أنا النزيل الأعمى على حروف الهجاء  في رثاء أمي الراحلة
آخر تحديث GMT 11:49:09
المغرب اليوم -

أنا النزيل الأعمى على حروف الهجاء ( في رثاء أمي الراحلة)

المغرب اليوم -

المغرب اليوم - أنا النزيل الأعمى على حروف الهجاء ( في رثاء أمي الراحلة)

الكاتب والشاعر اللبناني شوقي بزيع
بقلم ؛ شوقي بزيع *

     يحكى أن امرأة من حرير النعاس وألق المياه في الغدران ، مرت كنعمة إلهية على هضاب جبل عامل , وأن جمالها كان ينبع من أماكن سحيقة في الروح , ثم يشرق على الياسمين فيتضاعف بياضه , وعلى الرمان فتكتمل استدارته , وعلى الدفلى فيضرج بحمرة الخجل وجنات النساء . كان اسمها نوفاً ويعني الرفعة والسمو , وصادف أن عشقها فارس وسيم من مواليد برج الأسد , بدا أبوه حين سماه مصطفى وكأنه يتنبأ له بأنه سيصطفي من نساء قريته الوادعة أكثرهن شبهاً بتوت الجبال البري , وكان وجهها الأبيض العرائسي  يتوزع مناصفة بين  الزغاريد والمناحات , أو بين أحزان زينب وجبين سكينة الوضاء  . وبعد أعوام قليلة من زواجهما الميمون , كان الصبي الذي كنته آنذاك , يصغي من خلف قماط سريره الخشبي الى صوتها المترع بالشجن , وهو يردد واجفاً وبلا ظهير :
يا حادي العيس سلم لي على إمي \ واحكي لها ما جرى واشكي لها همي  
من ذلك الحداء المحمول على هوادج الحسرات بدأ العالم يبث إشاراته الأولى . كنت أرنو الى مصدر الصوت فأرى في  وجهها المنذور للعذوبة ما يعصمني من الخوف , ويضيء لي الممر الآمن الى المستقبل . أما الصوت نفسه فقد بدا مقتطعاً من حنين النايات الى قصبها الأمومي على ضفاف الأنهار . لم أكن يومها أعرف شيئاً عن العيس التي يقطع ثغاؤها السرمدي نياط الصحارى , ولكن الحداء الحزين كان يشي بانقلاب الأحوال ، وبأن الإبن الذي سيهبط ذات صباح من أعالي القرى باتجاه الفولاذ الأصم لعواصم الاسمنت , ستسلمه المنافي من متاهة الى متاهة , فيما أمه البعيدة ستناديه من خلف ظهر السنين " لا تبتعد يا بني \ ولا تنس ما عشت \ أن السرير الذي انبجست منه روحك عند الولادة \ ما هو إلا ضريحك عند الممات " .
وإذا كانت حيرتي لا توصف إزاء وقائع مجهولة المصدر لمعنى الحداء , فقد عرفت حين كبرت أن من بين ما جرى كان تعرضَ شعب بكامله للاقتلاع . على أن المواجهة مع الغاصب المحتل لم تقتصر في وقت لاحق على السلاح وحده , بل كانت تؤازرها الجباه المرفوعة الى الأعلى وجذوع السنديان ونظرات الغضب . وكانت أمي كلما أشارت الى جهة القبلة , حيث تتراصف شجرات الكينا الثلاث عند خطوط التماس مع العدو , وضعت الكرامة إصبعها على الزناد , وتلفّعت الحريةُ بملاءات الغضب , وتدثر دم الشهداء بشقائق النعمان , مرسّماً  للقادمين من بعده خارطة الوصول الى فلسطين .
ولم تكن أم شوقي بهذا المعنى امرأة بعينها فحسب , بل كانت في بعدها الرمزي الحارسةً الأمثل لزمن الهناءة الوردي ، وآخر ما تبقى  من سلالة النقاء الطهور والمحبة الصافية ، والقيم الآيلة الى الانقراض . كما كانت تحمل الكثير من خصال الطبيعة , فتحلو مع عسل التين ويتضوع عطرها مع طرابين الحبق , وتشفُّ مع نسائم الصيف حتى تصبح حالة من أحوال الدموع . ومع أنها لم تكن تعرف القراءة والكتابة , إلا أنها كانت قادرة بالفطرة , وبأكثر الحدوس نجاعةً , على قراءة ما يجول في خاطر الريح , وتسمع نمو الأعشاب ، والثغاء الطفولي لصغار الينابيع , وتستعيد عن ظهر قلب الأدعية التي تستنزل المطر , والرقى التي تحمل الأزهار على التفتح . وكانت تراسل السماوات لكي لا تصاب الحقول بالجدب , ولكي لا يكون لشتلات التبغ كل هذا القدر من المرارة , وتحدب على أحواض الزهور ,حدبها على أبنائها الستة  وبناتها الثلاث . ومرة ضبطها أبي وهي ترشو طيور الحمام بحفنة من القمح ، مستحلفة إياها أن تخلد ولو ساعة واحدة الى الصمت ، لكي لا يوقظ هديلها الصباحي أطفالها النائمين . وكانت أم شوقي من الرقة , بحيث لا تكتفي بترقيق أرغفة الخبز على صاج اللهفة الجوعى , بل كانت ترقق القلوب لكي تصفو من الضغائن , والرياح لكي تصبح لها خفة النسيم , وكانت ترقق بالطريقة نفسها شقاء العالم ، لكي تصبح الحياة قابلة للاحتمال .

يا أم شوقي , وأنت ترقدين الآن هانئة بين قبري الزوج والشقيق , متخففة من وخزات الحقن وأجهزة قياس الضغط وأنابيب التنفس , نادي على أبنائك التسعة لكي يتحلقوا مجتمعين حول بركة دعائك البتولي . نادي على حسن وإحسان وغسان ومحمد وحسين , وعلى منى وسناء وليال , لكي نتعرف على ذواتنا في هذا العراء الخاوي , وكي نشعر أننا ما زلنا على قيد الحياة . ويا أم شوقي امنحيني خفقة من وجيب قلبك , لأضمّد بها جروح الروح ، وأحرر البلاغة من جمودها العنّين . أعينيني على خرسي لأقوى على الكلام , ساعديني أنا يتيمك السبعيني ، على احتمال كل هذا الألم , اجعلي من بريق نظرتك الحنون عكازاً أستعين بها على تعب كهولتي المضني , وأعيدي الى قصيدتي المخنوقة وهجها القديم .
ويا أم شوقي
خذي كل ما أودعتني العواصم من فرح خلبيٍّ
وما جذب القلب مثل المخالب من كهرباء النساء
ومن صعقة اللغة الخاطفه
خذي ألق الواجهات الكذوب ،
وأعيدي إلي النسيم القديم
يهب عليلاً على حبق البيت ،
عودي بأجفاني القهقرى نحو ذاك الحداء الشجي
الذي كان يصعد بي لثغةً لثغةً سلّم التأتأه
فأنا خائفٌ مثل عصفورةٍ عالقه
في كمينٍ من الشوك ,
مستوحشٌ مثل أرملة تتأمل بين التجاعيد
أعقاب فتنتها السالفة
وأنا دون نومي يهدهده حزنك المريمي
هالك لا محاله
أريد يديك لأنجو
ذراعيك كيما أرفرف فوق حطامي ككسرة ضوءٍ
وأهزم هذا الزمان الحثاله
فهل لي بتنهيدةٍ منك ،
 هل لي بجرعة ماءٍ ،
بترنيمةٍ من نعاس الطفولةِ ،
كيما أشدّ على عطشي المستبدّ
وأشرب حتى الثماله.
شوقي بزيع كاتب وشاعر لبناني*

قد يهمك أيضا

في الدّقيقة الأخيرة ماقبل الغروب

 

صيحة البسوس وشهرة نساء بني تميم في العصر الجاهلية

almaghribtoday
almaghribtoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أنا النزيل الأعمى على حروف الهجاء  في رثاء أمي الراحلة أنا النزيل الأعمى على حروف الهجاء  في رثاء أمي الراحلة



GMT 08:05 2023 الإثنين ,30 تشرين الأول / أكتوبر

لم يعد مهمّاً بعد اليوم أن يحبّنا أحد

GMT 06:45 2023 الأحد ,01 تشرين الأول / أكتوبر

لماذا أكتب لك؟؟ وأنت بعيد!!

GMT 10:22 2023 السبت ,26 آب / أغسطس

أنت الوحيد

GMT 13:41 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

صيحة البسوس وشهرة نساء بني تميم في العصر الجاهلية

إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 11:19 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
المغرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 10:20 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
المغرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 15:47 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

منح يحيى الفخراني جائزة إنجاز العمر من مهرجان الأفضل
المغرب اليوم - منح يحيى الفخراني جائزة إنجاز العمر من مهرجان الأفضل

GMT 16:06 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

منتجات لم يشفع لها الذكاء الاصطناعي في 2024

GMT 08:33 2017 الأربعاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

الطقس و الحالة الجوية في تيفلت

GMT 00:40 2018 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

حطب التدفئة يُسبب كارثة لأستاذين في أزيلال

GMT 05:45 2017 الأحد ,31 كانون الأول / ديسمبر

بنغلاديش تعتزم إعادة 100 ألف مسلم روهينغي إلى ميانمار

GMT 07:34 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

نادال يُنهي 2017 في صدارة تصنيف لاعبي التنس المحترفين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib