صوت متهدج يختلط ببكاء صامت، تحكي صاحبة الوجه الذي غابت ملامحه "راضية" (اسم مستعار) قصتها مع الرقاة قائلة: "قصدت راقيًا معروفًا ذائع الصيت على وسائل التواصل الاجتماعي، يتابعه العديد من الأشخاص على الفضاء الأزرق".
وأضافت :"بمجرد دخولي الغرفة التي يخصصها للرقي، تناهت إلى مسمعي آيات قرآنية تضفي على المكان مسحة من وقارٍ لا منتهٍ، وهو الشيء الذي جعلني لا أرتاب في الراقي، خاصة وأنه بدا ودودًا ومتزنا". تردف بالقول راضية، وهي سيدة متزوجة في الـعقد الرابع من العمر، غير أنها لم تكن تدر أن ذهابها إلى الراقي، سيتحول إلى ندم ومعاناة يومية، وهكذا فطنت لاحقًا إلى أنه استغلها جنسيا، موثقًا ذلك بشريط فيديو، والأنكى من ذلك، أنه قام بتهديدها في حال كشفت أمره.
أما كريمة، فتروي بخجل وبوجه تشنجت ملامحه لشدة الألم: "تعرضت للابتزاز من طرف راقٍ مشهور هو الآخر على "فيسبوك"، قال "أنني مسحورة، والحل هو إرسال صورة لجسدي عارية قبل الحصة الشرعية". فبعدها تمت حصة الرقية معه، "بدأ يهددني بإرسال الصور إلى أقاربي وعائلتي، إن لم أدفع مزيدًا من الأموال".
انتشار "الرقية الشرعية" في المجتمع المغربي
لا يكاد يخلو حي من أحياء المدن المغربية من محلات و"عيادات" خاصة بالرقية الشرعية. ومن اللافت للانتباه أيضا، استغلال الرقاة للتكنولوجيات الحديثة للترويج لما يقومون به من معالجة الوساوس، إبطال السحر، العين والمس من الجن وغيرها.
وعن أسباب توسع رقعة انتشار "الرقية الشرعية" في المجتمع المغربي، يقول الباحث في علم الاجتماع الدكتور علي الشعباني: "المُستغل دائمًا ما يبحث عن مواطن الضعف في ضحيته، لذلك تجد هؤلاء الأشخاص يركبون على نقائص الجهل والأمية لدى النساء، وعلى تقاليد الموروث الثقافي"، ومضى إلى القول إنهم "يعملون على الضرب على وتيرة الإيمان المرتبطة بالدين "إيمان العجائز" (وهو إيمان يرتبط بعدم المناقشة والحوار)، وبالتالي فهم يستفيدون من هذا الجهل إلى أقصى الحدود، حين يزيدون من إيهام النساء بشتى الخرافات التي لا تكاد تخطر على بال أحدٍ"، وأضاف "لذلك بين الفينة والأخرى، نسمع ونقرأ حكايات لنساء ضحايا ما يُسمى بـ "الرقاة الشرعيين، اللواتي تم استغلالهنّ جنسيا أو ماديا أو معنويا".
أما لحسن السكنفل، رئيس المجلس العلمي لمدينة تمارة، (مجلس علماء ترعاه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية)، فيرى من جهته أن "الرقية الشرعية موجودة، لكن ليس كل شخص مؤهل لهذا الأمر. فالراقي أن يكون شخصا ورعا، بعيدًا كل البعد عن الشبهات، وما نسمع عنه من اعتداءات جنسية على نساء، هو أمر يدخل في إطار الدجل والشعوذة باسم الرقية الشرعية". ولتوخي الحذر والحيطة من مثل هذه الممارسات، ويضيف :"يمكن للإنسان أن يرقي نفسه بنفسه، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم".
تصورات خاطئة ومتاجرة بالأعراض تحت رداء الدين
"تحت ضغط ما يسمى بالتسليم (باللغة الدارجة المغربية) (وتعني من الناحية النفسية أي أنه الاقتناع بخرق قوة هذا الدجال التي تصل بالمرأة إلى أن تسلم حتى جسدها)، وبما أن "الدجال" يدّعي التدين، (وهو يمارس الدين كوسيلة للاحتراف من قبيل تقمص الشخصية على مستوى الخطاب والكلام واللحية)، فإنّ المرأة "الضحية" كما يؤكد محسن بن زاكور، أستاذ علم النفس الاجتماعي، تقتنع بقدرته في علاج ما تعاني منه، حيث يشير إلى أن "كل الفئات الاجتماعية في المغرب على اختلافها، عرضة لتأثير الخرافة".
وأضاف :"فمشاكل الأمراض العقلية في المغرب متعددة، وأساسها المفهوم الخاطئ لمسألة قصد المريض للطبيب النفسي، فكثير من الناس ما زالوا يعتقدون أن الأمراض العقلية تصدر عن مس من الجن أو السحر أو الشيطان، وهذه كلها معتقدات تجعل المغرب يحتل أدنى الدرجات من حيث التصنيف العالمي بالنسبة إلى الوعي الصحي".
في هذا الصدد يوضح مصطفى أوسرار، باحث في علم النفس، ويقول: "يلجأ المرضى المصابون باضطراباتٍ نفسية مختلفة كالفصام والهستيريا وما يشابهها، إلى اعتماد مجموعة من الطرق التقليدية طلبًا للعلاج، تشكل الرقية الشرعية أبرزها، وذلك راجع بالأساس إلى مجموع التمثلات الاجتماعية التي تأصلت لديهم حول المرض النفسي"، كما أنهم "يعتقدون في الجن، لأنه ذكر في القرآن، لذلك يصعب إقناعهم بأن اضطرابهم هو مرض نفسي"، ويعزو ذلك، إلى اعتقاد المرضى "بأنّ سلطة الراقي أعلى من سلطة الطبيب، إذ أن الراقي يستأثر بميزة قربه من الله، الشيء الذي يساهم في إنجاح عملية العلاج، كما أن هذا الراقي يتوفر على حلول خارقة لا يتوفر عليها المعالج النفسي".
لا قانون ينظم عمل "الرقاة"
يتساءل محسن بن زاكور، أستاذ علم النفس الاجتماعي قائلًا: "لماذا لا تُحارب السلطات هؤلاء الذين يفتحون "محلات" للرقية الشرعية؟ لماذا يتم السكوت عنهم، وهم يمارسون أعمالًا خارجة عن القانون، ولا يتم متابعتهم في أغلب الأحوال، إلا في حالة تعرض سيدة تزورهم للاغتصاب؟" ليختم حديثه بطرحه لسؤال مفتوح.. "هل تهون المرأة المغربية على الدولة إلى هذه الدرجة؟"
من جانب آخر، يرى فؤاد الشمالي، راقي مغربي وعضو تنسيقية "رقاة المغرب" قائلا، "العديد من مقاطع الفيديو المنشورة على "اليوتيوب"، لرقاة تحرشوا بالنساء هي مفبركة، فبعد البحث نجد أنهن ممثلات دفعت لهن أموال من أجل تلطيخ سمعة بعض الرقاة، وليست هناك أي إجراءات تتخذها التنسيقية للحد من "تجاوزات استغلال "الرقية الشرعية".
وجوابا على سؤال الشروط القانونية لمزاولة عملهم وكيفية تعامل السلطات معهم، أردف الراقي الشمالي بالقول : "ليس هناك قانون خاص بالرقاة، وليس هناك أي ترخيص أو منع، فالرقية كالحجامة والكي بالنار تعتبر علاجا شعبيا"، مضيفا "الدولة تقول لنا خدم على راسك ومتجيبش لينا الصداع" وتعني (زاول عملك بدون مشاكل)، والدستور المغربي هو الذي يحمينا".
كما استنكر الشمالي، كل "الأفعال المشينة التي ترمي إلى تشويه مجال الرقية وأهلها وتعطي صورة مغايرة وخاطئة عن المعالج بالقرآن وانطباعا سيئا لدى المجتمع والتي لا نقبل استمرارها والسكوت عنها، ومن بينها: ممارسة السحر والشعوذة تحت غطاء وبدعوى الرقية الشرعية والعلاج بالقرآن، ارتكاب المحظورات الشرعية في التواصل مع النساء، وتصوير الناس دون إذنهم وابتزازهم بها".
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر