برلين - وكالات
كان قطاع صناعة السيارات البريطانية يوما ما واحدا من أشد منافسي المصنعين الألمان، ولكنه أصبح الآن واحدا من أهم الممتلكات الالمانية. كيف تمكن الألمان من التفوق على البريطانيين؟ دومينيك ساندفورد، الكاتب المختص في شؤون صناعة السيارات، يلقي نظرة على انهيار صناعة السيارات في بريطانيا.قبل أربعين عاما، كان أكبر مصنعي السيارات في ألمانيا يضع اللمسات النهائية لمنتج قدر له أن يغير وجه صناعة السيارات الألمانية الى الأبد.كان ذلك المنتج هو سيارة فولكسفاجن جولف، التي أصبحت واحدة من اكثر السيارات مبيعا في التاريخ.سجلت الجولف ظهورها الأول في عام 1974، أي في العام نفسه الذي فازت فيه ألمانيا بكأس العالم لكرة القدم في ميونيخ.ومنذ ذلك الحين، أصبحت الغولف عنوانا للنجاح التجاري. ففي العام الماضي، باعت فولكس فاجن 430 الف سيارة جولف في أوروبا، متفوقة على أقرب منافساتها بـ 125 الف سيارة.ودشنت فولكس فاجن هذه السنة الجيل السابع من الجولف التي أصبحت مألوفة الى درجة بحيث أن لم تكن لك واحدة منها فجارك لابد أن يمتلك واحدة.قصة نجاح الجولف أصبحت مألوفة، فنجاح الصناعات الألمانية قد اكتسب شهرة لا تضاهى ولذا تتمتع ألمانيا بنفوذ اقتصادي وسياسي في القرن الحادي والعشرين أقوى مما تمتعت به في تاريخها.وإذا كنتم تريدون أن تعرفوا السبب وراء النفوذ الكبير الذي تتمتع به المستشارة انجيلا ميركل في أوروبا، ما عليكم إلا النظر إلى مصانع السيارات في بلادها.مقارنة بذلك النجاح، تبدو صناعة السيارات البريطانية هزيلة ولا تمت بصلة لماضيها المجيد. فبالرغم من أن بريطانيا ما زالت تنتج مليون ونصف المليون سيارة سنويا، فإن معظم هذه السيارات تنتج لمصالح شركات أجنبية.فمصنع كاولي الشهير - الذي ينتج سيارات ميني - يحتفل هذه السنة بذكرى تأسيسه المئوية إذ افتتح في عام 1913 على يد رجل الاعمال وليم موريس لإنتاج سيارات موريس أكسفورد التي اكتسبت فيما بعد شهرة أسطورية.ما زال مصنع كاولي ينتج السيارات، ولكن لحساب شركة بي ام دبليو الألمانية.القصة نفسها تتكرر في مدينة كرو، حيث تنتج سيارات بنتلي الفاخرة - لحساب شركة فولكس فاجن.كان واقع الحال هذا عصيا عن التصديق قبل خمسين سنة - ناهيك عن الفترة التي كان فيها نشاط موريس في أوجه - ولكن الحقيقة المرة هي أن مصنعي السيارات البريطانية لا يستطيعون ان يلوموا إلا انفسهم عن الوضع المزري الذي آلوا إليه.فقبل سبعين عاما في نهاية الحرب العالمية الثانية كانت ألمانيا بلدا منهارا ومصانعها مدمرة.وفي أغسطس 1945، أوفد الجيش البريطاني ضابطا اسمه إيفان هيرست إلى المانيا وكلفه بإدارة مصنع فولكس فاجن العملاق في مدينة فولفسبورج الذي كان قد شيده النازيون لإنتاج ''سيارة الشعب'' – الفولكس فاجن الخنفسة.ورغم شكوك رؤسائه في إمكانية إعادة المصنع للإنتاج ثانية، كان هيرست يتمتع بنظرة ثاقبة مكنته من استشراف المستقبل الباهر للمصنع.
علم هيرست أن إعادة تأهيل فولكس فاجن يمكن أن تكون خطوة على طريق إعادة تأهيل ألمانيا وجعلها بلدا ثريا ومسالما وحليفا لبريطانيا. وبالطبع، كان حدسه في مكانه وفي السنوات القليلة التالية، تمكن هيرست من إعادة تشغيل المصنع الذي بدأ بإنتاج الخنفسة الشهيرة. ومنذ ذلك الحين، سارت فولكس فاجن من نصر إلى نصر.بحلول أواخر خمسينيات القرن الماضي، كان الإنتاج الصناعي الألماني قد سجل ارتفاعا ملحوظا رافقه انخفاض في معدل البطالة. كانت ألمانيا تشهد معجزتها الاقتصادية واختفت ذكريات الحقبة النازية. وبدأ الألمان ينظرون إلى بلدهم كبلد صناعي متطور يستشرف المستقبل بثقة.في تلك الفترة، كانت بريطانيا تسير في الاتجاه المعاكس. فبعد عقود قضتها باجترار أمجاد ''المجتمع الموسر'' الذي حققته بفضل كونها واحدة من أعظم البلدان الصناعية في العالم، كانت بريطانيا - وصناعة السيارات فيها على وجه الخصوص - تتدهور بشكل ملموس.فالشخصيات التي كانت تدير الشركات المنتجة للسيارات - مثل وليم موريس، الذي أصبح مديرا لشركة BMC التي تشكلت من دمج عدد من الشركات وهو في الرابعة والسبعين من عمره - كان يغلب عليها طابع الكهولة والأوتوقراطية.وبدل أن يتبنى هؤلاء التقنيات العصرية ويستهدفون السوق الأوروبية المتسعة باضطراد، آثروا الهرب من المنافسة مع المنتجين الأوروبيين مفضلين بيع منتجاتهم الرخيصة لمستعمرات بريطانيا السابقة.حتى أشهر السيارات البريطانية على الإطلاق - الميني، التي ظهرت للمرة الأولى عام 1959 - كانت انعكاسا لتدهور بريطانيا الصناعي والاستعماري.ولدت الميني من رحم حرب السويس عام 1956، التي أدت إلى ارتفاع كبير في أسعار الوقود. لذا قررت BMC إنتاج سيارة صغيرة الحجم واقتصادية في استهلاك البنزين.ورغم النجاح الذي حققته الميني في الأسواق، فإن الحقيقة المرة أن BMC كانت تخسر 30 جنيها مع كل سيارة تبيعها.لذا أصبحت الميني رمزا لكل ما هو متعفن في قلب الاقتصاد البريطاني. كانت رغم براعة تصميمها مرآة لصناعة تشلها قيادات يعوزها الطموح وضعف مريع في القدرة على تحريك المبيعات وثقافة يشوبها الاهمال.في غضون ذلك، كانت صناعة السيارات في ألمانيا تزداد قوة وعنفوانا، ولم تشهد الصراعات التي كانت تشهدها الصناعة البريطانية بين نقابات العمال وأرباب العمل بل كانت العلاقات بين الطرفين بناءة وحميمة.ففي ألمانيا، كانت النقابات والإدارات تتعاون بشكل وثيق من أجل المصلحة المشتركة. وكان القانون الألماني ينص على تشكيل مجالس عمل يعمل فيها ممثلون عن النقابات وأرباب العمل ''بروح من الثقة المتبادلة.''أما في بريطانيا، فقد أضحت مصانع السيارات في الستينيات والسبعينيات ساحات حرب يخوض فيها النقابيون الناشطون حربا طبقية مكشوفة مع ممثلي الإدارات وأرباب العمل الكسالى.ولعل حقيقة واحدة تؤطر الفرق بين ألمانيا وبريطانيا في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية: ففي عام 1978، كانت بريطانيا تخسر عشرة أيام عمل لكل يوم عمل تخسره ألمانيا نتيجة الاضرابات العمالية.وعندما تسلمت مارجريت تاتشر مقاليد الحكم في السنة التالية، كانت صناعة السيارات البريطانية قد خسرت المعركة فعلا. فالبريطانيون كانوا يبتعدون عن السيارات البريطانية ويبتاعون بدلا منها السيارات الألمانية مثل المرسيدس والبورش والأودي والبي ام دبليو التي اتقنت كيفية منح منتجاتها صبغة التفوق.وفي عام 1994، اشترت بي ام دبليو آخر شركة بريطانية تنتج السيارات بأعداد كبيرة.في تلك الفترة، أصبحت السيارات مجازا للنهضة الصناعية الألمانية المذهلة - ومجازا أيضا لانهيار القطاع الصناعي في بريطانيا.أما اليوم، فنستطيع أن نرى نتائج ذلك بوضوح وفي كل مكان. فبفضل نجاح قطاعها الصناعي، أصبحت ألمانيا أكبر اقتصاد في أوروبا ورابع أكبر اقتصاد في العالم وثاني أكبر بلد مصدر في العالم.لا غرو إذا أنه في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا تعاني عجز في ميزانيتها يبلغ 120 مليار جنيه استرليني كان لدى ألمانيا فائضا في ميزانيتها.ولا غرو أيضا ان يكون الألمان هم الذين يقودون باقي الأوروبيين في التعامل مع أزمة اليورو.من وجهة النظر البريطانية، تمثلت المأساة في الحقيقة القائلة إن البلاد كانت تزخر دائما بالمهارات ولكنها كانت تفتقر للإدارة الجيدة والنقابات المتعاونة والأولويات الصحيحة وأخلاقيات العمل الرصينة. وفي نهاية المطاف، اضطر البريطانيون إلى دفع ثمن باهظ لهذه الاخفاقات.
ولكن هناك جانبا مضيئا بالنسبة للمأساة البريطانية. فالبلاد ما زالت تنتج أكثر من مليون سيارة سنويا، مما يوفر فرص عمل لآلاف العمال البريطانيين. وتمكن قطاع صناعة السيارات في بريطانيا من مواصلة النمو حتى خلال أزمة اليورو، بينما سجل إنتاج السيارات في المانيا انخفاضا طفيفا في العام الماضي.ولكننا لا نستطيع التهرب من مواجهة الحقيقة القائلة إن الألمان ما زالوا ينتجون من السيارات أربعة أضعاف ما ينتجه البريطانيون. وأين تنتهي الأرباح التي يجنيها البريطانيون من بيع سيارات الميني والبنتلي التي يفتخرون بها؟ في جيوب المصنعين الألمان طبعا.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر