بقلم: أسامة أمين ناصف
كل شيء في المنزل نظيف و مرتب بعناية على الرغم من شعوري بسيادة الفوضي من حولي.. حتى أوراق اللعب في أيدينا كانت أنيقة و لامعة.. كل منا يمسك عددًا لا بأس به من الأوراق و يقبض بأصابعه على سيجارة أجنبية رائقة الأنفاس.. اتفاق ضمني غير منطوق باللهو و العبث و إرضاء المزاج حتى يفرض الملل سيطرته..
بعد الكثير من الألعاب قررنا أن نلعب " الشايب ".. لعبة قديمة مارسناها كثيرًا في طفولتنا و لكنها ألحّت على أدمغتنا الآن بشدة.. الشايب الذي يجب أن تتخلص منه قبل نهاية اللعبة لأنه لو أحب البقاء معك حتى النهاية ستصيبك لعنته و سيعاقبك الرفاق.. و أصدقاءك جميعًا أولاد كلب كما تعلم و لن تأخذهم بك أي شفقة.. لن يقل الأمر عن الضرب بالأحذية لأنهم للأسف لا يملكون سياطًا الآن.. اللعبة تتطلب بعض الحظ و الكثير من المكر إذن..
تبدأ اللعبة و تتفرق الأوراق.. يالحظي العاثر !.. الشايب يمكث في يدي هادئًا مستكين البال ناظرًا لي في شماتة العجائز المقيتة.. أنظر له في تحدي و أخبره سرًا بأنني سأتخلص منه عما قريب.. أسبه و ألعنه ناظرًا في عينيه بحرص كي لا يلاحظ الرفاق أنه بحوزتي..
" إنتش يا حلو ! ".. أقولها له في محاولة لبثّ الارتباك بداخله قبل أن يخطف ورقة من يدي.. تدور أصابعه بين الأوراق في قلق.. تستقر أخيرًا على الشايب فأخفي ابتسامتي و تمنياتي له بأخذها.. يجذبها الأحمق بسرعة ممنيًا نفسه بورقة بريئة.. يكتشف حقيقتها الآثمة فيظهر على وجهه تأفف لا يلحظه غيري و يظهر على وجهي ارتياح لا يلحظه غيره..
تدور اللعبة بسرعة.. الكثير من النتش و التنمّر و التوجّس و المزاح.. يتخلصون من أوراقهم واحدًا بعد الآخر و يخرجون من اللعبة سالمين.. أرقبهم بحقد متمنيًا اللحاق بهم و لكنه لا يحدث.. الرابع يخرج و أنا لا أزال في اللعبة.. الخامس.. السادس.. لم يعد في اللعبة سواي و أحدهم.. الحقيقة التي أعلمها الآن أنه يستحوذ على الشايب.. و الحقيقة الأخرى التي لم تعجبني أن احتمال خطفي للشايب و سقوطي ضحية لعقاباتهم السادية أصبح كبيرًا..
لم يعد معه سوي ورقتين إحداهما بريئة.. و أنا لم يعد معي سوي ورقة واحدة و علىّ الآن أن أخطف ورقة منه.. أمرر أصابعي على كليهما في محاولة لاستنباط أيهما الشايب من مراقبتي لملامح وجهه.. و لكن البارد لا يعطني هذه الفرصة.. ملامحه في غاية الثبات و الجمود.. نظرات عينيه لا تدل على أي شيء و يده لا تهتز إطلاقا.. أغمض عيني ثم أجذب بسرعة.. أفتح عيني ببطء.. اللعنة !
للنحس عشاقه المخلصين فعلاً !.. عاد اللعين إلىّ مرة أخرى.. أضعه بجوار الورقة الأخرى في يدي ثم أضعهم خلف ظهري محاولا التمويه.. أمدّ يدي نحوه و أبتسم ناظرًا في عينيه فيبتسم بدوره.. يطيل الابتسام و يطيل السكون.. أملّ من يدي الممدودة إليه بالورقتين.. " يعني اجيلك تنتش بكره يا ابن الجزمة.. ما تخلص ! ".. يقهقه في سماجة ثم يخطف الورقة بشكل مفاجيء.. خطفها الحقير و تركه لي.. الشايب !
" هيييييييييييييييييه ".. يهلل في فرحة شديدة يستحقها.. أمتعض ساهما ببصري تجاه الفراغ في أسي.. مهزومًا منتظرًا عقابي أنهض واقفًا.. يبتسم الجميع نحوي في مواساة.. " هارد لاك يا مان ".. " معلش هو اللعب كده ".. " يوم ليك و يوم عليك يا ريس"..
أهزّ كتفىّ في استسلام.. يبتعدون جميعًا ثم تتشابك أذرعهم مشكلين دائرة مغلقة.. يدور بينهم حوار لا أسمع منه شيئا.. الآن يتفقون على حكم يجب علىّ تنفيذه.. الآن يرضون نفسياتهم المريضة من خلالي.. أوغاد !
ينتهي حوارهم و تنفضّ دائرتهم.. على وجوههم رضا غريب.. يبدو أن الحكم سيكون مسليًا.. يقتربون نحوي و أنظر إليهم متسائلاً..
"مبروك يا معلم.. إعدام ! ".. يقولها أحدهم ليضحك الجميع في استمتاع.. أضحك بدوري و أطلق صوتًا نابيًا على سبيل المزاح.. يقتربون نحوي و يبدأن في تكتيفي.. أحاول التملص منهم بعدم جدّية.. و لكن الغريب أن لمساتهم تحمل الكثير من الجدية.. أستسلم تمامًا لأن عددهم كبير و المقاومة مستحيلة.. ينجحون أخيرًا في تكتيف حركتي بشكل كامل ثم يقيدونني بالحبال جالسًا على أحد المقاعد !
" الهزار كده تقل يا جدعان.. فكوني بقي و فل أوي كده ".. يستمرون في الضحك المستفز..
" ايه يبني حركات العيال دي.. انت مش خسرت ؟.. يبقي تنفذ الحكم من سكات بقي و مترغيش كتير".. أنظر نحوهم في بلاهة..
" ماشي ما أنا مقلتش لأه.. بس مش لما أعرف الحكم الأول ".. يدورون حولي واحدًا تلو الآخر..
" انت غبي ياض ولا إيه.. ما احنا لسه قايلنلك.. إعدام ".. أرفع حاجبي في دهشة..
" هتعدموني يعني ؟!.. طيب على بركة الله.. ابدأو يلا بس انجزو عشان ورايا مشوار ".. لا يبتسمون للدعابة.. لا يعتبرونها دعابة.. هي ليست دعابة؟.. لا أعرف يقينا !
يغيب أحدهم.. يعود من المطبخ بسكين كبير.. سكين نظيف و لامع ككل شيء في المنزل.. يقترب مني.. يجذبني من شعري ليحني رقبتي للخلف.. أخيرًا أشعر بالخوف الحقيقي.. أخيرًا أبدأ في الصراخ.. أخيرًا تسيل دموعي و تنطلق استغاثاتي و توسلاتي للباقين الناظرين لما يحدث بترقب.. و لكن كل ذلك لا يجعلهم يحركون ساكنًا و لا يثني شيئًا من عزيمتهم.. يبدو أنه يعرف ماذا يفعل..
كنت قد قرأت في طفولتي تقريرًا علميًا يفيد بأن الرأس المنفصلة عن الجسد لا تفارقها الحياة لحظة انفصالها و إنما تستمر بعد الانفصال عدة ثواني.. الآن تأكدت بنفسي من تلك المعلومة.. المسئولون عن تلك التقارير بارعون فعلاً !.. أنت تعلم بالطبع أن قليلين فقط هم من يمكن أن تتاح لهم الفرصة للتأكد من تلك المعلومة بشكل شخصي.. أنا إنسان وفير الحظ بشكل أحسد عليه !
رأسي المنفصلة تتدحرج في سلاسة ثم تثبت على أرضية المنزل الذي لم يعد نظيفًا و مرتبًا كما كان منذ قليل.. أشعر بالذنب لأن دمائي تسببت في تلويث مكان يتمتع بتلك الأناقة.. أنظر نحو الرفاق فأجد علامات التعاطف بادية على وجوههم المحببة..
" متزعلش يا صاحبي.. بس اللعبة حكمت ! "
ياه.. لا تشعروا بالذنب أيها المخابيل.. أنا أقدّر الموقف تمامًا.. لو كنت مكانكم لفعلت نفس ما فعلتموه.. سأفتقدكم كثيرًا !
أتذكر أن عدد الثواني في التقرير لم يكن كبيرًا إلي هذه الدرجة.. أغمض عينيّ.. ثم أذهب في الزمان..
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر