الرباط - المغرب اليوم
عن “معجزة” معهد تارودانت، الذي خرج أطرا عديدة في منطقة سوس، وجهود إصلاح التعليم في مغرب ما بعد الاستقلال، وصراعات خريجي التعليم الأصيل والتعليم الفرنسي في تلك الفترة، و”السياسة” التي وأدت تجربة كان من الممكن أن تكون “بركانا للعلم في سوس”، نشر مؤلف جديد للباحث عبد الله كيكر.وعنون هذا الكتاب بـ”معهد تارودانت.. من المعهد الإسلامي إلى ثانوية محمد الخامس للتعليم الأصيل أو صراع خريجي التعليم الأصيل وخريجي التعليم الفرنسي في المغرب بعد الاستقلال”.ويحمل الكتاب الفقيه محمد المكي الناصري المسؤولية الكبرى في المصير الذي انتهى إليه المعهد، ووقف تأثيره، والمس بسمعته، ثم تحويل نظامه، في إطار السعي إلى تنزيل قرار “التوحيد”. هذا “التوحيد” الذي كان ثالثَ مبادئ أربعة لإصلاح التعليم بعد الاستقلال، باقيها: “التعميم” و”التعريب” و”المغربة”.ويتحدث الكتاب، أيضا، عن صراع عقليتين متنافرتين، بعد الاستقلال: “نمط غربي أنتجته المدارس الفرنسية، ونمط عربي إسلامي أنتجه التعليم الأصيل والتعليم الحر”، وعمّا أدى إليه ذلك من “صراع بين خريجي النظامين” الذين كان كل منهم يرى أن “النظام الذي تعلموا فيه هو الأصلح ليسير عليه نظام التعليم في المغرب المستقل”.
ومع الحديث عن إرهاصات نشر التعليم في منطقة سوس، وجذور إرادة تأسيس “مركز علمي” مثل “القرويين”، يطرح هذا المؤلف أيضا مثالا عن إشكالات جهوية، وعلاقة “المركز” وأناسه بما يعتبر “هامشا” وأناسه، وتأثير ذلك على محاولات التميز والسعي إلى الانفتاح والعطاء المستقل.ويورد هذا الكتاب أيضا شهادات من بعض من تابعوا تأسيس المعهد مثل محمد المختار السوسي، وبعض من تتلمذوا به وكتبوا حوله، وتقلدوا بعد ذلك مسؤوليات محلية ووطنية، واشتغلوا أساتذة جامعيين ومفتشين، ومنهم أدباء وباحثون وفقهاء، مثل: عمر أفا، عمر الساحلي، زكي علي، جامع بنيدير، إبراهيم شرف الدين، محمد مستاوي، محمد بنكا، عبد الله سعيدي، محمد البوزيدي، أحمد شرف الدين، والحسين أفا.ويرى الباحث عبد الله كيكر أنه “لا توجد أية مؤسسة تعليمية على الصعيد الوطني قامت بالدور الذي قام به المعهد الإسلامي بتارودانت، بعد الاستقلال مباشرة، وأنجزت ما أنجزه في وقت قياسي”، حيث “استغل مؤسسو المعهد الإسلامي بتارودانت الحماس الشعبي الذي أعقب الاستقلال واندفاع الناس نحو التعليم بكيفية جنونية، كما استغلوا شعور أبناء سوس، وخاصة منهم التجار وبعض متعلميه، بالفراغ الهائل الموجود في سوس في ميدان التعليم”.
هذا الفراغ كان نوعيا، حتى ولو كانت في كل قرية من قرى سوس كتاتيب، وفي كل قبيلة مدرسة علمية أو اثنتان، “لم تعد تساير الزمن، ولا تخرج إلا فقهاء للمساجد وللكتاتيب القرآنية، وأقصى ما ينشده خريجوها في الحياة أن يصبحوا عدولا”.وتحدث الباحث عن بعض أبناء سوس “المتنورين” الذين “رأوا العلم النافع هو العلم الموجود خارج القرويين، وهو العلم الذي كان المغرب في حاجة إليه في ذلك الإبان أكثر، علم التقنية وعلم الهندسة وعلم الصناعات والاقتصاد” وكان على رأسهم “قادة حزب الاستقلال في أكادير: أحمد أوالحاج وأصحابه، الذين قرروا أن يسيروا على غير الطريق الذي سار فيه مؤسسو المعهد”.وتابع الكاتب: “هؤلاء المتنورون همشوا وعزلوا وحوصروا، ولم يذهبوا بعيدا في مشروعهم الذي بدؤوه ببناء مؤسسة تتكون من 52 قسما دراسيا، وأرادوها أن تكون نواة للتعليم التقني في سوس، وسلموها في الأخير لوزارة التعليم بعد الزلزال”.ويذكر الكاتب أن “المعهد الإسلامي بتارودانت” كان “معجزة زمانه” التي “تحققت من لا شيء”؛ حيث قرر مجموعة من الأشخاص فتح مؤسسة تعليمية في تارودانت، في مستوى القرويين في فاس وابن يوسف في مراكش، وهاتان المؤسستان هما ما هما في نظرهم، في ذلك الوقت، علما وتاريخا. بدأ أولئك الأشخاص وهم لا يملكون إلا إيمانهم وعزيمتهم في تحقيق فكرتهم. ولم تمض إلا ثلاثة أشهر حتى تحقق حلمهم، معهد بخمسمائة تلميذ، آكلين شاربين قاطنين، في نظام لم يسبق له نظير في أية مؤسسة أخرى، في المغرب كله”.
ولم تمض إلا سنتان من عمر المعهد، يزيد الكاتب، حتى “التحق عدد من طلبته بالتعليم في مدارس سوس، التي كانت رغم قلتها تشكو خصاصا مهولا”. ولم تمض إلا ثمان سنوات من تأسيسه حتى “استطاع أن يغطي كل حاجيات الوزارة من الأطر التعليمية في اللغة العربية في التعليم الابتدائي، في سوس كله، بل وأمد مناطق أخرى بها”.ولم يكتف المعهد بهذا، بل صار، وفق المصدر نفسه: “يمد كلية الآداب وكلية الحقوق في الجامعة المغربية الوحيدة التي كانت موجودة في الرباط في ذلك العهد، ثم في فرع لها في فاس بعد مدة، بأعداد من خريجيه، فتخرج منهم العشرات من الأساتذة والقضاة والمحامين، انخرطوا في المؤسسات العدلية بكل فروعها، كما انخرطوا في ميدان التعليم بكل مستوياته بما في ذلك التعليم الجامعي، وأغلب هؤلاء جاؤوا من البادية، ولولا المعهد لكان مآلهم الضياع”.وسجل المؤلِّف أن المعهد لمّا أنشئ كان “بمثابة منارة أضاءت كل سوس، فاستضاء بنورها كل أهل سوس القريبين والبعيدين، ما أخاف بعض أصحاب النيات السيئة، فقاموا بتطويقه وخنقه، فقطعوا عليه الأوكسجين الذي كان يضمن له الحياة، كما منعوا القائمين عليه من القيام بأنشطتهم المختلفة (…) التي كانت تعطي لوجوده معنى، وترسخ المبادئ التي أنشئ المعهد من أجلها بين السكان”.
ويقول الباحث: “من يعرف تاريخ سوس لا يستغرب من خوف أولئك الذين حاصروه وحاربوه، وإن كان الزمن غير الزمن؛ لكن يقول المثل المغربي: “لِعَضُّو لْحانْشْ كايْخافْ مْنْ لْحْبالْ”، أي من عضه الثعبان يخاف من الحبل”.ويزيد كيكر: “صحيح، أدى المعهد بعض مهامه ولا يزال يؤديها؛ غير أنه كان بالإمكان أن يكون بركانا للعلم في سوس، لو ترك لشأنه وأعطيته الحرية، وأبعد عن الصراع الذي نشأ بين التعليم الأصيل والتعليم الرسمي، ولو لم يحرم في عز نشاطه من الأساتذة المصريين (…) -الذين- أعطوا كل ما عندهم، وأبانوا أن تعلم العلوم باللغة العربية أسهل على المغاربة من تعلمها باللغة الفرنسية، ولا أدل على ذلك من تفوق المتعلمين بها؛ غير أن هذه النجاحات التي حققها المعهد كانت بمثابة من سعى إلى حتفه بظلفه، فكان ما كان من أمر المعهد، وكان المدخل هو السياسة”.
قد يهمك أيضــــــــــــــــًا :
اتحاد كتاب المغرب ينعي المفكر سبيلا مستحضرا مساره الفكري والأكاديمي
الكاتب المغربي أسامة الصغير يناقش اللاهوت والثقافة في كتاب جديد
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر