ينهمك محمد عبدالله بحفر اطار داخل احدى غرف مستودعه الصغير في دمشق القديمة، محاطا بالواح خشبية مختلفة الاشكال ومزينة بالصدف، بعدما دفعته الحرب المستمرة منذ نحو خمس سنوات الى هجر ورشته الفسيحة على اطراف العاصمة.
ويشكو محمد (43 عاما) "المصير الذي آلت اليه حرفة صناعة الصدف الدمشقي" التي يمارسها منذ اكثر من 25 عاما "بسبب قلة اليد العاملة وصعوبة تأمين المواد الاولية ونقل البضاعة".
وتعتمد صناعة الصدف على تزيين الخشب والعاج والعظم والصدف بزخارف عربية واسلامية لصنع قطع اثاث وصناديق ذات نقوش وقطع للديكور، ويتطلب ذلك "عددا كبيرا من العمال" للقيام بكافة مراحل الحرفة.
ويشعر محمد "بغصة كبيرة بسبب تقلص عدد ورش الصدف في دمشق وريفها من ثلاثين الى نحو ثلاث ورش أو أربع فقط"، معربا عن خشيته من "اندثار هذه الصناعة لعدم وجود من يعمل بها".
ويوضح هذا الحرفي الذي توارث عن عائلته هذه الصناعة التقليدية ان عدد عمال ورشته "تضاءل في السنوات الاخيرة بسبب الالتحاق بجبهات القتال او الهجرة" من سوريا.
وتنسحب المخاوف على مصير "صناعة الصدف" على صناعة النسيج العريقة في دمشق مثل "البروكار" والاغباني المطرز والصاية.
ويقول بهاء التكريتي، الذي يدير منذ عقود ورشا لصنع الاغباني ويملك متجرا في حي الحريقة التجاري، "انخفض انتاجي الاسبوعي من ستين غطاء الى ستة واحيانا ثلاثة فقط".
- الاغباني والبروكار-
وتمر صناعة الاغباني، وهو قماش من الكتان او الاورغانزا مطرز باشكال زخرفية متنوعة بالوان مختلفة وغالبا ما يستخدم كاغطية للطاولات، "بمراحل عدة قبل ان تصل الى المتجر وفي حال تعطلت مرحلة واحدة فان العمل يتوقف باكمله"، بحسب التكريتي.
ويحدد الطباع بواسطة قوالب خشبية الشكل الواجب تطريزه على النسيج بعد حياكته. ويوضح التكريتي "لم يتبق سوى شخصين من اصل ستة في دمشق يقومان بالطباعة" بالتزامن مع "نزوح عاملات التطريز اللواتي كن يتمركزن في ريف دمشق" الى مناطق متفرقة في البلاد.
وفي سوق المهن اليدوية في دمشق، والذي لطالما شكل مقصدا للسياح من انحاء العالم، تتصدر "ورشة احمد شكاكي للبروكار" واجهة السوق والى جانبها عدد من المحال الصغيرة.
وفي احدى زوايا الورشة التي لا تزيد مساحتها عن ثلاثين مترا، تم وضع نول خشبي وخلفه مقعد صغير من الخيزران الملون، بالاضافة الى رفوف ضيقة لعرض قطع قماش البروكار العريق.
ويقول شكاكي "ادت الحرب الى عزوف جيل عن تعلم المهنة. اخشى على هذا النول ان يتوقف عن الحياكة".
ويعد البروكار الدمشقي، الذي ينسج يدويا من الحرير الطبيعي وخيوط الذهب، من الاقمشة الذائعة الصيت في العالم، خصوصا بعدما اهدى الرئيس السوري الاسبق شكري القوتلي قطعة منه العام 1947 لملكة بريطانيا اليزابيث الثانية استخدمتها في صناعة ثوب زفافها.
ويشير ابراهيم الايوبي الذي يعمل في مجال البروكار منذ عقود الى صعوبة الحصول على الحرير الطبيعي لصناعة البروكار وارتفاع سعره "عشرة اضعاف".
وفي سوق الخياطين الواقع في سوق الحميدية الشهير، يقف سامر النقطة وسط متجره الذي يعود الى العام 1929 ليستعرض بفخر اوشحة ملونة من الحرير الطبيعي مصنعة يدويا، فيما يجهل مصير معمله الواقع في بلدة عين ترما في ريف دمشق بسبب المعارك.
ويشكو سامر "لم نصنع مترا واحدا منذ حوالى خمس سنوات، ونبيع حاليا مخزوننا من المستودع".
ويضيف بحسرة وهو يتأمل القماش المكدس فوق الرفوف الخشبية "سأبيع ما تبقى من مخزوني، وبعد ذلك قد اضطر لتغيير مهنتي التي نشأت عليها".
ومع اندلاع النزاع الذي تشهده سوريا منذ منتصف اذار/مارس 2011، تضررت كافة القطاعات الانتاجية في سوريا ومن بينها المهن التقليدية، التي بات يحيط بها "خطر محدق".
- هجرة الحرفيين-
ويؤكد محمد فياض الفياض الباحث في التراث اللامادي، اي التراث الشفهي من اغان وشعر وامثال شعبية بالاضافة الى الحرف والتقاليد ان "الحرف كافة تضررت وبشكل كامل جراء الازمة".
ويقول لوكالة فرانس برس "اذا استمر الوضع على هذا المنوال فلن يبقى حرفيون" في سوريا.
وكان عدد الحرفيين في العام 2009 يقدر وفق الفياض، بحوالى 18 الف حرفي منظم (منتسب الى اتحاد الحرفيين) و39 الف غير منظم، لكنه يشير الى ان ما بين سبعين الى ثمانين في المئة خرجوا من دائرة الخدمة حتى اليوم، وتشكل المرأة ما نسبته ثلاثة الى اربعة في المئة منهم.
ويعزو سبب هذا التراجع الى "هجرة عدد كبير من الحرفيين بعدما تدمرت ورشهم خصوصا في منطقتي ريف دمشق وحلب (شمال)، اللتين تشكلان اساس الصناعة التقليدية" في البلاد.
ويدعو الفياض الجهات الرسمية الى "تبني خطط للمحافظة على الحرف التقليدية واعتبارها جزءا من التنمية المستدامة". ويضيف "كان لدى الدولة نية بانشاء قرية تراثية تتضمن ورشا للحرف التقليدية واسواقا دائمة ومعاهد تدريب (...) لكن ذلك لم يتعد اطار الاقوال".
وانعكس تدهور القطاع السياحي بشكل سلبي على الصناعات التقليدية. وكانت السياحة تشكل ما نسبته 12 في المئة من اجمالي الناتج المحلي قبل النزاع.
ويوضح الايوبي "اثرت الازمة علينا بشكل كبير بسبب غياب السياح الذين كانوا يشكلون 95 في المئة من الزبائن".
وبحسب شكاكي "مهنتنا ترتبط بشكل اساسي بمردود البيع، الذي يعتمد على السياح. ظروفنا صعبة اليوم ونعمل ضمن الوسائل المتوفرة".
كما يشكل غلاء كلفة المواد الاولية وصعوبة الحصول عليها وانعكاس ذلك على سعر المنتج "عقبة كبيرة"، وفق عبدالله الذي يضيف "السوق المحلية يلزمها رخاء لم يعد موجودا".
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر