القاهرة ـ أ ش أ
تستدعي اللحظة المصرية الراهنة بكل تحدياتها قراءة جديدة للعدالة الثقافية ومعانيها وإطلاق الخيال حول سبل تجسيد هذه العدالة في الأرض ومنحها لملح الأرض من ملايين المصريين وهذا شيء مختلف كل الاختلاف عن الركون لأي نوع من الانتصارات البلاغية أو الظواهر الصوتية التي قد يحجب ضجيجها حقائق المشهد لبعض الوقت لكنه لن ينجح أبدا في حجبها طوال الوقت.
وكانت وزارة الثقافة قد أقامت مؤخرا ورشة عمل حول العدالة الثقافية بمقر المجلس الأعلى للثقافة في خطوة تؤشر لجدية التوجه وسلامة المقصد مع نزعة عملية مطلوبة فيما عكست المناقشات المكثفة بين مسئولين في الوزارة وشخصيات من منظمات غير حكومية رؤية الوزير الدكتور جابر عصفور بشأن إصلاح وتطوير المنظومة الثقافية المصرية عبر الدولة والمجتمع المدني معا.
غير أن العدالة الثقافية كمفهوم ورؤية وسياسات إنما تتجاوز المعاني التقليدية على أهميتها مثل معالجة الخلل في توزيع الجهد الثقافي بين المركز والأطراف أو بين القاهرة والأقاليم إضافة لمنح اهتمام مستحق لفئات مثل ذوي الاحتياجات الخاصة فيما كان وزير الثقافة قد استخدم مصطلح "العدالة المعرفية" فيما شرح ما يقصده قائلا "معناها ألا تحتكر القاهرة كل شيء، أريد أن يتمتع الأقصري بالخدمة نفسها التي تصل إلى القاهري".
ثم عاد الدكتور جابر عصفور في الحديث ذاته الذي كان قد أدلى به لجريدة الأهرام ليتحدث عن "العدالة الثقافية" قائلا "لكي تتحقق العدالة الثقافية يجب أن يكون سعينا في اتجاه الدولة المدنية والديمقراطية والكرامة الإنسانية والاستقلال الوطني والتركيز على معنى المواطنة".
والقراءة الجديدة للعدالة الثقافية تعني بالضرورة الاستجابة للمتغيرات المتواترة في المجتمع المصري مثل تعاظم كتلة سكان العشوائيات بصورة تشكل اختبارا لمفاهيم العدالة المتعددة وفي مقدمتها العدالة الثقافية وهو ما ينطبق أيضا على تلك الكتل الشبابية المنتمية لفئات محدودة الدخل.
وهناك الشباب الذين تسميهم الدكتورة سامية الساعاتي أستاذ علم الاجتماع "بشباب ثقافة الحائط" وهم حسب تعريفها صنف من الشباب العاطل يعيش وضعية من البطالة والإقصاء وعدم الثبات والهشاشة في معنى الانتساب إلى جماعات الانتماء المحلية في القرى والمدن وتتراوح أغلبيتهم ما بين سن 15 و35 عاما.
وقد تكون العدالة الثقافية على المحك في حالة هذه الفئة من الشباب الذين تمضي الدكتورة سامية الساعاتي في رسم المزيد من ملامحهم بقولها "هم شباب يمضون يمضون ساعات طوال يسندون ظهورهم إلى الحائط ويحدقون في انتظار اللاشيء" وينزع هؤلاء "الحيطيون"إلى احتلال وسط المدينة وأماكنها بما يشبه فراغا يوميا طويلا في انتظار اللاشيء.
فهم حسب وصفها في جريدة الأهرام محبطون وعاجزون عن الظفر بموقع أو مكانة داخل المجتمع فيما ينحدرون من عائلات فقيرة أو متوسطة الدخل وهناك أيضا إلى جانب ثقافة الحائط ما تسميه سامية الساعاتي بثقافة الشارع وهى "ثقافة شبابية فرعية تتميز بمنطق التحطيم والفوضوية والعنف اللفظي".
وإذا كان تدهور الخدمات الثقافية الحقيقية أحد أسباب التغيرات السلبية في الشخصية المصرية فإن تقديم خدمات ثقافية جادة والعدالة في توزيعها على كل المصريين قد يشكل محددا هاما في الإجابة على سؤال يتعلق بمدى نجاح الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة في إصلاح المنظومة الثقافية المصرية.
وفيما يتساءل البعض عن حق عما إذا كانت الثورة بموجتيها قد نجحت في تحقيق أي تغيير إيجابي في السلوكيات والممارسات اليومية فإن العدالة الثقافية يمكن أن تنهض بدور إيجابي في هذا الاتجاه المنشود.
ولعل الإقدام على تحليل نقدي لتاريخ وزارة الثقافة بكل أجهزتها وهيئاتها يسهم في الكشف بأمانة عن مواطن النجاح ومواضع الفشل وأسباب الإخفاقات بقدر ما يرسي أساسا ملموسا يمكن الانطلاق منه لتحقيق العدالة الثقافية وتجسيد الفكرة في الواقع المصري ناهيك عن تحسين وتطوير قدرات "العقل الأدائي" لوزارة الثقافة.
ولكل ذلك ما يبرره لأن الدكتور جابر عصفور كمثقف كبير تحدث مرارا قبل توليه منصبه الوزاري عن ضرورة إصلاح وتطوير المنظومة الثقافية المصرية بل اعتبر أن "هناك ضرورة حتمية" لتطوير هذه المنظومة أو تثويرها.
وهذه المنظومة الثقافية لن تكون قابلة للإصلاح والتطوير وسد أو تقليل الفجوة قدر الإمكان ما بين الواقع بمحمولاته وقيوده والتطلعات المستقبلية برحابتها ما لم يتم استحضار الديمقراطية في الممارسات والقرارات واستيعاب المعنى الحقيقي لنموذج الحداثة في العمل المؤسسي الثقافي وتلبية الاحتياجات الثقافية الأساسية لملايين المصريين وتضمين العدالة في الشعار الأساسي للحداثة:"العقل هو محك الحكم على الأشياء".
ولم يجانب الفنان التشكيلي المصري عادل السيوي الصواب أو عمد للمبالغة عندما قال "ثقافتنا تعاني من المركزية الشديدة ومن التبعية المزمنة للثقافة الغربية ومن الانقسام بين ثقافة رفيعة وثقافة شعبية والمكون الثقافي في وعي المواطن المصري فقير بكل المقاييس ولا نعرف خريطة مكونات المجال الثقافي ولا حجم سوقه بشكل يؤهلنا للتعامل معه بكفاءة".
ومن هنا فإن القراءة الجديدة للعدالة الثقافية قد تعني في أحد أبعادها تجسير الفجوة بين ما يسمى بالنخب وبين الجماهير وتفعيل الحضور الثقافي في الواقع المصري وتشجيع المبدعين على امتداد خارطة الوطن وفي أقصى النجوع والقرى.
وفيما تهب من حين لآخر رياح الجدل والاحتقانات الظاهرة حول أداء وزارة الثقافة وأجهزتها حاملة في ثناياها أسئلة هامة حول دور هذه الوزارة وسياساتها ويتردد من جديد السؤال الكبير حول حقيقة التغير الذي طرأ على المشهد الثقافي ومجمل السياسات الثقافية الرسمية بعد الثورة الشعبية المصرية بموجتيها 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 فإن الدكتور جابر عصفور يرى أن المسئولية لتطوير أو تثوير المنظومة الثقافية تقع على عاتق الدولة والمجتمع المدني معا.
ويرى الدكتور جابر عصفور أن هناك سبعا أو ثماني وزارات في الحكومة هى "اليد اليمنى" ويوجد المجتمع المدني وهو "اليد اليسرى" والاثنان معا يستطيعان تحقيق الأهداف المرجوة المتمثلة في الدولة المدنية والاستنارة والحق والعدالة والاختلاف واحترام الآخر.
لكن سؤال العدالة الثقافية بالمعنى الواسع والعميق في آن واحد يثير تأملات وربما تساؤلات عما إذا كانت هناك "حركة مقاومة من داخل الأجهزة الرسمية للثقافة لتطوير هذه الأجهزة بالمعنى الحداثي وبما يكفل تحقيق فكرة العدالة الثقافية".
ويؤكد الدكتور جابر عصفور أهمية المنظومة الثقافية للدولة في هذه المرحلة الحاسمة من مراحل تحولاتنا الوطنية ودخولنا زمنا جديدا يحمل لنا الكثير من الوعود البهيجة والتحديات الخطرة.
وفي المقابل تنتشر دعوات لمجموعات من المهتمين بالثقافة وأغلبهم من الشباب عبر مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت من أجل ما وصفوه "بالشفافية والموضوعية والعدل والمساءلة" في المؤسسات الثقافية الرسمية.
وذهب أصحاب هذه الدعوات إلى أن أحوال المبدع المصري تردت إلى درجة غير مسبوقة من البؤس والفاقة "فضلا عن تفاقم معاناته تحت وطأة محاولات الهيمنة والإقصاء وانعدام الرعاية على المستويات كلها طوال أربعين عاما ماضية".
وبدوره، كان الدكتور جابر عصفور قد سلم قبل توليه منصبه الوزاري بأن "مؤسسات وزارة الثقافة تعاني من الترهل وفي أمس الحاجة لقيادات وطنية شابة تتسم بالنزاهة والقدرة على الحلم بمستقبل واعد وكذلك حلول عاجلة لقصور الثقافة المعطلة أو المغلقة".
ويدعو وزير الثقافة الجديد "لسياسات ثقافية جديدة تفيد من تجارب العالم المتقدم" فيما كان قد اعتبر قبيل توليه منصبه الوزاري أن "فصل الآثار عن وزارة الثقافة جريمة" وقال "لا يمكن لعاقل يفكر في أي استراتيجية ثقافية للمستقبل أن يفصل وزارة الثقافة عن الآثار فمن أهم مهام وزارة الثقافة حماية التراث المادي والمعنوي للأمة".
ومن المثير للأسى لأي مثقف مصري أن يطالع ما نشرته جريدة "أخبار الأدب" في عددها الأخير حول عمليات ترميم خاطئة لهرم زوسر المدرج والمسجل ضمن قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو وهو "أول بناء حجري في تاريخ البشرية".
وكذلك لن يكون من قبيل العدالة استمرار الوضع الحالي لإصدارات في صورة مجلات أو صحف عن وزارة الثقافة كان وزير الثقافة الدكتور جابر عصفور قد تحدث عن توزيعها البالغ الضآلة والمثير للخجل وبما يتعارض مع المفهوم الحقيقي "للمنظومة السليمة".
كما أن بعض هذه الإصدارات وإن كانت تتناسب من قبل مع نظام شمولي الجوهر ومفاهيم مثل مفهوم "الحظيرة الثقافية" لم يعد لها موضع أو موقع مناسب في ظل نظام ديمقراطي مأمول ودولة حداثية قادرة على التعاطي مع اشتراطات وتحديات العولمة مع عدم الاستسلام لمقولة مثل أن تحولات الواقع الثقافي المصري ما هى إلا صدى لتحولات الثقافة الغربية.
وواقع الحال أن بعض الصحف ووسائل الإعلام المصرية تحدثت في الآونة الأخيرة عما وصف بعدم فعالية وزارة الثقافة والعجز عن التواصل مع الجماهير العريضة أو طرح برامج ثقافية تحظى باهتمام شعبي حقيقي، فضلا عن الاستمرار في ظاهرة تمركز أغلب الأنشطة الثقافية بالعاصمة وإهمال الريف.
وقد تكون قضية العدالة الثقافية هى المدخل الحقيقي لقيام وزارة الثقافة وهيئاتها بالنهوض بالمسئولية الكبرى في ترسيخ ثقافة ثورة يناير - يونيو في كل أوجه ومجالات الحياة المصرية ومواجهة التناقضات في العملية الثورية وصراع الضرورات وتوجيهها لصالح الشعب الأمر الذي يتطلب سياسات تنطلق من قيم هذه الثورة وكوادر قادرة على تنفيذ هذه السياسات الثورية الثقافية.
واللحظة المصرية الراهنة بتحدياتها الجسام تؤشر إلى أن الوقت قد حان لصياغة وتنفيذ مشروع ثقافي مصري شامل يرتكز على العدالة الثقافية حتى لا تتحول المسألة إلى وعود صنعتها حرارة لحظة!.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر