تواجد بين الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، وأمير قطر السابق حمد بن خليفة آل ثاني، الكثير من القواسم المشتركة في الرغبة في الزعامة، والقيادة، والتآمر ضد الجوار والمحيط الإقليمي، والنزوع نحو السلطوية في إدارة البلد، واستخدام ريع الثروة الطبيعية "النفط والغاز" في شراء الذمم والنفوس، وتمويل الجماعات المعارضة والمتطرفة في الدول الأخرى، والتدخل في شؤونها بصورة مباشرة، وغير مباشرة، وإثارة الاضطرابات والنزاعات في الدول الأخرى، وخلق علاقات مع "إسرائيل"، أو التساهل في التعامل معها، قولًا وفعلًا.
وكان القذافي مجرد ملازم أول في السابعة والعشرين عندما قاد انقلاب الفاتح من سبتمبر/أيلول 1969، على الملك إدريس السنوسي، ورقى نفسه على الفور إلى عقيد، ورفاقه إلى رواد، وقدم نفسه على أنه ناصري، ولم يستنكف بعد وفاة جمال عبدالناصر في العام التالي، أن يعلن أنه خليفته، وأنه "أمين القومية العربية"، ليخوض بعد ذلك تجاربه في الوحدة العربية الرباعية، والثلاثية، والاندماجية، والانسحاب منها بعد تسببه بتخريبها، لهوسه الدائم بقيادة تكتل وحدوي كبير يتلاءم مع أحلامه في الزعامة، حيث إنه كان يشعر على الدوام بأنه قائد دولة صغيرة قليل عدد شعبها.
ولم يفارق هوس الزعامة، والوحدة الاندماجية مع دولة أخرى أكبر، مخيلة القذافي، وبعد فشله العلني المتوالي في تحقيق حلمه، سعى لتحقيقه بوسائل أخرى، بتبني جماعات، وأحزاب سياسية معارضة، أو حتى تمويل "انقلاب عسكري"، أو تغيير السلطة بواسطة ميليشيات مسلحة، أو مرتزقة، حتى تتولى الحكم، وسيسهل الجميل الذي قدمه العقيد إلى من احتضنهم أن ينصاعوا إلى هوسه المستمر.
وتخلى القذافي عن الحلم بالوحدة الاندماجية الفورية مع مصر، كما تخلى عن مؤامراته لزعزعة الاستقرار فيها، واغتيال المعارضين الليبيين بعد الضربة العسكرية التأديبية التي شنها الطيران الحربي المصري على الحدود الليبية، بعد تصريحات الرئيس الراحل أنور السادات "مجنون ليبيا لن يفلت من يدي", ولم تنقطع مؤامرات القذافي على نظام جعفر نميري السابق، فدعم، وموّل، وسلّح المعارضة التي نفذت انقلابًا عسكريًا فاشلًا في 1975 وغزوًا تم كسره على الخرطوم في 1976، ودعم وشجع التمرد الثاني في جنوب السودان الذي قاده العقيد الراحل جون قرنق في 1983, كما دعم القذافي تنظيم اللجان الثورية السودانية بالمال والسلاح، ولكن التنظيم فشل في تحقيق أي شيء بعد اختلاف قادته على المكاسب المادية.
وقادت أحلام الزعامة القائد ضئيل الحجم، قليل الوزن، إلى مغامرات في تونس والجزائر وموريتانيا والمغرب، ودعم المسلحين في تايلاند والفلبين، ومحاولة استمالة الأميركيين من أصل أفريقي بزعامة لويس فرخان للثورة المسلحة في الولايات المتحدة، ولكن الرجل العاقل صد هذه المحاولة.
وحاول القذافي الإمعان في أذى الدول الأوروبية، فدعم الجيش الجمهوري الإيرلندي بالمال والسلاح، نكاية في بريطانيا العظمى، كما دعم بالمثل جماعة الباسك في إسبانيا، وفجر طائرة ركاب فرنسية فوق صحراء النيجر، كما سعى حثيثًا للاتصال بالقوميات والعرقيات في سويسرا والسويد وبلجيكا، لدعم تمردها على حكوماتها.
وأخذ القذافي نصيبه في استقطاب وتمويل جماعات وفصائل فلسطينية، وصومالية، وأحزاب يمنية، وجماعات لبنانية، واحتواء معارضين عراقيين, ولكنه فشل في أن يحصل على حلمه المبتغى، مثلما فشل في تشاد المجاورة، وطرد عملاؤه من الحكم، وهزم الجيش الليبي في صحراء أوزو شر هزيمة أنهت التدخل العسكري المباشر للقذافي في الصراع التشادي, القذافي الذي يئس من أن يجد موطئ قدم عربي لتحقيق أحلام الزعامة.
وتوجه بعد عزله وحصاره دوليًا في أعقاب تفجير طائرة "بان إم" فوق سماء لوكيربي الإسكتلندية، إلى القارة الأفريقية، حيث أغدق الأموال، وحظي بترحيب مدفوع الثمن لا يقدم ولا يؤخر، من ملوك قبائل ورؤساء طوائف، ومنحه لقب "ملك ملوك أفريقيا"، وهو لقب أسعد القائد الأجوف الذي كان على استعداد لأن يدفع كنوز قارون من أجل الحصول على ألقاب الزعامة.
وكانت نهاية أحلام القذافي الأفريقية فشله في تلقي استجابة فورية من القادة الأفارقة لإعلان "الدول المتحدة الأفريقية" لتضارع تسمية الولايات المتحدة الأميركية، في قمة سرت "9-9-2009" التي أعلن فيها عن تحويل منظمة الوحدة الأفريقية إلى الاتحاد الأفريقي في احتذاء شكلي للاتحاد الأوروبي, وقبل أن يدفع القذافي حياته على أيدي الثوار في أكتوبر/تشرين الأول 2011، دفعت ليبيا غاليًا ثمن مغامراته الهوجاء، ومؤامراته العمياء في كل قارات العالم، ودفع الشعب الليبي الثمن أضعافًا مضاعفة، فقد عانى طويلًا العقوبات والحصار، وتبددت ثروته على مشاريع باهظة التكلفة قليلة العائد لتمجيد الزعيم، ودفع تعويضات مليارية لضحايا مغامرات العقيد الصبيانية، وإغداق الأموال بلا حساب على أساتذة جامعات ومعاهد ومراكز بحث مشكوك في صدقيتها لمدح الزعيم، وتلميع صورته.
ويرى القذافي ليبيا أضيق من أحلامه، وهو الحالم بزعامة عالمية، حتى أنه أطلق على نفسه لقب القائد الأممي، باعتباره زعيمًا، وقائدًا صاحب رؤية، ومبعوث العناية الإلهية لتخليص البشرية من آلامها عبر نظريته في كتابه الأخضر، الذي تضمن أفكارًا لا تنم عن نضج، أو رؤية، أو أيديولوجية، بل تدخل في خانة الفوضى, ودفع الشعب الليبي والدولة الليبية الثمن مجددًا في تطبيق هذه الأفكار الفجة على أرض الواقع، وفي مؤسسات الدولة.
وفقدت ليبيا عقودًا كان من الممكن أن تنتقل فيها ليبيا إلى مصاف دولة المؤسسات والرفاهية, أما أمير قطر السابق حمد بن خليفة آل ثاني، فقد بدأ مسيرته نحو أحلام الزعامة بفعل شبيه للقذافي، بالانقلاب على والده الشيخ خليفة في 1995، عندما كان خارج البلاد مثل الملك السنوسي، وتولى مقاليد الحكم في الإمارة الصغيرة التي لا تزيد مساحتها على 12 ألف كلم مربع.
ووجه الشبه بين الانقلابين أن القذافي الصغير السن، الطامح إلى الزعامة انقلب على الملك الشيخ الذي يعتبر والد كل الليبيين، وضمانة وحدتهم، بينما انقلب حمد على والده، من دون سبب مقنع، بخاصة أنه ولي العهد، إلا إذا كان يستعجل الزعامة، والزعامة المطلقة، من دون قدرة على الانتظار أكثر حتى تؤول إليه الإمارة بشكل طبيعي, وإذا كان القذافي لجأ إلى التخلص من الخصوم السياسيين ورفاقه من الضباط الانقلابيين بالاغتيال، والاختطاف، والسجن، والاختفاء القسري، فقد لجأ الأمير حمد، بعد انقلابه على والده، إلى التخلص من بعض أفراد آل ثاني بالحكم على ابن عمه مثلًا بالإعدام، وتقريب واستبعاد آخرين، وإقصاء رموز من عائلات مرموقة، ومستشارين، ومساعدين، ووزراء، باعتبارهم موالين لوالده في المنفى، وحرمان مكون قبلي قطري من حقوقه وامتيازاته، حتى اضطر أفراده إلى اللجوء إلى دولة مجاورة احتجاجًا على حرمانهم من حقوقهم الطبيعية كمواطنين لهم كل الحقوق مثلما عليهم كل الواجبات.
الفرق الوحيد بين القذافي وحمد، أن الأول ادعى ارتداء عباءة المفكر والقائد الملهم صاحب النظرية لحل كل مشكلات العالم بضربة واحدة، ولم يعرف عن الأمير حمد تبنيه لأيديولوجيا معينة، لكنه جعل قطر محطة لحملة كل الأيديولوجيات، وللمطرودين من الحكم، والمعارضين، والمتطرفين، والمخربين، من خلال توفير ملآذات آمنة لهم، أو منحهم حق اللجوء السياسي، رغم عدم التزامهم بشروط منح اللجوء من عدم الاشتغال بالسياسة، والجهر بالآراء والتعليقات المسيئة للدول الأخرى، ما قد يدخل الدولة القطرية في أزمات مع هذه الدول, ولم يبد أن الدولة القطرية ذكرت هؤلاء المعارضين واللاجئين بما يفرضه حق اللجوء من واجبات عليهم، فسدروا في غيهم، وحولوا الملاذ الذي توفر لهم إلى منصة للهجوم والإساءة إلى الآخرين.
وتفوق الأمير حمد على القذافي في استغلال شكل من أشكال القوة الناعمة، وهو الإعلام, فلم يكن للقذافي إعلام موجه إلى الخارج يستحق الاحترام، وإنما كان إعلامه الداخلي مسخرًا لتمجيد القائد، وعبادة الزعيم, وقد مثلت قناة "الجزيرة" الفضائية التي تحولت إلى شبكة تدخل 260 مليون بيت في 166دولة، أداة من أدوات السياسة الخارجية التي تستخدمها الدوحة في تحقيق الزعامة المتوهمة، وتنفيذ أجندة السياسة الخارجية، حتى إن "الجزيرة" تحولت إلى موضوع في المفاوضات لتحقيق تنازلات، واكتساب أرضية، كما أظهرت ذلك وثائق "ويكيليكس".
وتحولت "الجزيرة" من قناة إعلامية إلى أداة ضاربة في سياسة التدخل القطري في شؤون الدول الأخرى, فالقناة التلفزيونية تركز تغطيتها بكثافة على الدول التي تتوسط قطر في نزاعاتها "نزاع دارفور في السودان، والصراع الإثيوبي -الإرتيري"، ولاحقًاالتغطية المستمرة لثورات الربيع العربي في تونس، وليبيا، واليمن، والحرب في سوريا.
والغريب في الأمر أن قذافي ليبيا كان متحالفًامع حمد قطر، إلا أن هذا الأخير انقلب على هذا التحالف، وتدخلت قطر في بداية الأمر ضد نظام القذافي في إطار حلف شمال الأطلسي "الناتو"، قبل أن تتدخل مباشرة في النزاع الليبي إلى جانب طرف الإخوان المسلمين، ودعمهم عسكريًا، وبالتمويل والتدريب والإعلام، وكان التدخل المباشر القطري في ليبيا هو النموذج الوحيد من نوعه لتدخل الدولة الخليجية الصغيرة مباشرة في نزاع.
وقوبل التدخل القطري المباشر، وغير المباشر، بالاحتجاج الرسمي والشعبي في ليبيا، وتونس، ومصر، ففي ليبيا اتهمت الحكومة والجيش مرارًاوتكرارًاقطر بالتدخل لمصلحة الإخوان المسلمين، وتمويلهم، وتسليحهم، والإعلام عنهم، وفي تونس تظاهر التونسيون أمام السفارة القطرية في 2012 احتجاجًاعلى تدخل الدوحة ودعمها حركة النهضة الإسلامية، وفي مصر كان رد الحكومة والشعب المصري على قطر قويًا لدعمها المتطرفين من سلالة الإخوان المسلمين، وتوفير الملجأ لقياداتهم في قطر، وتمويل عملياتهم، ودعمهم إعلاميًا عبر "الجزيرة" التي فقدت احترامها كقناة فضائية مستقلة، والقنوات الإخوانية التي تبث من تركيا.
وإذا كان القذافي انشأ جيشًا من مجندين أفارقة تحت مسمى "الفيلق الأفريقي"، وعدده لا يقل عن 10 آلاف مجند، من أجل تنفيذ مهام تتفق مع أحلام العقيد العسكرية، فقد احتضنت قطر حمد "أكاديمية التغيير" ذراعًا لتدريب الشباب على الثورات، وقامت المنظمة التي تأسست في لندن عام 2006، ثم انتقل مقرها إلى الدوحة في 2009، بتدريب أعداد كبيرة من الشباب المصري الذي شارك في ثورة 25 يناير، وتدعي الأكاديمية أنها "مؤسّسة علميّة بحثيّة غير ربحيّة"، و"مبادرة شبابية مستقلة، لا تخضع في دعمها لأية دولة أو طرف سياسي"، وكشفت السنوات اللاحقة أنها ذات صلة مباشرة بالتيارات الإخوانية، وتتلقى التمويل من قطر، وتهدف الأكاديمية إلى تفكيك النظم العربية القائمة، وتغيير بنية المجتمعات، وتهديد استقرارها.
ومن المفارقات بين القذافي وحمد، أن الأول بدأ ضربة البداية بإغلاق قاعدة هوليس الجوية في ليبيا، وهي أكبر قاعدة أميركية آنذاك، في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ليبدأ عصرًا من كيل السباب للولايات المتحدة بأقذع الألفاظ، ومحاولة التحرش الصبياني بالأسطول الأميركي في البحر المتوسط، وانتهى الأمر بإسقاط طائرتي ميغ ليبيتين في خليج سرت، ولزم القذافي حدوده الضئيلة بعد الضربة الأميركية التي استهدفت غرفة نومه في باب العزيزية في طرابلس، واستعاد حجمه الطبيعي بعد إسقاط صدام حسين، وعرض الاستسلام على الأميركيين، وقدم لهم كل مكونات برنامجيه للأسلحة النووية والكيميائية، وفضح كل الملفات بشأن تمويله للتطرف والجماعات السرية مع الموافقة على دفع التعويضات المليارية لضحايا مغامراته الصبيانية.
وانتهى حمد بإقامة قاعدة العديد الجوية الأمريكية، وهي الأكبر في المنطقة، وكان لها دور حاسم في الضربات الجوية التي وجهت إلى العراق وإسقاط نظام صدام حسين، ثم في الحرب على تنظيم "داعش"، ومن التماثلات بين القذافي وحمد، أنهما يتجاوزان شعبيهما، ولا يأبهان لرد الفعل الشعبي على سياستهما الخارجية التي تؤثر على الناس في الداخل، القذافي بنفسه اعترف بأن نظريته الثالثة غير قابلة للتطبيق في ليبيا، وكان حظها سيكون أفضل لو طبقت في سويسرا، وأكدت العديد من الدراسات أن الشعب الليبي لم تكن له مصلحة في سياسات القذافي الخارجية ومغامراته، وكان الشعب هو من يدفع الثمن.
واظهر استطلاع أجراه مركز أبحاث تابع لجامعة قطر أن مواطني قطر أقل اهتمامًابالديمقراطية، والمشاركة السياسية عما كان عليه الوضع قبل الربيع العربي، رغم أن الدوحة تبنت سياسيًا، وماليًا، وإعلاميًا، دعم الثورات العربية، ووجه آخر للشبه بين القذافي وحمد، أنهما كانا يستغلان اجتماعات القمة العربية لتسجيل إثارة إعلامية، وقد درج القذافي على إثارة الشغب والصخب في كل قمة شارك فيها، تارة عندما يدخل محاطًا بحرسه النسائي الكثيف، أو الخروج بشكل مسرحي أول انعقاد القمة، وعقد مؤتمر صحافي لجذب الانتباه، والسخرية من مشاريع قرارات القمة.
وفشل حمد في عقد قمة عربية طارئة في الدوحة، لم تستجب لها سوى تسع دول، فصب غضبه على الجمع "المتخاذل"، خاتمًا بيانه بالحوقلة، متناسيًا في الوقت نفسه أن الدوحة التي دعت إلى القمة الطارئة لبحث العدوان "الإسرائيلي" على غزة، تحتضن في الوقت نفسه مكتب التمثيل التجاري "الإسرائيلي"، بالمخالفة لكل قرارات المقاطعة العربية، كما أن الدوحة هي العاصمة العربية الوحيدة التي يزورها الصحافيون "الإسرائيليون".
أما القذافي فلم يعرف له موقف ذو بال في الصراع العربي "الإسرائيلي"، الأخ طرفته المستمرة بإنشاء دولة "إسراطين" المزعومة، كانت نهاية القذافي المأساوية على يد الثوار الليبيين طيًا لصفحة سوداء في تاريخ الشعب الليبي، وقد تنازل أمير قطر السابق عن الإمارة إلى نجله تميم في حدث ما زال يسوده الغموض، ولكن هل انتهى إرث حمد عند هذا الحد، أم أنه مطالب مثل القذافي بالاعتذار، ولو ضمنًا، عن تاريخ من الأخطاء والخطايا، وهذا ما يبقى من إرث القذافي وحمد، وكيف سيذكرهما التاريخ في سطوره الموجزة.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر