظار إحياء بعض العادات القديمة مثل الأسواق التقليديّة وبعض المهرجانات المختصة. هذا المتحف يتضمّن بيانات علميّة حول أنموذج صناعة الفخار التقليدي والعصري ونماذج من صناعة الخزف التي تحمل أرقى مواصفات الجودة إضافة إلى التعريف بتقنيات صناعة الحصير.
ويذكر أن الحرفيّين في ولاية نابل يطالبون بعودة المهرجان الدولي للخزف الذي انعقد في مناسبتين فحسب بمشاركة عديد الدول العربية والأفريقية. وتكثر مصانع الخزف الكبيرة ومحلات تزويق وصناعة الخزف الصغيرة ومحلات بيع هذه المنتجات التقليدية داخل السوق وخارجه وتتزين بها الشوارع والمباني بكل مدينة نابل . ورغم التطور الذي شهدته صناعة الفخار فإنها في نابل مازالت تعتمد على لمسات الحرفي الفنية ومواهبه وخبرته في تشكيل الأواني والتحف ونقشها برسوم تعبر عن موروث حضاري يعكس عراقة هذه الحرفة، ولا تزال القوالب تُعتمد لتشكيل القطع مما يعطيها هذا البعد الفني التقليدي دون استعمال للآلات المتطورة وهذا ما يجعل مجال الابتكار والإبداع ذو آفاق واسعة.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر