على مرّ سنوات، أُشيد كثيراً بهولندا لاعتبارها رائدة في مجال الجهود الرامية للتّعويض عن الظلم الناجم عن أعمال السّلب والنّهب النازية خلال الحرب العالمية الثانية. وأشاد كثيرون بهولندا لاتخاذها إجراءات للبحث عن الأعمال الفنية المنهوبة وإعادتها إلى أصحابها الشرعيين.
ومع ذلك، تراجعت هذه السّمعة على امتداد العقد الماضي، وذلك مع تعرض اللجنة الحكومية المعنية بالتّعامل مع مطالبات الضحايا وورثتهم، «اللجنة الهولندية لإعادة الأعمال الفنية المسروقة»، لانتقادات بسبب قرارات اعتبرها البعض تافهة وتخلو من التعاطف مع الضحايا.
والآن، خلصت لجنة شكّلها وزير الثقافة لتقييم سجل عمل لجنة إعادة الأعمال الفنية المسروقة، في تقرير صدر أول من أمس الاثنين، إلى أنّ الهولنديين قد تحركوا في الاتجاه الخاطئ.اللافت أنّ التقرير تجنّب توجيه انتقادات لاذعة للجنة، وللوهلة الأولى ربما يبدو كأنّه مجرد تصحيح للمسار الإداري لعمل اللجنة. ومع ذلك، اتّسمت النتائج الواردة فيه بدرجة من القوة والشّدة كانت كافية لأن يتقدم اثنان من أعضاء اللجنة السبعة، بمن فيهم رئيسها، باستقالة فورية. ويدور الجدال الأكبر حول سياسة اعتمدتها لجنة إعادة الأعمال الفنية المسروقة عام 2012 «لتحقيق التوازن بين مصالح» المطالبين باسترداد أعمال فنية مقابل المتاحف. جدير بالذكر أنّ العديد من المؤسسات الهولندية ضمّت أعمالاً فنية مسروقة منذ الحرب، عندما بدأ مسؤولون في إعادة أعمال فنية نهبها النازيون إلى البلدان التي سلبت منها، على أساس أنّها ستُعاد إلى أصحابها الشّرعيين بمجرد تحديد هويتها. إلّا أنّه في أعقاب النّظر في «توازن المصالح»، رفضت اللجنة الهولندية لإعادة الأعمال الفنية في السنوات الأخيرة، بعض المطالبات باسترداد أعمال فنية مسلوبة، مبرّرة ذلك بأنّ اللوحة أو النحت أو العمل الفني المعني أصبح أكثر أهمية للمتاحف عنه للورثة.
من جهته، أوصى تقرير صدر الاثنين بالتّخلص من اختبار «التوازن»، وحثّ على ضرورة إظهار اللجنة «قدراً أكبر من التّعاطف» ومستوى من التعامل «أقل رسمية» في ردودها على المطالبات الموجهة إليها.
في هذا الصّدد، قال جاكوب كونستام، المحامي الذي ترأس اللجنة التي وضعت التقرير، في مقابلة أجريت معه عبر الهاتف: «إذا كان هناك عمل فني منهوب وكان هناك وريث شرعي له، فلا ينبغي أن تؤخذ مصالح المتحف في الاعتبار. من جانبنا، نحاول السّعي لتحقيق العدالة».
كانت سياسة «توازن المصالح» قد تعرّضت لانتقادات واسعة من قبل خبراء الاسترداد الدُّوليين، بما في ذلك ستيوارت إي. إيزنستات، مستشار وزارة الخارجية وأحد المشاركين في صياغة «مبادئ واشنطن»، اتفاقية دُولية أُقرّت عام 1998، أرست مبادئ إرشادية للدُّول بشأن التّعامل مع الأعمال الفنية التي سُلبت خلال الحرب العالمية الثانية.
وفي مقال رأي نشرته في صحيفة «إن آر سي هاندلسبلاد»، عام 2018، وبّخ خبيران دوليان الحكومة الهولندية. وقالا إنّها «بدّدت الآمال التي تنامت منذ 20 عاماً في (مؤتمر واشنطن) فيأن يسود العدل والإنصاف وتعود الممتلكات المنهوبة لأصحابها الشرعيين».
ولا بدّ من ذكر، أنّ لجنة المراجعة بقيادة كونستام قضت عدة أشهر في عقد مقابلات مع المدعين ومحاميهم وأعضاء اللجنة ومسؤولي المتاحف وخبراء تعويض من الخارج حول الإجراءات الهولندية. ويقترح التقرير أن تستأنف الحكومة البحث المنهجي في تاريخ الأعمال الفنية في زمن الحرب، على أمل العثور على ضحايا أعمال النهب النازية أو ورثتهم، وكذلك إصدار مجموعة واضحة من المبادئ التّوجيهية لشرح كيفية عمل إجراءات الاسترداد، وإنشاء «مكتب مساعدة» لتوجيه المطالبين من خلاله.
من جهته، قال كونستام إنّ لجنة المراجعة اكتشفت وجود ما لا يقلّ عن 15 وثيقة سياسة ورسالة إلى البرلمان توضح القواعد الهولندية للتّعامل مع مطالبات الاسترداد، ما يجعل من الصّعب للغاية على المواطن العادي فهم كيف سيصدر الحكم النهائي في مسألته.
على الجانب الآخر، رفض الرئيس السابق للجنة التعويضات ألفريد هامرشتاين التعليق على أسباب استقالته. وفي سياق متصل، قال الأعضاء الباقين في لجنة إعادة الأعمال الفنية المنهوبة في بيان مشترك إنّهم يرحبون «بالتوصيات البنّاءة الواردة في التقرير»، وتعهدوا ببذل «أكبر الجهود الممكنة لتعديل ممارسات العمل الخاصة بهم، كي يُنظر إليهم باعتبارهم أقل جفاءً. وسيشمل ذلك تكثيف التواصل مع المتقدمين بطلبات الاسترداد وصياغة التوصيات والقرارات على نحو يجعلها أسهل في فهمها». إلّا أنّ إيزنستات، مستشار وزارة الخارجية، وصف التقرير المتعلق بعمل اللجنة بأنّه «يدينها بشدة».
وقال خلال مقابلة معه عبر الهاتف: «إذا نُفّذ، فإنّه سيقطع شوطاً طويلاً نحو تصحيح بعض الأخطاء. وسيعيد السياسة الهولندية إلى أصولها، التي كانت نموذجية في البداية، لكن تردّى حالها لاحقاً».
وفي مقابلة أخرى أجريت أيضاً عبر الهاتف، قال تاكو ديبيتس، مدير «متحف ريكز»، المتحف الوطني الهولندي، إنّه يأمل في أن تتبنى الحكومة الهولندية التّوصيات الواردة في تقرير لجنة المراجعة. وأضاف: «لا نريد أشياء في متاحفنا لها تاريخ على صلة بجرائم الحرب والسرقة». وأوضح أنّه لطالما شعر بأنّ سياسة موازنة المصالح غير مناسبة. وتابع: «إذا حصلت على دراجة مسروقة واستخدمتها، وجاء صاحبها يطالبني باستردادها، لا أستطيع أن أجيبه: (في الواقع أنا أستخدمها كثيراً، لذا لا يمكنني إعادتها إليك)». تجدر الإشارة في هذا الصدد، إلى أنّه نظراً لولعهم بفن العصر الذهبي الهولندي، الذي شعروا أنّه يمثّل تقليداً جرمانياً عظيماً، نهب النازيون أعداداً هائلة من الأعمال الفنية من هولندا خلال الحرب العالمية الثانية. واستُولي على الأعمال الفنية ونُهبت أو بيعت تحت ستار قانوني زائف، حيث مورست ضغوط على اليهود من تجار الأعمال الفنية لبيع متاجرهم الخاصة بأسعار زهيدة للغاية، تحت التهديد بالترحيل أو القتل. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، أعادت قوات الحلفاء آلاف الأعمال الفنية إلى هولندا، وأسس الهولنديون مؤسسة هولندا للفنون الملكية، التي استعادت عدّة مئات من القطع، وباعت بالمزاد حوالى 4000 عمل فنّي، من بينها 1700 لوحة.
واعتبرت المؤسسة أنّها أنجزت كامل عملها عام 1951، وأغلقت أبوابها. ومع ذلك، لم تُعد عدة آلاف من الأعمال الفنية بل وُضعت بين مجموعة الممتلكات الفنية الهولندية، المعروفة اختصاراً باسم «إن. كيه».
في عام 1998، بالإضافة إلى التوقيع على «مبادئ واشنطن»، استأنفت الحكومة الهولندية جهود إعادة الأعمال لأصحابها الشّرعيين، من خلال إنشاء «لجنة الأصول غير معروفة المصدر» التي بحثت بنشاط في تاريخ الأعمال الفنية، ووضعت سياسة جديدة للتّعامل مع مسألة إعادتها.
إلّا أنّ إعادة 202 عمل من مجموعة تاجر الأعمال الفنية الهولندي جاك غودستكر، عام 2006، أثار غضب البعض في الحكومة. وقالت مقالات رأي في الصّحف إنّ هذه الأعمال كانت قيّمة للغاية بالنسبة للجمهور الهولندي، وبالتالي لم يكن ينبغي السّماح برحيلها عن البلاد.
من جهته، أعرب جيرت يان فان دين بيرغ، محامٍ هولندي تولى التّعامل مع العديد من القضايا الدُّولية لاستعادة أعمال فنية، عن اعتقاده بأنّ استعادة الأعمال الفنية التي كانت بحوزة غودستكر شكّلت نقطة تحوُّل جوهرية أمام صانعي السياسات.
قد يهمك ايضا
وزارة الآثار المصرية تعرض تابوت لآخر ملكات الأسرة الـ19 في متحف الأقصر
مطالب بمشروع عاجل لترميم مقبرة ومومياء الملك توت عنخ آمون في الأقصر
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر