400 يوم، هو متوسط فترة بقاء رؤساء الحكومات الإيطالية في مناصبهم قبل أن يسقطوا، في غالب الأحيان، تحت وطأة النيران الصديقة أو المكائد الداخلية. لكن اليمينية المتطرفة جيورجيا ميلوني، المعجبة بموسوليني، والمرأة الأولى التي تصل إلى هذا المنصب في تاريخ إيطاليا، مصممة على الخروج عن هذا «التقليد»، الذي أدّى إلى تعاقب 68 رئيساً للوزراء في العقود السبعة الماضية، وتؤكد أنها ستكمل السنوات الخمس من الولاية التي حصلت عليها من البرلمان، حيث تتمتع بأغلبية مريحة في مجلسي الشيوخ والنواب.
لكن بعد مائة يوم على تشكيلها الحكومة الائتلافية مع حليفيها اللدودين، سيلفيو برلوسكوني وماتّيو سالفيني، يبدو أن التعقيدات السياسية الداخلية الإيطالية التي لا تستكين فيها التحالفات، والمصالح العميقة التي تربط إيطاليا بشركائها في الاتحاد الأوروبي، ومقتضيات تحالفاتها الدولية، قد فرضت على ميلوني، على الأقل في الوقت الراهن، التخلّي عن معظم المبادئ اليمينية المتطرفة التي كانت ترفع لواءها عندما كانت في المعارضة، والسير في خطى سلفها ماريو دراغي؛ لتهدئة الخواطر في المحيط الأوروبي الذي يشكّل المجال الحيوي بالنسبة للاقتصاد الإيطالي الرازح تحت أزمة ركود تمتد منذ أكثر من عشر سنوات.
منذ وصولها إلى الحكم أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، قادت زعيمة «إخوان إيطاليا» حكومتها كما لو أن سلفها هو الذي كان يمسك بالمقود، وتحوّلت بقوة الظروف إلى مدافعة عن كل ما كانت المؤسسات الأوروبية تخشى تدميره على يدها. لكن بعد هذه الأشهر الثلاثة التي انقضت على مجيئها، وبلوغها نهاية خريطة الطريق التي كان قد وضعها دراغي، تجد ميلوني نفسها مضطرة لتحديد مسارها الخاص، الذي ما زال إلى اليوم لغزاً بالنسبة للمراقبين، كما بالنسبة للحلفاء الذين تعرف جيداً أنهم يتربصون لها قبل الخصوم.
أبرز ما قامت به حكومة ميلوني خلال هذه الفترة، كان الموافقة على قانون الموازنة العامة، التي كانت الحكومة السابقة قد وضعت إطارها العام وخطوطها العريضة. أما التعديلات القليلة التي أُجريت على تلك الموازنة، فقد اضطرت ميلوني إلى التراجع عن معظمها بضغط من حلفائها وليس من المعارضة.
يعترف مسؤولون في المفوضية الأوروبية بأن معظم الخطوات التي قامت بها ميلوني حتى الآن تندرج في الخط الذي كان يسير عليه سلفها، لا بل إن بعضها لم يكن متوقعاً من حكومة كانت رئيستها قد وضعت المؤسسات الأوروبية في مرمى سهامها طوال سنوات، وتضمّ حزب الرابطة الذي كان زعيمه ينادي بالخروج من منطقة اليورو، وما زال لا يوفّر مناسبة من غير أن يطالب بإعادة النظر في الأسس التنظيمية وآليات اتخاذ القرار في الاتحاد الأوروبي.
ولم يعد مستبعداً، في رأي البعض، أن توافق حكومة ميلوني قريباً على اقتراح «الآلية الأوروبية للاستقرار»، التي كانت تعترض عليها بشدة باعتبارها تخدم مصالح بعض الدول، مثل ألمانيا وهولندا، على حساب دول أخرى تواجه صعوبات مالية مثل إيطاليا.
الأزمة الخارجية الوحيدة التي واجهت حكومة ميلوني خلال هذه الفترة كانت مع فرنسا؛ بسبب الخلاف على استقبال المهاجرين غير الشرعيين، الذين تنقذهم سفن الإغاثة أمام السواحل الإيطالية، والتي كانت في الواقع نتيجة عثرة دبلوماسية نشأت عن قلة في الخبرة، حاول حليفها في الحكومة ماتّيو سالفيني أن يستغلّها للمزايدة في موضوع كان قد بنى عليه شعبيته في الماضي، لكنه اصطدم بردة فعل قاسية من فرنسا أدّت إلى توتر شديد في العلاقات بين البلدين، ما زال يرخي بثقله عليها إلى اليوم.
أما بالنسبة للحرب الدائرة في أوكرانيا، وعلى الرغم من المواقف المعروفة لحليفيها في الحكومة، حيث يعارض سالفيني مواصلة إرسال المساعدات العسكرية إلى كييف، بينما يدعو برلوسكوني إلى الحوار مع بوتين وإقناع زيلينسكي بالإصغاء إلى مطالب الرئيس الروسي، فإن ميلوني قد حافظت على تماسك موقف حكومتها بجانب الحلفاء الغربيين الداعمين لأوكرانيا.
ومن المقرر أن تقوم بزيارة إلى كييف في الأيام المقبلة قبل ذكرى مرور سنة على بداية الحرب. ويرجّح أن تكون زيارتها عن طريق وارسو للاجتماع مع رئيس الوزراء البولندي، حليفها وشريكها في مجموعة المحافظين الأوروبيين التي ترأسها.
وفي حال تمّ هذا اللقاء، سيكون الخطوة الوحيدة التي تقوم بها باتجاه مجموعة «فيسغراد» التي تضمّ سلوفاكيا والمجر وبولندا والجمهورية التشيكية، وتشكّل جبهة معارضة للخط العام داخل الاتحاد الأوروبي. وتحاشت ميلوني، بعناية فائقة حتى الآن، أي صدام مع بروكسل، بما في ذلك حول ملف الهجرة، حيث اختارت موقفاً وسطيّاً يخرج عن سياسة الحكومة السابقة، بمقدار لا يفتح مواجهة مع الشركاء الأوروبيين، لكنه يكفي لتطمين القاعدة الشعبية وقطع طريق المزايدة أمام حزب الرابطة حليفها في الحكومة. فقد قررت الحكومة عدم إقفال الموانئ الإيطالية كما كانت ميلوني تقترح في الحملة الانتخابية، وفي المقابل ألزمت منظمات الإغاثة بإرسال سفنها إلى موانئ بعيدة عن المواقع التي تنقذ فيها المهاجرين، وهي خطوة لا تخالف القواعد الأوروبية ولا قانون البحار، لكنها تضفي صعوبة كبيرة على نشاط هذه المنظمات التي بدأ بعضها برفض تنفيذها.
لكن المتنفّس الكبير بالنسبة لحكومة ميلوني هو رصيدها في البرلمان، وحالة شبه الإغماء التي تمرّ فيها المعارضة، حيث تحاول القوى والأحزاب اليسارية، كعادتها منذ عقود، إعادة تأسيس تشكيلاتها، وحيث بدأت تظهر بوادر قيام حزب وسطي حول رئيس الوزراء وزعيم الحزب الديمقراطي الأسبق ماتّيو رنزي، وبعض المنشقين عن برلوسكوني وحركة «النجوم الخمس».
آخر الاستطلاعات يشير إلى تراجع طفيف في شعبية ميلوني، من دون أن يعني ذلك نهاية شهر العسل مع الناخبين الذين ما زالوا يدعمونها بقوة. لكن بعد التغيير الذي طرأ في موقفها من قضايا أساسية منذ وصولها إلى الحكومة، لا بد من مراقبة أدائها على ثلاث جبهات ليتبين مدى صمود شعبيتها: أولاً، وقف الاتجاه نحو الركود الاقتصادي، الذي بدأت تباشيره تظهر وتهدد باتساع دائرة النقمة الاجتماعية.
ثانياً، التماسك داخل الائتلاف الحكومي، فالحزب الذي ترأسه ميلوني استقطب عدداً كبيراً من ناخبي «الرابطة» و«فرزا إيطاليا»، وبالتالي فإن المنافسة بين الأحزاب الثلاثة في الائتلاف على أشدّها، بحيث إنه بقدر ما تنمو شعبية ميلوني تتراجع شعبية الحليفين ويزداد التوتر داخل الائتلاف الحاكم، وتزداد مع ذلك شهية الحلفاء على المعارضة من الداخل.
ثالثاً، الأداء في استخدام الأرصدة الضخمة المخصصة لإيطاليا من صندوق الإنعاش الأوروبي، التي تشكّل فرصة تاريخية فريدة لإجراء الإصلاحات المنتظرة منذ عقود، التي تتعثّر دائماً في مسالك السياسة الإيطالية المضطربة.
قد يهمك أيضــــــــــــــــًا :
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر