تعتبر "طرابلس" كبرى مدن شمال لبنان من المدن الغنية بثروتها ومعالمها الأثرية والتراثية على الساحل الشرقي للبحر المتوسط والتي تتنوع بين الحقبات المملوكية والبيزنطية والفاطمية والصليبية والعثمانية.
في أحياء المدينة وأسواقها المنتشرة في الأزقة القديمة للمدينة يوجد أكثر من 160 معلما أثريا من أبرزها الحمامات التي شيدت خلال حكم المماليك وازدهرت في عهد العثمانيين حيث كان في "طرابلس" 12 حماما امتازت بهندستها وزخرفتها ونقوشها.
والحمام هو المكان الذي كان يقصده السكان للاستحمام بسبب عدم وجود المياه الجارية في منازلهم، ولكن بعد مرور الزمن انتهى دور الحمامات بعد انتفاء الحاجة لها وتحول معظمها إلى أماكن سياحية، ومنها ما زال يعمل إلى اليوم مثل "حمام العبد" الواقع داخل طرابلس القديمة.
ويوضح مسئول لجنة السياحة في جمعية "يوتوبيا"عبد الجواد أحمد لوكالة أنباء ((شينخوا)) أن "إنشاء الحمامات بدأ مع دخول المماليك إلى طرابلس عام 1289 حيث كانت تفتقر المدينة لشبكات المياه في وقت تعتبر فيه حسب الأصول الشرعية الإسلامية الطهارة والنظافة من شروط أداء الصلاة".
ويضيف "من بين الحمامات المملوكية والعثمانية لا يزال "حمام العبد" الوحيد الذي يعمل دون انقطاع منذ 300 سنة في حين أن "حمام عز الدين" الذي تشرف عليه وزارة السياحة اللبنانية تحول إلى مقصد للزوار والسياح من دون أن تتم إعادته إلى العمل".
في "حمام العبد" الذي تصله من سوق الصاغة تعبق الأجواء بالدفء والبخار وروائح الصابون العطرة، ولا يخرق السكون في الحمام سوى خرير المياه المتدفق من نافورة تتوسط باحته الخارجية ذات الأرضة الرخامية والتي يعلوها سقف مزخرف بالرسومات يزيد ارتفاعه على 9 أمتار.
وفي الباحة التي تزين جدرانها لوحات تراثية والتي تحيط بها غرف الاستحمام تجد أرائك ومقاعد مغطاة بالوسائد والأقمشة الشرقية الطابع إضافة إلى موقد نحاسي على جنباته مصبات القهوة العربية وبقربه صندوق خشبي ممتلئ بجميع أنواع الصابون.
وعلى يمين البهو توجد غرفة للجلوس ومطبخ لتحضير طلبات الزبائن من نراجيل وشاي وقهوة وعصائر وغيرها.
أبو عادل المسئول عن العمل في حمام العبد أمضى أكثر من 40 عاما متنقلا بين حمامات لبنان وسوريا وتركيا قبل أن يستقر في طرابلس يوضح لـ(شينخوا) أنه يهوى العمل في هذه المهنة التي يعتبرها من تراث الأجداد.
ويقول "يعود تاريخ إنشاء حمام العبد إلى العام 1708 ويعتبر الشاهد الوحيد الذي يعمل في الوقت الحاضر على تاريخ الحمامات حيث يستقبل أهالي المدينة والسياح الذين يقضون أوقاتا طويلة في أرجائه للتعرف على تاريخه وهندسته".
وعن سبب تسمية الحمام يتحدث أبو عادل عن رواية مفادها أن مقربا من أحد الباشاوات آنذاك قد قتل وشهد على عملية القتل خادمه الزنجي الذي فر والتجأ إلى الحمام خوفا من القتلة الذين علموا بأمره وأردوه على عتبة الحمام عندها أعطى الباشا ملكية الحمام لعائلة المدور حيث أصبح معروفا باسم "حمام العبد".
ويشير إلى أن الحمام يفتح أبوابه من الثامنة صباحا إلى منتصف الليل أما تكلفة الدخول إلى الحمام فلا تزيد على 20 ألف ليرة لبنانية (نحو 14 دولارا) وأن "الزبائن هم من كافة الفئات الاجتماعية كما أننا نستقبل العديد من السياح الذين يأتون لتصوير المكان وقليلا ما يستحمون".
ويوضح أبو عادل "سابقا كان الحمام يخصص يوم الاثنين من كل أسبوع للنساء ولكن تراجع إقبالهن وحضورهن دفعنا لإلغاء هذا التدبير ويقتصر حضورهن حاليا على مناسبات تحجز فيها مجموعة منهن الحمام وعندها تستبدل إدارته العمال بعاملات وتضع علما أحمر على باب الحمام ما يعني أن هذا الوقت مخصص للنساء ويمنع على الرجال ارتياده".
ويقول إن "عائلات تستأجر أحيانا الحمام استعدادا لحفلات الزفاف حيث يأتي العريس في يوم دخلته ورفاقه للاستحمام وللاحتفال بهذه المناسبة مع أصدقائه يرافقهم طبالين وعازفين".
وحول عملية الاستحمام يقول أبو عادل "فور دخول المستحم إلى الحمام يتحرك العمال ولكل منهم مهمة فهناك من يستلم الملابس ومن يساعد الزبون على ارتداء الزي المخصص لدخول غرف الاستحمام وهو عبارة عن مناشف تلف جسمه إضافة إلى تزويده بنوع الصابون الذي يختاره.
وفي الغرفة تسمى "المشلح" يترك الزبون ثيابه ليستبدلها بعدد من المناشف التي يلفها على جسده قبل أن تقوده الخطى نحو أقسام غرف الحمام الثلاثة الساخنة والفاترة والباردة.
ويقول "الحمام مصمم بطريقة فنية ومدروسة بحيث تختلف الحرارة من غرفة إلى أخرى بشكل طبيعي من الأكثر حرارة إلى الأخف وذلك لكي لا تتضرر صحة الزبون إذا خرج مباشرة من الجو الساخن إلى البارد".
ويضيف "يقسم الحمام إلى 3 أقسام أولها القسم الداخلي الذي يطلق بالعامية "الجواني" وهو القسم الأكثر عمقا ويتألف من عدة غرف واحدة للبخار أي ما يعرف اليوم بك"السونا"، إضافة إلى غرفتين لـ"التبليل"، وهي المرحلة الأولى التي يتولاها المستحم بنفسه دون مساعدة العمال حيث يوجد في كل غرفة جرن حجري قديم يستوعب المياه الساخنة ووعاء لصب الماء".
وينتقل المستحم بعد "التبليل" إلى غرفة "التكييس" حيث يقوم أحد العمال بفرك جسم المستحم بواسطة كيس مصنوع من شعر الماعز مع استعمال الصابون الذي يختار المستحم نوعه ورائحته ، كما أن هناك غرفة خاصة للتدليك إذا رغب الزبون بذلك.
أما المحطة الثانية للمستحم فهي في القسم "الوسطاني"، وهو عبارة فسحة داخلية يخرج المستحم إليها بعد الانتهاء من الاستحمام ويجلس على مقعد حجري ليبرد جسمه لخمس دقائق استعدادا للخروج.
أما القسم الثالث المعروف ب(البراني) فهو محطة الزبون الأخيرة التي يلف فيها جسده بمنشفة كبيرة ليجلس بعدها في البهو الذي يتم تناول المشروبات فيه والذي تعلوه قبة زرعت فيها قطع زجاجية بكثافة تسمح بدخول نور الشمس، ومن "البراني" يعود المستحم إلى المشلح ليرتدي ثيابه ويغادر نظيفا ونشيطا.
ويشرح أبو عادل أن "تسخين المياه يتم بواسطة مرجل نحاسي يستوعب 15 برميلا من المياه الحارة وكان يسخن قديما بالحطب قبل أن تدخل التعديلات الحديثة عليه ليسخن بواسطة المازوت."
ومن انطباعات رواد الحمام الجالسين في البهو يقول حسن حبشيتي (44 عاما) "أحضر إلى الحمام بشكل دوري وتحديدا في فصل الشتاء حيث احصل بداخله على الدفء أثناء استحمامي."
ويضيف "هنا تحصل على خدمات عديدة منها التدليك فضلا عن الجلسة الجميلة في البهو الرئيسي وشرب الشاي قرب موقد النار."
بدوره، يقول محمد جميل (67 عاما) "أزور الحمام أسبوعيا منذ أكثر من 3 سنوات فأنا أعيش لوحدي بعد وفاة زوجتي وأولادي كلهم متزوجون وهنا أحصل على معاملة جيدة وأمضي ساعات بين السونا والتدليك الصحي وفي بعض الأيام أنام قليلا على الأريكة".
وهنا يتدخل أبو عادل ويقول بأسى "رغم خدمات الحمام الجيدة والمفيدة فإن العمل بات خفيفا بالإجمال مما يثير الخشية من إقفال الحمام المفتوح منذ أكثر من 300 عام".
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر