تعرض دراسة جديدة معالم تصور الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمان لـ”واجب المقاومة الفلسطينية”، مقدمة ملاحظات على بعض رؤاه ومنطلقاته.
جاء هذا في ورقة بحثية جديدة للباحث محمد زاوي نشرها منتدى “إحياء للتنمية الأخلاقية”، تقول إن تأييد طه عبد الرحمان لـ”خيار المقاومة، وبالضبط مقاومة الكيان الصهيوني في كل من لبنان وفلسطين”، يعود إلى كون جوهر متنه هو “الاستعمار كشرط أساسي، والتفاوت الطبقي كشرط مُستبطَن فيه، محليا وعالَميا”، ونظرا لكون “معاركنا التاريخية”، معركتَين: “مواجهة الاستعمار الجديد-القديم” و”مواجهة الاستعمار الجديد”.
وتزيد الورقة شارحة: “الاستعمار القديم هو الاستعمار العسكري، وهو اليوم منحصر في فلسطين وسبتة ومليلية، ويتجدد، بطرق أخرى، كما حصل في العراق ولبنان ثم سوريا وليبيا فيما بعد”. والاستعمار العسكري الحاصل اليوم “استعمار جديد-قديم، لأنه تشكيل قديم يتجدد في زمن الاستعمار الجديد”. لكن، “على نقيض الاستعمار توجد المقاومَة في فلسطين ولبنان”، ويؤيدها طه بجعله لها “فلسفة (أدلوجة) نافعة في التحريض والتحريك، مهما كانت زائفة في تحديدها لطبيعة الصراع القائم بين “الكيان الصهيوني” والوطن العربي”.
ويجادل محمد زاوي بأن قراءة طه يجب أن تتم من طرفين “مناضل يقرأ ويُنَظّر، ومناضل يقاوم في ميدان المعركة”؛ فالأول “يعرف أن طه لا يجدي في تفسير ما يقع، ويكتفي بتبشير المناضلين بأن لهم فيلسوفا يدافع عنهم حيث تتصارع “الفلسفات” (…) أما الثاني فهو يتحمس لقضيته، أكثر من ذي قبل، إذا علم أن لها فلسفة، ويزداد ارتباطه بها إذا تلقى، من متن طه، بعضَه عن وساطة وشرح”. أما “الاستعمار الجديد” فـ”حرب معلنة وجارية التنفذ على هويتنا الوطنية وخصوصياتنا الثقافية، على ذاكرتنا وتاريخنا، على أسَرنا وقيمنا الأخلاقية”…
وتتحدث الورقة عن “الدور الذي يلعبه طه عبد الرحمان في نقد “القيم الغربية” و”كل مادية ولكل فلسفة مادية”. وعما يراه بشأن المقاومَة المسترشدة بالإسلام، التي عليها أن تُميّز بين “واقع الحداثة” و”روح الحداثة” الخاصة بها، دون أن “تقلّد الغرب في “واقع حداثته” الناتج عن “روح الحداثة” الخاصة به”.
وتضيف الورقة شارحة: أما روح الحداثة فلها ثلاثة مبادئ: “مبدأ الرّشد” الذي فيه انتقال من التبعية الفكرية والسلوكية إلى تحصيل الاستقلال والإبداع في الفكر والسلوك، و”مبدأ النقد” حيث “الانتقال من التسليم بالشيء، من غير أ ن يحصّل أي دليل عقلي عليه ولا أن يجتهد في طلبه، (…) إلى الاستدلال العقلي على الأشياء والفصل التقني بينها بما يتيح ضبط أسبابها وكشف آلياتها”. و”مبدأ الشمول” حيث “الانتقال من الكمون في خصوصية المجالات الحياتية وخصوصية المجتمعات الإنسانية، إلى تجاوزهما”.
ويزيد الدارس ذاته: هي مبادئ يرى طه عبد الرحمان أنها في الغرب على النقيض مما يجب أن تكون عليه في بلاد المسلمين (لدى المقاومَة الإسلامية)؛ لأن “التطبيق الغربي” يختزل كل مفاهيم “روح الحداثة، من استقلال وإبداع واستدلال وفصل وتأثير في مجالات الحياة والمجتمعات” في نقيض ما يجب أن يتميز به “التطبيق الإسلامي لتلك المفاهيم”. ويفسر الدارس أن من آفات هذا “التطبيق الغربي” “النسبية، والانفصالية، والأداتية، والتجزيئية، والمادية، والفردانية”؛ وهي كلها قيم يرى أنها نقيض “القيم الإسلامية، من إخلاص، وكمال، وإيمان، وتكامل، وروحانية، ورحمة”.
ويذكّر الباحث محمد زاوي بما يقوله طه حول امّحاء الخطوط عندما يغيب “الانبعاث من الداخل” و”الالتزام بالاجتهاد”، وهو ما ينزع معه الإنسان العربي إلى تقليد نموذج الحداثة الغربية في “روحها وواقعها”. أما المقاومة في نظره فهي “قيام طائفة من المسلمين بدفع الشرور التي ابتلي بها الناس في الزمن القائم، مجددة الوعي بالقيم الإنسانية التي اكتملت مع الدين القيم”. ويحصر طه مميزات أخلاق المقاومة في أن تكون دينية، واقفنا على طرف النقيض من موقفي “تبعية الدين للأخلاق” و”انفصال الدين عن الأخلاق”، وأن تكون “أخلاقا مؤيَّدَة، تديم لدى الإنسان “الاشتغال بالله والتغلغل فيه”، و”أخلاقا كونية” ناتجة عن “الجمع بين العقل والشرع”، و”أخلاقا عُمقيّة” ناتجة عن “الجمع بين العقل والقلب”، و”أخلاقا حركية” ناتجة عن “الجمع بين العقل والحس”، كما ينبغي أن تكون هذه الأخلاق “خبرية حكائية” فيوضع “الأمر” في قالب “خبر أو حكاية”.
وتلاحظ الورقة أن “المقاوِم عندما يعلم ويوقن بأن أخلاقه كونية وعالَمية، وأن من واجبه أن يبلّغها للعالَمين؛ يرى في المعتدين على أرضه وخصوصياته سدا منيعا يقف في وجه دعوته، فيسعى جاهدا إلى إنهاء واقع الاستعمار حتى تأخذ الرسالة العالَمية مجراها السديد من جديد”، فتكون “الكونية”، على الرغم من اختلاف القراءات للمفهوم، “وقودا مشعِلا لنار المقاومة”.
هنا يسجل الدارس أن “حماس” تقدم، مؤخّرا، على الكثير من المراجعَات؛ إلا أنه يقول إنها “لا تزال مطالبة بتعميق المراجعة أكثر. فواقعها المحتدم بالصراع يشجعها أكثر على ذلك، واقترابها من سلاح “النقيض الرأسمالي الإمبريالي” يؤهلها للمراجعة أكثر من غيرها؛ وهي “مراجعة نظرية تبني مناهج تفسيرية حديثة في التاريخ والاقتصاد السياسي، يرفضها طه عبد الرحمن بالتأكيد، ويسمي الاستفادة منها انبهارا وافتتانا بالغرب” قبل أن يزيد مؤكّدا: “الحقيقة أن خطاب طه عبد الرحمن صالح لقواعد المقاومة، أما قيادتها فلن يزيدها خطابه إلا بعدا عن المراجعة المطلوبة”.
ويكتب الباحث عن القضية الفلسطينية قائلا إنها تحتل “مكانة عزيزة في وجدان المسلمين وأبناء الوطن العربي، وهي في وعي العديد من مفكري الوطن العربي قضية مواجهة احتلال وتصفية استعمار”؛ وهي “قضية في الأرض، لا يمكن أن ننفي بحال من الأحوال الأدوار التي تلعبها العقيدة في التزام غرزها”، لكن “بعض المواقف تحوّلها من إطار الفعالية الإيجابية إلى إطار فعالية أخرى سلبية، وعوض أن تكون عامل ثبات وتشبث بالحق في الأرض، تتحوّل إلى سحر يلهي قيادة المقاومَة عن التحليل السديد واتخاذ القرارات السديدة”؛ وهو “ما حاول محمد العمري قوله، منتقدا أطروحة طه عبد الرحمان: “كتب طه عبد الرحمان تميمة للقضية الفلسطينية. إنها قضية في الأرض، أبى إلا أن يجعلها قضية من قضايا السماء””.
ويفصل الدارس هنا، في تقسيم طه للمرابطين إلى أربع، مقدسي، وفقيه، وسياسي، ومرابط عربي. ويوضح رؤية طه عبد الرحمن للاحتلال الصهيوني بوصفه مؤذيا لـ”إله الإنسان” ولـ”الإنسان ذاته”، وهو ما تصير معه المعركة “في الأرض والسماء معا؛ لأنها دفاع عن المُطلَق في ذاته وتعاليه، وعن مقاصده وفطرته وقيمه في الأرض”؛ فيؤذي الاحتلال الإله بما يسميه طه “الإحلال” وهو “منازعة الإله في صفة المالك”، ويؤذي الإنسان بـ”الحلول” حيث بعمل الكيان على “قلب القيم” بالإخلال بـ”علاقة الفلسطيني بالزمان، وبالتالي بالمكان”، ويسلب الفطرة بـ”التطبيع، وتضييع الطبيعة والروح والقداسة والحياء”؛ وبالتالي لا بد أن يسترجع المرابطون الفلسطينيون (المقدسيون) روح الأرض والفطرة، فروح الأرض “القداسة” لأنها أرض الله، وروح الفطرة “الأصالة لأنها فطرة الله”، في مقاربة “ائتمانية” للمرابط المقدسي.
وأمام حديث طه عبد الرحمان عن الحاجة إلى فصيل من المثقفين يدركون أن الثقافة إنما هي ائتمان “الإنسان-الآية”؛ “مثقفون مرابطون” تتجاوز ملازمتهم لثغور الظلم والقتل والفساد التزام المناضلين السياسيين، اختيارا واشتراكا وائتمانا وانتقادا وانفتاحا، يصِلون السياسي بالأخلاقي، كما يصلون الديني بالإنساني، مقتبسين قيمهم من الصفات الإلهية، ومعتبرين القيم الدينية أسّ ثقافتهم الائتمانية التي هي “ثقافة إحياء”؛ يرى الباحث في هذا جعلا لصفة المثقف “حكرا على نمط من الثقافة، المبدئية المثالية”.
ويرى الكاتب محمد زاوي أن الحاجة اليوم إلى “أنماط عديدة من المثقفين”، هم: مثقف المثُل، مثقف الذاكرة، مثقف المعرفة الحديثة ومثقف التحليل، ومثقف الممارسة العملية، من أجل مصلحة الدولة والمجتمع.
وحول القضية الفلسطينية، يختم الباحث ورقته قائلا “إننا بحاجة إلى مثقف عربي”، ليس عرقا بل بمعنى وحدة القضية والوطن: يصف ما يحدث في فلسطين على أنه ظلم، ويذكر بتحريم الله الظلم على نفسه وجعله محرَّما بين الناس، وبأن الله لا يغفل عما يعمل الظالمون، ويذكّرنا بمكانة القدس والأقصى وفلسطين في “العقيدة الإسلامية” وتاريخها العربي الإسلامي، وملاحم مقاومة الفلسطينيين والانكسارات والهزائم العربية والإسلامية فيها، شحذا للهمم وبحثا عن أسباب الهزيمة.
هذا المثقف، وفق الباحث المتفاعل مع أطروحة طه، يتصور القضية كما هو مطلوب في عالم الشهادة، باعتبارها ظاهرة تاريخية ناتجة عن موجتَين استعماريتين رأسماليتين احتكاريتين، مستمدا عبقريته في التصور والتفسير من مناهج العلوم الحديثة، مع تحليل ما استجد من وقائع وأحداث وقرارات سياسية في فلسطين والوطن العربي والعالَم ككل، ولا يبخل في تقديم تحليله لقادة المقاومة الفلسطينية ورؤساء الدول العربية الإسلامية وزعماء حركات التحرر الوطنية. كما أنه مثقف لا يفارق الميدان يبقى قريبا من صناع القرار السياسي الميداني من قادة المقاومة الفلسطينية أو من مسؤولي الدول، يتصرف في السياسة الخاصة بالملف أو يوجه من يتصرف فيها، وينتج الإيديولوجيا الخاصة بكل معركة يخوضها الشعب الفلسطيني، أو الإيديولوجيا العامّة “ذات العلاقة بتاريخنا وتراثنا بشكل عام”.
قد يهمك ايضاً :
جامعة "الزيتونة" التونسية تعتني بأعمال الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمان
طه عبد الرحمن ضمن أكثر المفكّرين تأثيرًا في العالم
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر